يتناول الكتاب رحلات المفكرين الغربيين في القرن العشرين إلى الاتحاد السوفيتي، والصين، وكوبا، وكيف أن هؤلاء الرحالة السياسيين كانوا قادرين في تلك الدول القمعية على إيجاد نموذج لـ”المجتمع الصالح”، الذي تمكنوا فيه من استثمار أكثر آمالهم إشراقا. يوثق هولاندر عبر تفصيل دقيق ومخزي كيف أن ذلك الحافز الأفلاطوني، مدفوعا بسخط عميق تجاه مجتمعاتهم، قادهم إلى إنكار العيوب الأخلاقية التي لا تعد ولا تحصى أو إيجاد أعذار لها.

ولكن أهمية الكتاب تمتد لتتجاوز موضوعه المباشر، فقد تساعد أفكاره في إنارة عقلية مجموعة المرتحلين الأخيرة والأكثر إثارة للقلق: تحديدا، المهاجرين الغربيين إلى تنظيم الدولة الإسلامية، الذين قد يدفعهم إنسلاخهم عن مجتمعاتهم إلى تعظيم ما يطلق عليه “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) والتغاضي عن انتهاكاته المريعة لحقوق الإنسان أو تبريرها.

يقدر أن حوالي 4000 شخص قد تركوا أوطانهم في الغرب من أجل الهجرة إلى داعش. وأصبح الكثيرون منهم مقاتلين جهاديين بشكل واضح أملا في أن ينالوا الشهادة. كما يبدو أن عددا كبيرا من النساء – 550 امرأة – قد ذهبن ليصبحن أمهات وليربين الجيل القادم من “أسود” الجهاد. بينما هاجر البعض لتقديم خبراتهم الطبية، وآخرون للمساعدة في أي ما يستطيعون فعله. تتداخل حوافزهم بنفس درجة تداخل خلفياتهم. وتتمثل الحقيقة المدهشة بشأن هؤلاء الرحالة في أنهم لا يمكن إعطائهم تعريف واحد. بل يمثلون قطاعا عريضا من البشر، بدء ب مغني الراب السابقين، و أفراد العصابات، إلى الأجداد و الطلبة الموهوبين.

ظاهريا، يتشاركون القليل مع المفكرين الذين تم تناولهم في الكتاب. إلا أن انسلاخهم عن المجتمع الغربي وقوة اعتقادهم بنظام بديل يتفوقان كثيرا على مجتمعاتهم السابقة، وهو ما تثبته المقابلات التي أجريت معهم والشهادات الشخصية التي أدلوا بها، ما يشير إلى أنهم يتشاركون سخطا وحساسيات محددة متعلقة بموضوع دراسة هولاندر.

بين الأمثلة غير المحدودة المذكورة بحماقة من جانب هولاندر مجلد “الشيوعية السوفيتية: حضارة جديدة؟” الخاص بالأخوين سيدني وبياتريس ويب، والذي يشاد فيه بنظام العقوبات السوفيتي بسبب روحه التقدمية. أما في الإصدار الثاني من نفس الكتاب، حسبما يشير المؤرخ روبيرت كونكويست، “تمت إزالة علامة الاستفهام منه على نحو منتصر”، “في الوقت المناسب تحديدا” حيث نشر الإصدار عام 1938، ويشير كونكويست: “كان النظام في أسوء مراحله من الإرهاب القاتم والشامل”.

كيف يعقل أن الأخوين ويب وآخرين مثلهما قد فهموا الأمر بشكل خاطئ تماما؟ يبدو أنهم كانوا مغفلين، ولكنهم ليسوا أغبياء. فقد تمت الإشادة على نطاق واسع بالكثير من المفكرين الذين ذكرهم بسبب ذكائهم الحاد وتشككهم الحي، حسبما يذكر هولاندر. بدلا من ذلك، يؤكد هولاندر على أنهم أرادوا أن يتم خداعهم بشأن الإخفاقات والسرقات التي تعرضت لها المجتمعات التي زاروها. وكان ذلك لأنهم على الصعيد النفسي، حسبما يورد، احتاجوا إلى التصديق بوجود نظام اجتماعي مثالي، والذي لا يمثل فقط أعمق مثلهم العليا، بل ويعطي أيضا صوتا لأعمق مخاوفهم بشأن مجتمعاتهم.

“التفكير الرغبوي”، حسبما أورد عالم الاجتماع كارل مناحم، “دائما ما برز في الشؤون الإنسانية. فعندما لا تجد المخيلة أي رضا عن الواقع القائم، تسعى إلى إيجاد ملجأ في الأماكن والفترات المبنية على الآماني والأمنيات”. يتفق هولاندر مع الاقتباس السابق ويعيد صياغته في مقدمته بالكتاب، وإحدى مميزات كتابه هي الوضوح والقوة التي يظهر بها كيف أن الرغبة يمكنها أن تحل محل التفكير النقدي وأن تقوضه.

تمثل الهجرات الأخيرة إلى داعش، كحال الرحلات السياسية التي سبقتها، حتى الآن شهادة أوضح على قوة التفكير الرغبوي وكيف أن الرغبة يمكنها أن تغلب المنطق.

سابقا من هذا الشهر، ذكر تقرير أن عائلة مكونة من 12 شخص من لوتون، إنجلترا – بينهم، وفق شبكة “بي بي سي”، “طفل رضيع وجدين” – قد قامت بالسفر إلى سوريا. وهي ثاني عائلة يعتقد أنها تركت المملكة المتحدة للإنضمام إلى الدولة الإسلامية منذ شهر مايو. هل أكرهت العائلة أو، حسبما أشار أحد الأقرباء، تم خداعها للذهاب إلى سوريا؟ هل كانوا ضحايا لنوع من الاضطراب العقلي الجماعي؟ كلا البتة، في حال صحة بيان صحفي يزعم صدوره عن العائلة. حازت الشبكة على البيان من شخص يزعم أنه مقاتل في الدولة الإسلامية، إلا أنه لم يتسنى لها التأكد من مدى مصداقيته.

“لم يجبر أي منا على مخالفة إرادته”، وفق البيان. كما يصف أرضا “خالية من فساد وظلم القوانين الوضعية .. ولا يشعر فيها المسلم بالظلم عند ممارسته لشعائر دينه. ولا يشعر فيها الوالد بالقلق حول فقد طفله بسبب فجور المجتمع. ولا ينتظر فيه المرضى وكبار السن في عذاب، ولا يتغاضى عن التحيز ضد العرق أو الطبقة الاجتماعية”. كما يلمح البيان بشكل ساخر إلى “ما يطلق عليه الحرية والديمقراطية” لدى الدول الغربية.

يخدم البيان، حسبما أشار الباحث شيراز ماهر، بوضوح هدف دعائي، وقد يكون مفبركا. ولكنه يعكس أيضا بدقة المشاعر التي يعبر عنها مهاجرون غربيون آخرون قاموا بالرحلة إلى سوريا، والذين سخروا في مشاركاتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي من فكرة أنهم تعرضوا لـ”غسيل دماغ” حتى ينضموا إلى داعش. علاوة على ذلك، يستخلص البيان موضوعين مرتبطين بشكل وثيق، وجوهريين لفهم عقلية المهاجرين الغربيين: وهما الانسلاخ عن المجتمع والأمل الأفلاطوني.

يتحدث مشروع الخلافة الخاص بتنظيم الدولة الإسلامية بشكل مباشر إلى من يشعرون بأن حياتهم بلا قيمة، وفاسدة روحيا، وخالية، ومملة، أو مفرغة من الهدف والأهمية، ولمن لا يرون أي قيمة في مجتمعاتهم، لأنه يقدم بديل أفلاطوني جديد للمجتمع الغربي العلماني. باختصار، يعد المشروع بالخلاص والمعنى الحقيقي عبر الالتزام الكامل تجاه قضية مقدسة. “لا أظن أن هناك شيء أفضل من الحياة على أرض الخلافة”، وفق قول أحد الجهاديين البريطانيين في مقطع فيديو حمل اسم، “تهنئات العيد من أرض الخلافة“، والذي أصدره الذراع الإعلامي لداعش الصيف الماضي. “نحن لا نعيش في ظلم. … نحن لا نعيش تحت حكم الكفار. … لسنا في حاجة إلى أي ديمقراطية … بل في حاجة للشريعة”.

تكشفت موضوعات مشابهة بشكل قوي في تقرير صدر مؤخرا عن المهاجرات الغربيات. بناء على المشاركات على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل من تعرفن أنفسهن على أنهن مهاجرات في الأراضي الخاضعة لسيطرة داعش، وجد كاتبو التقرير أن بعض دوافع ارتحال هؤلاء النساء إلى داعش تتمثل في الانسلاخ عن المجتمع الغربي، والغضب تجاه ما يعتبرنه ظلما للمسلمين في أنحاء العالم، بالإضافة إلى شعور قوي بالنداء الديني والإيمان الشديد باستقامة الخلافة حديثة الظهور.

بناء على ذلك، يبدو واضحا أن ارتحالهن يعود إلى ما يعتبرنه فسادا وظلما في أوطانهن مثلما يعود إلى رغبتهن في رؤية الدولة الإسلامية كمجتمع المدينة الفاضلة الخالي من تلك الانحرافات العلمانية. قد يشرح ذلك أيضا سبب تمكن المهاجرون الغربيون إلى الخلافة، رغم جميع الأدلة، من تجاهل أو إسقاط الكتلة الضخمة من الإجرام المثبت ارتكابه من قبل داعش، ويغامرون بكل شيء للإنضمام للتنظيم.

في بريطانيا، حيث قدم رئيس الوزراء، ديفيد كاميرون، هذا الأسبوع استراتيجية لمكافحة الإرهاب كجزء مما أطلق عليه “صراع جيلنا”، أصبح الجدل حول داعش وأساليب تجنيده مستقطبا بشكل غير مفيد. فعلى أحد جانبي هذا الاستقطاب، والذي يشمل مسؤولين بريطانيين، يقف من يصفون متطوعي داعش بأنهم شباب “ضعيف” أو سريعي التأثر، والذين، رغم أعمالهم أو نواياهم الإجرامية، يعتبرون ضحايا. وعلى الجانب الآخر يقف الذين – عادة ما يكونون أكاديميين ونشطاء حقوق الإنسان – يقولون بشكل مشابه إن متطوعي داعش ضحايا، ولكنهم ضحايا أفعال وسياسات الحكومة الجائرة وليس المربيين الجهاديين الأشرار. المشكلة في طرفي الجدال أنهما ينكران قوة من ينضمون إلى داعش، ويخفون المثالية الدينية التي تحفزهم.

يتمثل أحد أكبر التحديات المصاحبة لجهود الدعاية المضادة ضد داعش في كيفية حث المهاجرين المحتملين على إعادة التفكير في التصورات الملائمة بالنسبة لهم عن التنظيم، والدولة التي أعلن قيامها. تتعلق المشكلة بشكل أقل بإيجاد الخطاب “الصحيح”، وبشكل أكبر بإعادة تشكيل الرغبة الإنسانية، لأنه من المحتمل أن المهاجرين المحتملين إلى داعش يريدون، على أحد الأصعدة النفسية العميقة، أن يتم خداعهم بشأن عمليات النهب التي ينفذها التنظيم، والمذكورة على نطاق واسع. حسبما لاحظت كريستينا نيمر، مستشارة مكافحة الإرهاب الأمريكية السابقة، بعض الأشخاص “يرفضون “المعلومات الخطيرة” لصالح المعلومات التي تؤكد على معتقداتهم”.

من الصعب بما فيه الكفاية التأثير على الذين لم يحسموا أمرهم بعد بشأن داعش – والذين يطلق عليهم “المترددون”. ولكن من الأصعب بشكل مميز التأثير على من يريدون أو يحتاجون، بسبب مثاليتهم وانسلاخهم عن مجتمعاتهم، لرؤية أفضل ما في داعش.

سيمون كوتي محاضر بارز بعلم الجريمة في جامعة “كينت”.

المصدر

*ترجمة فريق موقع راقب