فكرة الخير والشر في التاريخ هي محض من الغباء.
ميشال كان

ونحن نضيف على هذه الجملة: «فكرة الخير والشر في التحليل الاقتصادي والاجتماعي هي محض من الغباء أيضًا».

المذهب «المانوي» (Manichaeism) هو تعبير يطلق على محاولة تبسيط العلاقات واختزال أطرافها إلى خير وشر. هذا المذهب الساذج منتشر للأسف في الحس العام للجماهير حين ترى العلاقات الاجتماعية وعلاقات الإنتاج الرأسمالية، وهو رؤية سائدة في الخيال الاجتماعي نجد تجسيدها بوضوح على السوشيال ميديا.

تجلت تلك الرؤية في تناول وفاة الحاج محمود العربي، وهي رؤية تمنع أي تحليل موضوعي للظواهر الاقتصادية-الاجتماعية، حيث يُستقبل النقد لموقع فرد ما في المكينة الاقتصادية، بوصفه نقدًا للشخص نفسه، مما ينهي أي حوار عقلاني في الاقتصاد والاجتماع.

لكن لا أحد -خصوصًا في الاقتصاد والعلوم الإنسانية- فوق النقد. لذلك سوف نحاول أن ننقد -ليس الشخص بالتأكيد- وإنما نموذج «الرأسمالي الأبوي» كظاهرة اقتصادية-اجتماعية.

«الرأسمالية الأبوية»: إعادة إحياء

إذا بحثنا قليلاً في تعريفات «الرأسمالية الأبوية»، سنجد أنها على اختلافها تتفق على أن نموذج «الرأسمالية الأبوية» يقوم على رؤية للعلاقات الاجتماعية في عالم العمل تجعل القواعد الأسرية تحكم العلاقات بين المديرين والعاملين.

صعد هذا النموذج للرأسمالية في أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فمثلاً في فرنسا، كان هناك عديد الشركات التي تطبق إدارة أبوية للشركة أو المصنع، مثل شركة «شنايدر» في شرق فرنسا وشركة «مونييه» إلى جانب شركات مختصة في التعدين. ونجد ذلك النموذج أيضًا في بلجيكا (مصنع «سولفاي») وألمانيا (شركة «كروب»).

كان ذلك النموذج للرأسمالية يعمل بأبوية أعمق وأكبر حتى من النموذج الذي نرى أن الحاج محمود العربي قد طبّقه. فبينما ركّز الأخير على الأعمال الخيرية، كان الرأسمالي الأبوي في أوروبا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين يعيش في مكان الإنتاج، ويحافظ على علاقات من النوع الأسري مع موظفيه الذين يجبرون على الالتزام بهذا النظام طواعية، أو على الأقل بطريقة شكلية. وكان الأمر يتخطى بكثير الأعمال الخيرية. فعلى سبيل المثال، كانت بعض الشركات الأوروبية التي تعمل وفق هذا النموذج توفّر تعليمًا وسكنًا ورعاية صحية لعمالها.

هنا علينا أن نعطي ملاحظة صغيرة. فكل من الرأسمالية الأبوية الأوروبية القديمة ونموذج الرأسمالية الأبوية «الخيرية» الحديثة بالشكل الذي عرفناه في حالة محمود العربي ينبعان من نفس الواقع، ألا وهو محاولة ملء فراغ دور الدولة الاجتماعي. فتوفير الرعاية الصحية والتعليم والسكن في أوروبا في القرن التاسع العشر وبداية القرن العشرين حدث -من ضمن الأسباب- للعب دور دولة الرفاهة التي ستأتي وتُخلق على أنقاض الحرب العالمية الثانية، أي بعد صعود واختفاء النموذج الرأسمالي الأبوي في أوروبا. أما الدور «الخيري» الأبوي الذي نراه من بعض الرأسماليين المصريين مثل محمود العربي، فهو نابع من انسحاب الدولة من دورها الاجتماعي منذ سبعينيات القرن الماضي. فكل التبرعات والأعمال الخيرية التي نراها الآن في مصر هي بالأساس موجودة بسبب انسحاب الدولة من دورها الاجتماعي في مصر وصعود النيوليبرالية.

وللنموذج الأبوي للرأسمالية الأوروبية أهداف كثيرة، من ضمنها تنظيم العمل لكي يصبح هناك تحكم كامل في العلاقات بين صاحب العمل والموظف. فكانت العلاقات بين الرأسمالي والعامل لا تقتصر على وقت العمل البسيط، بل تؤثر بشكل شمولي على حياة العامل بأكملها. فكان يتولى المدير سلطة وواجبات الأب فيما يتعلق بأطفال العاملين الذين يُلزَمون بعد ذلك باحترام القواعد التي يقررها صاحب العمل من جانب واحد. فكان الرأسمالي مسؤولاً عن رفاههم مقابل الاحترام والطاعة. لذلك، بعض المتأثرين بالنموذج الفوكوي (نسبة للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو) يرون الرأسمالية الأبوية مثالاً للهيمنة المطلقة، ويعتبرون هذا النموذج إستراتيجية مدروسة من أصحاب العمل بهدف مواءمة وتأديب القوى العاملة التي لم يتم دمجها اجتماعيًا بعد في النظام الصناعي القائم على انضباط المصنع، وهي القوى العاملة التي لا تزال تميل إلى المقاومة.

ومن الأكيد أن من بين الأهداف الأساسية للنموذج الأبوي للرأسمالية في شكلها الأوروبي القديم أو شكلها «الخيري» المصري الحديث، إرساء السلام الاجتماعي عبر محاولة إخفاء أي صراع داخل المجتمع، وأيضًا ترسيخ الوهم -حتى لو كانت النية حسنة ونبيلة- الذي يقول بإمكانية إنقاذ الفقراء عن طريق التبرع أو العمل الخيري.

في كل الأحوال، أولئك الذين آمنوا بالأسطورة الليبرالية الرأسمالية عن غياب الطبقات الاجتماعية أو غياب الصراع الاجتماعي والسياسي لطبقات متناقضة المصالح الاقتصادية سوف يستيقظون -بعد فوات الأوان- بصفعة أبوية كبيرة على وجوههم.

خدعة الرأسمالية الأبوية

من يصدق الوهم الليبرالي الرأسمالي الذي يؤكد غياب أي صراع اجتماعي-سياسي لطبقات متناقضة المصالح هو نفسه الذي يصدق أيضًا فكرة أن «الأعمال الخيرية» يمكن أن تكون حلًا لمشكلة الفقر، أو أن انتقاد موقع اجتماعي اقتصادي هو انتقاد للشخص نفسه.

لكن الجسد الاجتماعي في أساسه متصارع، وهناك صراع مصالح مختلفة بين طبقات المجتمع. وأهم تناقض وصراع في المجتمعات الرأسمالية هو الصراع بين العمل من ناحية ورأس المال من ناحية أخرى، حتى في البلاد التي تظهر شكليًا بوصفها تعيش في «سلام» مثل البلاد الإسكاندينافية. فحتى هناك، نجد إضرابات عمالية، أي صراع بين العمل ورأس المال، سواء كان هذا الصراع على ساعات العمل الإضافية أو الأجور أو الأجازات أو شروط وظروف العمل.

فبدون القوى العاملة، لا يوجد زيادة في رأس المال ولا يوجد تفاقم في الأرباح. ولكن إذا زادت الأرباح، لا بد من أن تعتصر القوى العاملة. فكما قال ماركس: «يستنزف رأس المال شيئين، العامل والطبيعة». وأبسط مثال على ذلك هو الإضراب. فعندما يتوقف العمال أو الموظفون عن العمل، تتوقف دورة رأس المال كلها. ويمكن إضافة مثال أخير، وهو أزمة كورونا. ففي مصر مثلاً، أصيب الرأسماليون المصريون بالذعر من توقف العمل وطالبوا بالعودة إليه سريعًا معترفين، ولو ضمنيًا، بأن العمل هو ما ينتج القيمة.

هذا فضلاً عن أن رأس المال في نفسه هو علاقة هيمنة اجتماعية. ففي آخر المطاف، الهيمنة هي في قلب وصميم علاقة رأس المال بالعمل. وفي آخر المطاف أيضًا، الرأسمالي هو الذي يمتلك وسائل الإنتاج والعامل هو الشخص بالتحديد المنزوع الملكية.

وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن هناك رأسماليين «كرماء» في العالم، وربما أكثر كرمًا حتى من الحاج محمود العربي. فمثلاً هناك رجل الأعمال الأمريكي الشاب، دان برايس، الذي قرّر في 2015 أن يرفع الحد الأدنى للراتب لموظفي شركته إلى 70 ألف دولار في السنة (وذلك في الولايات المتحدة، أكثر البلاد الرأسمالية شراسة) وخفض أجره من 1.1 مليون دولار إلى 70 ألف دولار كذلك. ولكن كما يقول ويؤكد المفكر الفرنسي فريديرك لوردون تعليقًا على هذا الخبر: «إذا انتظرنا معجزة فضيلة الرأسمالي لتحسين ظروف العمال، فلن نخرج من المأزق». ويستكمل لوردون قائلاً:

إن انتظار معجزة من الرأسمالي لتحسين ظروف العمال يثبت -بطريقة عكسية- أن العمال ما زالوا تحت هيمنة وسيطرة رجل الأعمال، وأن هذا هو قلب العلاقة بين رأس المال والعمل. وإذا حدثت مشاكل داخل الشركة أو أزمة اقتصادية حادة، سيتراجع الرأسمالي اللطيف الكريم عن “كرمه” وسوف يبثت مرة أخرى أنه السيد في الشركة. ففي آخر المطاف، وفي أكثر شركة لطفًا ومع ألطف رأسمالي ممكن، سوف يهدد هذا الأخير العامل بالبطالة وبالطرد إذا حدث كريه اقتصادي للشركة. فيمكننا أن نصدق قصصًا لطيفة عندما تكون الأمور بخير. ولكن يظهر الواقع كما هو، والحقيقة كما هي، في زمن الأزمات التي تُظهِر حقيقة علاقات الهيمنة.

إن أعمال محمود العربي الاقتصادية لا تخرج عن واقع أن العلاقة بين رأس المال والعمل علاقة هيمنة، كأي عمل رأسمالي في أي مكان في العالم. فقد اضطر عمال مصنع «توشيبا العربي» إلى الدخول في إضراب للمطالبة بحقوقهم، مثل تقدير نسبتهم من الأرباح، والبالغة طبقًا للقانون 10% (وبالنظر إلى مواقع التواصل الاجتماعي، رأينا كثيرًا من ردود الأفعال المستنكرة تقدير نسبة من الأرباح للعمال كأنها «شيوعية» على رغم أن هذا يحدث في كل البلاد الرأسمالية، وأكثر من ذلك، وأن تلك النسبة تمثل أرقامًا هزيلة من الأساس. ولا ينبغي أن ننسى أن العمال ليسوا فقط «شركاء» في الثروة، بل هم أساس الثروة). وقد سبق أن طالب العمال بحقوقهم تلك أكثر من مرة دون جدوى.

وكما قلنا قبل ذلك، الرأسمالي في الأخير هو المهيمن في علاقة العمل، وهو صاحب الملكية، وأمامه جيوش من الشغيلة منزوعي الملكية. فيمكنه بسهولة شديدة فصل أي عامل أو موظف إذا كانت الشركة في مشكلة اقتصادية، أو بسبب أن «الظروف لا تسمح» (الحجة المعتادة)، أو لأن الشركة تريد زيادة في الأرباح، أو بسبب النشاط النقابي.

وشركة «توشيبا العربي» ليست استثناء. فمثلاً، فصلت الشركة ممثل النقابة المستقلة لعمال «توشيبا العربي»، الأستاذ وائل العمريطى، بسبب نشاطه النقابي. أيضًا، فصلت إدارة مجموعة شركات «توشيبا العربي» الأستاذ وائل أبو الفتوح، مندوب النقابة المستقلة عن العاملين بمصنع قويسنا، في إطار حملتها المنظمة ضد النقابة.

نفس الممارسات الرأسمالية نراها في «توشيبا العربي» التي حاولت تجاهل حق عامل توفي بعد صعقة كهربائية وحاولت التهرب من اعتبارها إصابة عمل، مما أدى إلى تجمهر واعتصام أكثر من ألف عامل وعاملة احتجاجًا على ذلك.

في آخر المطاف، محمود العربي رأسمالي، و أي رأسمالي يبني ثروته على جهد عماله، فليس صدفة أو شيئًا مدهشًا أن يرفض مشاركة نسبة ١٠٪ القانونية من الأرباح مع العمال، أو أن يزيد ساعة عمل غير مدفوعة الأجر، أو أن يرفض دفع بدل مخاطر. هذه طبيعة هذا النظام، وإذا توقف الرأسمالي عن ذلك فسيهدم المنظومة نفسها.

العمل الخيري في المنظور الرأسمالي

الأعمال الخيرية لا تتعارض مع الرأسمالية. حتى أن بعض المفكرين يرون أن هذا الأمر جزء من المكنة النيوليبرالية (وهي بالأساس ذروة النظام الرأسمالي).

فمثلاً، يثبت الكاتب ميشيل برنار أن الأعمال الخيرية موجودة من الأساس في الأدبيات النيوليبرالية، وأنها تعتبر تلك الأعمال حلًا لمواجهة الفقر و«مشاكل السوق». ففي كتابه «اليوتوبيا النيوليبرالية» (ص73)، يقول برنار: «يريد نوزيك (روبير نوزيك، فيلسوف أمريكي من أهم المدافعين عن اختفاء الدولة وهيمنة السوق) بناء دولة لا تنتهك الحقوق الطبيعية، بما في ذلك الحق في الملكية… مسألة الفقر [بالنسبة له] تحل بالصدقة».

العمل الخيري محبب، ليس فقط بسبب الغطاء الديني لهذا الفعل الاقتصادي (فهناك رأسماليون ملحدون ليست لديهم فكرة الزكاة أو الصدقة الإسلامية)، ولكن أيضًا لأنه فعل تلقائي، يأتي من الشخص نفسه وليس هناك أي إجبار. فهو الذي يحدد متى، كيف وكم سيدفع في العمل الخيري؛ على عكس الضرائب. لهذا السبب (من ضمن أسباب دينية ونفسية أخرى)، الأعمال الخيرية محببة في النظام الرأسمالي ومن النيوليبراليين خصوصًا الذين يكرهون تدخل الدولة في الاقتصاد أكثر مما يكرهون الطاعون نفسه. فالضرائب -بالنسبة لهم- تعني الإكراه وتدخل الدولة في ملكية الآخر، وتعني غياب السوق وغياب «اليد الخفية»، وبداية «الشمولية» (أي تدخل في الاقتصاد بالنسبة للنيوليبراليين هو شمولية). فكثرة الأعمال الخيرية تظهر غياب الدولة والضرائب في آخر المطاف.

فبيل جيتس مثلاً، وهو من أثرى رجال العالم، له أعمال خيرية في جميع أنحاء العالم. هذا لا ينفي أنه رأسمالي بنى ثروته على عمل العمال الذين يعاملهم بطرق رأسمالية بحتة، من العمل الإضافي غير المدفوع الأجر إلى التخلي بشكل غير قانوني عن العقود المتفق عليها مع النقابة.

نفس الشيء مع جيف بيزوس، مالك شركة أمازون. فهو أيضًا يتبرع بملايين من الدولارات، ولكن هذا لا ينفي أن ظروف العمل في شركات أمازون في أوروبا مثلاً (التي تعرف قوانين حماية اجتماعية وعقود عمل أحسن بكثير من دول العالم الثالث) قاسية، لدرجة أن صحفيًا فرنسيًا كتب كتابًا عن تلك الظروف القاسية في فرنسا.

فعلينا ألا ننسى -كما قلنا من قبل- أن رأس المال هو (من ضمن أشياء كثيرة) علاقة هيمنة اجتماعية غير عادلة بين الرأسمالي والعامل/الموظف. فإذا ساعد الرأسمالي في «فتح بيت» (كما يقال) أو أي شيء من هذا الشكل، فهو مجرد حق من حقوق العامل البسيطة. الاحتفاء بهذا من قبل الجمهور أو الصحفيين لا يثبت إلا أن هناك خللًا في استيعاب الحقوق من الأساس.

يصل الأمر إلى أن صحيفة الأهرام (وجرائد مصرية أخرى) أرادت أن تمتدح المرحوم محمود العربي، فذكرت بين فضائله: «تشغيل الشباب في الشركات والمصانع ومستشفى العربي»، فنحن نسأل: هل كان يمكن أن تعمل بدون عمال؟ فالرأسمالية تحتاج إلى العمل كما تحتاج الحياة إلى مياه. فإذا الرأسمالي وظف شخصًا ما، فهو ليس «كرمًا منه» أو لأنه «يفعل خيرًا» أو لأنه «يفتح بيتًا»، ولكن بسبب احتياجه إلى هذا العامل. ولكن الرأسماليين وأعوانهم يحبون التأكيد أنهم ضروريون للغاية، وبدونهم سوف ينهار المجتمع.

فكما يقول المفكر الفرنسي بول نيزان:

البرجوازية التي تعمل من أجل نفسها فقط، وتستغل الناس لنفسها فقط… من الضروري لها أن تُؤمِن بأنها تعمل، وأنها تستغل من أجل الخير النهائي للبشرية. عليها أن تقنع الآخرين بعدالة مهمتها. وهي نفسها يجب أن تصدّق ذلك. فيجب أن يعتقد السيد ميشلان (مالك شركة تصنيع الإطارات المطاطية الشهيرة) بأنه لا يصنع الإطارات إلا لإعطاء العمل للعمال الذين سيموتون بدونه.