دائمًا ما يصاحب ظهور أي موجة موسيقية جديدة موجة عنيفة من الهجوم غير المبرر عليها؛ يتمثل هذا الهجوم في اتهامات تُلقى جزافًا على صناع تلك الموسيقى بأنهم يدمرون الذوق العام وينالون من الثوابت الثقافية للمجتمعات وغيرها من الاتهامات الواهية التي يتبناها عدد كبير من النخبة الثقافية في كل مجتمع.

والغريب أن تلك الظاهرة لا تقتصر على مجتمعات بعينها دون مجتمعات أخرى؛ فالهجوم الذي صاحب نشأة حركة «الهيب هوب» في أمريكا، هو نفس الهجوم الذي صاحب نشأة موسيقى المهرجانات في مصر، والاتهامات بتدمير الموسيقى وتدمير الذوق العام التي صاحبت ظهور فرقة «البيتلز» في إنجلترا، هي نفس الاتهامات التي صاحبت ظهور أحمد عدوية في مصر. فما السبب وراء تلك الظاهرة؟

في هذا المقال نحاول فهم هذه الظاهرة من خلال 3 مداخل مختلفة.


وهم الزمن الجميل

يحمل كل منا في مخيلته صورة مثالية للموسيقى التي يحبها؛ صورة تستند إلى شروط معينة يجب أن يحققها كل عمل موسيقي حتى تتحقق فيه صفة الجمال من وجهة نظرنا. ووفقًا لهذه الصور تجد شخصًا يحب الموسيقى الكلاسيكية مثلًا ولا يحب سواها، وتجد شخصًا آخر يحب موسيقى الجاز، وثالثًا يحب الموسيقى الشعبية وهكذا؛ فكل منا يحب ما تميل إليه نفسه وما يتفق ومفهومه عن الجمال، ولا مشكلة في ذلك. إنما تظهر المشكلة عندما نخلط بين ما هو شخصي نسبي، وما هو عام مطلق؛ فنقوم بنفي صفة الجمال عن كل الموسيقات التي لا نحبها أو لا نفهمها لمجرد أنها لم تحقق الشروط الجمالية التي وضعها كل منا لنفسه وذلك لأننا نتصور أن تلك الشروط الشخصية هي الشروط العامة التي دون تحقيقها لن يتحقق جمال العمل الفني.

ولكي نصحح هذا الخلط بين الشخصي والعام يجب أن نفرق بين مفهومين متشابكين ومتداخلين هما: الكفاءة والفاعلية؛ فالكفاءة هي فعل الأشياء بشكل صحيح، أما الفاعلية فهي فعل الأشياء الصحيحة.

ولكي يتضح الفرق أكثر دعونا نأخذ مثالًا: إذا افترضنا وجود شخص ما شديد الذكاء قام بالتخطيط لسرقة أحد البنوك الكبيرة ونجح في فعل ذلك، في هذه الحالة نعتبر هذا الشخص غير فعَّال لكننا لا نستطيع أن ننكر عليه كفاءته وحسن تخطيطه.

كذلك إذا جئنا بشخص لا يحب الموسيقى الكلاسيكية وسمعناه السيمفونية الخامسة لبيتهوفن وسألناه عن رأيه، في هذه الحالة يجب أن يميز هذا الشخص بين تفضيلاته الخاصة والقواعد العامة؛ فيمكن لهذا الشخص أن ينتقد فعالية السمفونية وفقًا لتفضيلاته الشخصية؛ كأن يراها مثلًا قطعة موسيقية مملة أو كأن يقول إنه لا يفضل هذا النوع من الأساس، لكنه لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن ينكر على المقطوعة كفاءتها وحسن صنعها وفقًا لتفضيلاته الشخصية إنما يكون نقد الكفاءة وفق أسس وقواعد علمية متخصصة، وهنا تكمن الإشكالية الأولى.

فمعظم الذين يهاجمون الموجات الموسيقية الجديدة يخلطون بين فاعلية العمل وكفاءته، فنراهم ينتقدون كل جديد فقط لأنه ليس في الاتجاه الذي يريدونه دون أن ينظر أحد لمدى كفاءة العمل. وحتى من ينظر منهم لكفاءة العمل نفسه تجده يقع في إشكالية أكبر أُطلق عليها «وهم الزمن الجميل» وهي إشكالية افتراض وجود شروط مثالية للفن متفق عليها لا يتحقق الفن إلا بتحقيقها.

فنرى هؤلاء النقاد وفقًا لذلك الافتراض يصيغون في أذهانهم اتجاهًا أو فنانًا نموذجيًا يقيِّمون على أساسه بقيه الاتجاهات وبقية الفنانين ولا يصبح الجميل جميلًا لديهم إلا إذا تماشى مع نماذجهم الخاصة. فنجدهم ينتقدون اتجاهًا موسيقيًا ما فقط لأنه لا يشبه ما يعتبرونه هم العصر الذهبي للأغنية أو ما يطلقون عليه «الزمن الجميل»، كما نجدهم ينتقدون الكثير من الفنانين ويريدون منعهم من الغناء فقط لأنهم لا يشبهون في غنائهم أم كلثوم أو عبد الحليم.

وهم بذلك يغفلون أن لكل نوع موسيقي جمالياته ومقوماته الخاصة التي يتحقق جمال النوع بتحقيقها، والتي تصلح مداخل نقدية لهذا النوع؛ فلا يجوز مثلًا نقد أغنية راب وفقًا لجماليات موسيقي الجاز، كما لا يجوز نقد أغنية جاز وفقًا لجماليات الموسيقى الشعبية الهندية، كذلك بالتأكيد لا يمكن نقد أغنية مهرجانات وفقًا لجماليات الموسيقى العربية الكلاسيكية؛ ذلك أن لكل موسيقى أسسًا وقواعد تُقرَأ وتُنقَد من خلالها؛ أسس وقواعد تتشكل عبر الزمن من خلال تجارب وتراكمات إنتاجية ترسم ملامح كل نوع وتعطيه خصوصيته وجوانب تفرده.


إشكالية المركز والهامش

هذا عن الإشكالية الأولى، أما الإشكالية الثانية، فلكي نتطرق إليها يجب علينا أولًا أن نوضح تكوين المشهد الموسيقي والقوى الفاعلة فيه والمُشكِّلة له ومن ثم ننتقل إلى تلك الإشكالية.

ينقسم المشهد الموسيقي في أي مكان إلى ثلاث مناطق أساسية؛ المنطقة الأولى: وهي تمثل المركز وتشمل الفنانين القادرين على إنتاج الأنماط الموسيقية السائدة عالميًا مع محاولة التجديد في هذه الأنماط وإضفاء لمسة جمالية خاصة بهم بما لا يخل بأصول تلك الأنماط. ويكون هذا الاتجاه هو الأكثر رواجًا في المشهد ويكون صاحب النصيب الأكبر من المتابعين.

أما المنطقة الثانية، وهي تمثل أطراف المنطقة المركزية، فتشمل عددًا من الموهوبين وأنصاف الموهوبين وبعض المدعين الذي يحاولون تقليد ما يتم إنتاجه في القسم الأول دون أي إضافة تذكر ودون أي ملمح جمالي خاص؛ فما يتم إنتاجه في هذه المنطقة ما هو إلا إعادة إنتاج ما تم إنتاجه بالفعل. لذلك لا ينتج من هذه المنطقة إلا أعمال تحمل في ظاهرها ملامح الأنماط السائدة عالميًا ولا تحمل في داخلها أي شيء ومع ذلك يستطيعون جذب عدد لا بأس به من المتابعين.

اقرأ أيضًا:في الشعر الغنائي: من الذي ﻻ يحب أنغام؟

على أطراف كل ذلك يوجد المنطقة الثالثة: منطقة الهامش؛ وهي المنطقة التي تحتوي عددًا كبيرًا من الموهوبين الذين لم يتلقوا نصيبهم من تعلم الموسيقى، وعلى الرغم من كل ظروفهم السيئة فإننا نجد أن موهوبي الهامش هم الأقدر دائمًا على خلق الحركات الموسيقية الجديدة والمختلفة، ذلك لأن هؤلاء الموهوبين يمتلكون جرأة غير محدودة على التجريب بحرية، جرأة لا يقدر عليها فنانو المركز في معظم الأحيان، وذلك لما يفرضه المركز من محددات وقوالب على فنانيها يصعب الخروج عليها، بل يصعب في بعض الأحيان تحقيق تلك القوالب من الأساس على الكثير من الفنانين؛ فينتهي الأمر بالكثير منهم عالقين في منتصف الطريق؛ فلا هم استطاعوا بلوغ القوالب السائدة ولا هم استطاعوا خلق قوالب جديدة يعبرون من خلالها عن صوتهم الخاص.

ذلك على عكس الهامش الذي لا يراه أحد من الأساس، وبالتالي لا توجد قواعد مفروضة عليه تحول بينه وبين التجريب، لذلك نجد الكثير من الأنماط الموسيقية المسيطرة على العالم حاليًا قد خرجت في الأصل من الهامش كـ«الراب» في أمريكا، و«الراي» في الجزائر، ومؤخرًا «المهرجانات» في مصر؛ جميعها حركات موسيقية خُلقت على أطراف المركزية؛ خُلقت من فنانين حقيقيين ربما لم يمتلكوا القدر الكافي من التعليم لكنهم، وبلا أدنى شك، قد امتلكوا، إلى جانب الموهبة، قدرًا هائلًا من الجرأة مكنتهم من خوض كل التجارب الممكنة لخلق الجديد الذي يعبر عنهم بكل دقة.

وبدلًا من أن يكون ضعف الإمكانات وضعف فرص التعلم بالنسبة لجودة المنتج الفني نقطة قوة لهؤلاء الفنانين، تصبح في نظر عدد من المتخصصين نقطة ضعف، وكأن إنتاج الموسيقى حكر على فئة معينة من الناس.

وللأسف لا تتوقف تلك النظرة الدونية للأنماط الموسيقية المُنتَجة على الهامش عند المتخصصين فحسب؛ بل يشترك فيها أيضًا الغالبية العظمى من عامة الجمهور؛ فكلاهما يتفقان على رفض تلك الأنماط الجديدة بسبب ضعف الخلفية الثقافية لمنتجيها. الغريب أنك قد تجد بعض الناس من غير المتخصصين في الموسيقى يستهجنون «المهرجانات» في الخفاء وفي العلن، حتى إذا كانت تسعدهم، فقط بسبب الخلفيات الثقافية لمنتجيها. حالة غير منطقية وغير مبررة، وقد يقع المتخصص في نفس المغالطة المنطقية وهي مغالطة تجريد العمل الفني من ذاته ومعاملته فقط وفق سياقاته الاجتماعية والشكلية المكونة له، وهنا تكمن الإشكالية الثانية.

اقرأ أيضًا:ألبوم «الإخفاء»: مزيج خاص من الخوف واليأس والهزيمة

إن مهاجمي الحركات الموسيقية التى تم إنتاجها على الهامش، يتعاملون معها وفق هوية منتجيها وليس وفق جماليات هذه الحركات. وهذه النظرة، بالإضافة إلى أنها نظرة عنصرية تفتقر لكل مبادئ الثقافة والتحضر، هي نظرة ضيقة ومحدودة تتعامل مع تلك الموسيقات بوصفها ظواهر اجتماعية وليس بوصفها فنًا له أسس وقواعد وجماليات مُشكِّلة وحاكمة له يمكننا نقد العمل وتقييمه من خلالها.

نظرة تتصور خطأ أن صانعي تلك الموسيقات قُصَّر لا يفقهون شيئًا عن الموسيقى وفي حالة دائمة من الاحتياج إلى وصاة أكثر منهم خبرة يدلوهم على الطريق الصحيح؛ نظرة ضيقة تغفل أن هذه الموسيقات تُكوّن مع الوقت والتجربة جمالياتها الخاصة التي تجعل منها فنًا قائمًا بذاته لا يحتاج اعترافًا من أحد، فنًا لا يتم إدراكه تلقائيًا، بل يحتاج إدراكه إلى تحليل وتدريب وسعي حقيقي وراء المعرفة.

ونحن هنا لا ننكر أهمية النظر لسياقات العمل الفني في عملية النقد؛ فدراسة تلك السياقات تساعدنا في فهم أبعاد وجماليات العمل الفني؛ إنما ننكر استخدام السياقات كتُهم يتم بها محاكمة الفنانين أخلاقيًا؛ كأن نرى بعض النقاد يهاجمون الموسيقات الجديدة فقط وفقًا لأماكن نشأتها وشكل ملابس صانعيها وشكل هؤلاء الصانعين أنفسهم وميولهم الجنسية وحتى معتقداتهم الدينية.


الميل إلى القولبة والتصنيف

ولا يهمل هؤلاء المهاجمين، متخصصين وغير متخصصين، النظر للعمل الفني في ذاته على حساب النظر لسياقاته الاجتماعية والشكلية المُشكِّلة له فحسب؛ بل يهملون النظر لذات العمل أيضًا لصالح كل قالب وتصنيف قاموا هم بإعداده بشكل مُسبَق ليُرتِّبوا فيه ما يعرض عليهم من أعمال مع الاحتفاظ بمجموعة من الاتهامات الخاصة بكل قالب من قوالبهم.

فتجد عند بعضهم أن الموسيقى الكلاسيكية مثلًا مملة، هكذا في المطلق، وأن موسيقى الراب هي موسيقى العصابات، وأن الميتال هي موسيقى عبدة الشيطان، وأن الموسيقات الشعبية ضعيفة ومتخلفة ولا تصلح لأي أعمال موسيقية جادة؛ وغيرها من الأحكام الجاهزة التي يتم إطلاقها دون أدنى تفسير.

مثل هؤلاء يتعاملون مع الموسيقى كونها قالبًا في المقام الأول ثم موسيقى في المقام الثاني؛ فهم لا يتعاملون مع الموسيقى كموسيقى في حد ذاتها تستوعب عددًا لا نهائيًا من الأفكار والاتجاهات؛ فمثل هؤلاء المهاجمين إنما ينكرون على الموسيقى إحدى أهم صفاتها وهي كونها وسيطًا مرنًا ومتجددًا ومتشعبًا بتشعب واختلافات المجتمعات المختلفة، وبتشعب التكتلات المختلفة داخل كل تلك المجتمعات، وبتشعب أفكار الأشخاص الموجودين داخل تلك التكتلات، وبتشعب ما داخل كل شخص من هؤلاء الأشخاص من أفكار ورؤى لا متناهية.