عقب اتفاقية السلام المُوقعة بين مصر وإسرائيل عام 1978 أعلن جيمي كارتر الرئيس الأمريكي عن المعونة. المعونة الأمريكية مبلغ ثابت تتلقاه مصر منذ ذلك الحين ينقسم إلى جانب اقتصادي وآخر عسكري لكلٍ من مصر وإسرائيل. عام 1982 تحولت تلك المعونات إلى مِنح لا تُرد. تبلغ المنحة لإسرائيل 3 مليارات دولار، أما مصر فـ 2.1 مليار دولار. تنقسم المعونة المصرية إلى 815 مليون دولار كمعونة اقتصادية، و1.3 مليار دولار كمعونة عسكرية. المعونة الأمريكية تمثل 57% من إجمالي المنح التي تحصل عليها مصر. لكن إجمالًا فإن مبلغ المعونة لا يتجاوز 2% من إجمالي الدخل القومي المصري.

مصر ليست وحدها التي تتلقى تلك المعونات، كما أنها ليست الدولة صاحبة المعونة الأكبر. إذا رتبنا الدولة من الأكبر حصولًا للمعونات إلى الأقل، فسنجد أن أكبر الدول المُتلقية للمعونة هو العراق. حصل العراق وحده على ما يُقارب 6 مليارات دولار. لكن عام 2001 في فترة حكم صدّام حسين كانت المعونات الأمريكية لا تتجاوز 180 ألف دولار سنويًا. لكنّها قفزت عام 2006 إلى 9.7 مليار دولار، لتكون الأكبر في تاريخ العراق والدول العربية. بعد العراق تأتي مصر ثم الأردن. إذ يحصل على 1.3 مليار دولار. أما سوريا فكانت تحصل قبل ثورتها على 900 مليون دولار، لكن بعد بدء الحرب والتدخل الأمريكي صارت المعونة في اضطراد مستمر.

أما السلطة الفلسطينية، فمنحنى حصولها على المعونات شديد الاضطراب. عام 2006 حصلت على 85 مليون دولار،لكن عام 2013 حصلت على مليار دولار. لبنان هو الآخر يتلقى ما يُقارب 500 مليون دولار. أما اليمن، فيحصل على قرابة 300 مليون دولار معظمها في صورة مساعدات إنسانية. ثم الصومال والسودان وتونس والمغرب وليبيا. الجزائر وموريتانيا والبحرين أيضًا يتلقون مساعدات أمريكية.

الخليح ليس بعيدًا عن المعونة لكن أرقامها تقل تدريجيًا. في عام 2007 حصلت الإمارات على مبلغ 11 مليونًا. أما السعودية، فحصلت على ما يُقارب 700 ألف دولار فحسب. السعودية والإمارات لم يحصلا في السنوات الأخيرة على معونات أمريكية. بل شاهدنا أنهما من تدفعان للإدارة الأمريكية ملايين الدولارات مؤخرًا تحت العديد من المُسميّات. الكويت هي الدولة قبل الأخيرة في القائمة. إذ لم تحصل لمدة 3 سنوات على أي معونة من عام 2001 إلى 2004. ثم من عام 2011 إلى 2014 لم تحصل على أي معونة. وفي السنوات الأخرى تحصل على ما يتجاوز المليون دولار برقم بسيط.

الدولة الأخيرة هي قطر، فلم تحصل في عام 2016 إلا على 95 ألف دولار. وأكثر أعوامها كان في 2004 بـ 4 ملايين دولار. لكن منذ 2013 والمعونة الأمريكية في تناقص مستمر حتى توقفت تمامًا عامي 2013 و2014. ثم عادت في 2016 برقمٍ زهيد، ثم توقفت مرة أخرى خاصةً بعد القطيعة الخليجية.

اشترِ العالم بـ 1%

فيديو يوضح إنجازات مشروع المساعدات الأمريكية على مدار 10 سنوات

قد تبدو الأرقام السابقة مهولة، خاصةً وقد ذكرنا 20 دولة عربية. لكن قد تظنها أضخم إذا كانت الولايات المتحدة تمنح أموالها لما يزيد على 100 دولة حول العالم. الحقيقة أن تلك المبالغ المتناثرة لا تتجاوز 1% فقط من الموازنة الأمريكية. بهذا الرقم الصغير تستطيع الولايات المتحدة أن تأسر دولًا بأكملها. كما تستطيع عبر المعونة أن تفتح أسواق الدولة النامية لمنتجاتها. أيضًا تُكرّس تبعية الدولة لها بصورة أشد إهانةً من مجرد وجود قاعدة عسكرية في البلد المستهدف. إذ يمكنها عبر المعونات أن تتدخل في شئون الدول وتُغيّر بناء المجتمع بالكامل.

فمنذ ظهرت الولايات المتحدة كقوة عظمى بعد الحرب العالمية الثانية، والمعونات الخارجية على رأس أولوياتها. المعونات مُدرجة في الميزانية الأمريكية تحت بند حفظ الأمن القومي. بما أن الولايات المتحدة هي أستاذ العالم الحديث، فإن حدود أمنها القومي تمتد لتشمل العالم أجمع. تطورت تلك الوصاية الأمريكية مع تطور الظروف الدولية. إبان الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفيتي، كانت الولايات المتحدة تقدم معوناتها بشكل مباشر وعلى هيئة قروض منها لدولة أخرى. لكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وزوال تهديد العلم الأحمر، اتخذت الولايات المتحدة شكلًا آخر في تقديم المعونات.

المعونة عبر الأطراف المتعددة دون أن تظهر الولايات المتحدة بوضوح. حتى لا يبدو الأمر تدخلًا سافرًا منها في شئون الدول المُتلقية للمعونات. من تلك الأشكال الجديدة كان صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. فأصبحت الدول الراغبة في دعم الصندوق أو البنك مضطرةً لقبول سياسات صارمة ومُحددة في شأنها الداخلي والخارجي. هذه الإملاءات يُمكن ردها في النهاية إلى الولايات المتحدة، إذ إنها المسيطرة على تلك الهيئات. سواء كان سيطرتها بأنها المُمول الأساسي لها، أو بقوتها التصويتية فيها.

هذه الطريقة دفعت الاقتصادي الأمريكي ستيوارت سميث لصياغة مصطلح الدولار السياسي. فقد وجه انتقاداتٍ قاسية للسياسة الأمريكية المتعلقة بالمعونات. قائلًا إنها لون من ألوان السيطرة الحديثة على الدول من أجل تحقيق الأهداف الأمريكية. فالدولار لا يُغير جنسيته حين يدخل الدولة الجديدة، بل يُغيّر جنسية الدولة بالكامل. كما أن تتبع الدول التي تذهب إليها المعونات الأمريكية نجدها دولاً متعاونة إلى أقصى حد مع الولايات المتحدة سياسيًا وعسكريًا.

المُلفت أن المعونة الأمريكية تستمر في التدفق للدول المُتلقية حتى في أشد أوقات نقص الميزانية الفيدرالية. كما تسود حالة من السخط بين المواطنين الأمريكيين المطالبين بضرورة التوقف عن إهدار أموالهم على الآخرين. مواطن من بين كل خمسة تقريبًا لا يوافق على إرسال هذه المعونات. لكن رغم نقص الميزانية والرفض الشعبي تستمر الحكومة في إقرار المعونات وإرسالها. مما يؤكد أن الأموال الأمريكية المتدفقة لدول العالم ليس معونةً كما تسميها الولايات المتحدة لكنّها ثمن بخس لمصلحة أعظم تراها الحكومة الفيدرالية ولا يدركها المواطن العادي.

المعونة ورقة ضغط

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يهدد بقطع المعونة عن الدول التي ستصوته ضد الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل

المساعدات الأمريكية للعالم العربي لم تعرف ثباتًا دائمًا. كانت هي الوجه الآخر للتوتر والصدام المتفاوت بين العرب والولايات المتحدة. التوتر سببه أنّ العالم العربي ذاته لا يملك إجماعًا سياسيًا حول موقفه من الولايات المتحدة ولا من أهدافها في المنطقة. كذلك كان الأمر بالنسبة للعديد من الدول الغربية المُتلقية للمعونة. مما يثير التساؤل حول هدف أمريكي مخفي من تلك المساعدات.

هل تكتفي الولايات المتحدة بكونها مقابل مادي زهيد لضمان التبعية السياسية والولاء العسكري وحرية التحرك ثقافيًا وعسكريًا في الدول التابعة. أم أنها تستخدمها كورقة ضغط لدفع الدول بشكل فج نحو ما تريده الولايات المتحدة؟

الدول العربية كالغربية في هذا الصدد. في يناير/ كانون الثاني 2015 هدّد السيناتور الأمريكي ليندسي جراهام بقطع المعونات عن الفلسطينين. التهديد جاء بعد انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية، فحذرهم جراهام بقطع المساعدات إذا قدموا شكوى ضد إسرائيل في المحكمة الدولية. وهو ما قاله أوباما ضمنيًا حين نوّه بأنه لا يعتقد أن فلسطين ليست دولة ذات سيادة، فبالتالي ليست مؤهلةً لعضوية المحكمة الدولية.

اقرأ أيضًا: المعونة العسكرية الأمريكية: من 1979 إلى 2015

في ديسمبر/ كانون الأول 2017 وجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تحذيرًا شديد اللهجة للدول المُتلقية للمعونة. التهديد جاء قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة التي سيتم فيها التصويت على قراره بشأن نقل السفارة الأمريكية للقدس مما يعني الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل. قالها الرئيس الأمريكي مباشرةً إن تلك الدول تتلقى ملايين ومليارات الدولارات ثم يصوتون ضد القرار الأمريكي! وأردف أنّه سيراقب هذا التصويت وسيوفر كثيرًا من الأموال بقطع المعونة عمن يصوت ضده دون أن يعبأ ترامب بهذا.

رضخت بعض الدول للتهديد ورفضت أخرى. فالعديد من الدول العربية أدانت مشروع القرار في الأمم المتحدة، وتصريحاتهم تمركزت أن المعونة أكبر من شخص الرئيس وأنه لا يستطيع قطعها. أي أن الدول لم ترفض تهديدها بقطع بالمعونة، بل قبلته وقالت إنه ليس جديًا. فماذا لو كان جديًا، أو كان صاحب التهديد رئيسًا قويًّا مثل السابق باراك أوباما.

ليست الأولى أو الأخيرة

لكن دولًا أخرى خشيت قطع المعونة على رأسها أوكرانيا، فصوتت لصالح المشروع، رغم أنها لم تحضر الجلسة أصلًا. مما يقودنا للحادثة الأخيرة بالتي يخضع ترامب للتحقيق بشأنها. حادثة مزدوجة يهدد ترامب أوكرانيا بقطع المعونة ما لم تفتح تحقيقًا حول نجل منافسه الانتخابي جو بايدن. جو بايدن الذي هدد أوكرانيا بقطع المعونة سابقًا ما لم يُعيّن نجله في أكبر شركة أوكرانية.

اقرأ أيضًا: قرار بيلوسي: تحقيق بلا اتهام = ترامب رئيسًا لفترة ثانية.

إذن، التهديد بقطع المعونة ليس أمرًا طارئًا على السياسة الأمريكية. ويمكن استخدامه لفرض الوصاية على الدول ليس لتغيير سياساتها العامة فحسب، بل حتى لمجرد تحقيق مصلحة شخصية أو لتصفية حسابات. وهو ما أعلنه بعض الجنرالات الأمريكيين المتطرفين أثناء فترة حكم الرئيس المصري السابق محمد مرسي. فقد دعو لقطع المساعدات عن مصر ما دامت تحت قيادة حكومة تابعة لجماعة الإخوان المسلمين. ثم طالبوا بقطعها مرةً في الفترة التي تلت الإطاحة بمرسي حتى تتضح الأمور. ثم أعادها أوباما مرةً أخرى حين اطمأن لتناغم المصالح بين الإدارة الأمريكية والرئيس المصري الحالي عبدالفتاح السيسي.

الرهان العربي على صعوبة قطع المعونات له وجاهته. فالولايات المتحدة تعلم أنها إذا قطعت معونتها عن الدولة المُتلقية فسيضعف انتماؤها. كما أن الدول ستبحث عن مصدرٍ آخر للأموال. ومع صعود روسيا والصين ومنحهما القروض لمن يشاء، فلن تغامر الإدارة الأمريكية بفقدان حلفائها لصالح روسيا أو الصين. لكنها كذلك لا تتوقف عن التلويح بقطعها، ولا تتوقف دول العالم عن التراجع عن مواقفها أو اتخاذ مواقف رافضة علنًا وموالية سرًا. لكن المؤكد أن تلقي المعونة الأمريكية تحت أي مُسمى لا يمنح الدول استقلالًا.

ويجعل الولايات المتحدة هي سيدة القرار في أكثر من 100 دولة بشكل مباشر. صحيح أنها تجتهد كي لا يبدو الأمر فجًا، وتحاول الدول المُتلقية للمعونة ألا تظهر بمظهر المغلوب على أمره. لكن حين يضيق الخناق وينفد صبر الإدارة الأمريكية على الحياد، فإنها تتخلى عن الشياكة واللباقة الدبلوماسية وتفرض وصايةً فجة وتضع الدول في اختيارٍ واضح لا يحتمل التأويل: إما الموافقة العمياء على ما نقول أو قطع المعونة!