إننا لا نرجع إلى الخلف، ولا نعود إلى الوراء، بل نتقدم إلى الأمام وننظر إلى المستقبل. إننا نستيقظ على الحقيقة ونستخلص النظرية من نتائج التجربة، إذ ليس من المقبول تاريخيًا أن يقال عن الأجيال الثورية الجديدة؛ أنها تشبثت ببداية التجربة ولم تستفِد من نهايتها، فالنصر الثوري نتيجة حتمية للإرادة المتجسدة في الساحات الثورية، القادرة على الحشد وفرض المنطق الثوري قبل الخيال والوهم.

نيلسون مانديلا

العظمة في هذه الحياة ليست في التعثر، ولكن في القيام بعد كل مرة نتعثر فيها
نيلسون مانديلا

ولد نيلسون مانديلا في الثامن عشر من يوليو 1918م في قرية مفيتزو بإقليم ترانسكاي بجنوب إفريقيا، اشتهر وسط زملائه بالمشاكس، كان يعيش وسط عائلة فقيرة كانت تهتم برعي الماشية، وكان مانديلا أول فرد في عائلته يلتحق بالمدرسة، والتحق بجامعة فورت هير 1939م، حيث كانت الجامعة الوحيدة في جنوب إفريقيا آنذاك، وكانت تعادل جامعة أكسفورد أو جامعة هارفارد في الأهمية حاليًا. تخرج مانديلا عام 1942م وحصل على درجة البكالوريوس في الحقوق.

في عام 1944م، انضم مانديلا إلى حزب المؤتمر الوطني الإفريقي للدفاع عن حقوق الأغلبية السوداء، والمطالبة بالمساواة وإعطائهم كافة حقوقهم كباقي المواطنين في جنوب أفريقيا، وفي عام 1948م فاز الحزب بالانتخابات وكان يحكمه حينها البيض في جنوب إفريقيا، الذين قاموا بوضع خطط وسياسات تزيد من العنصرية في الدولة، لكن الأمر لم يدم طويلًا، فسرعان ما صعد مانديلا وتولى رئاسة الحزب، واضعًا حدًا لكل هذه السياسات التعسفية الممارسة تجاههم.

على الرغم من تمسك مانديلا بالحفاظ على السلمية إلا أنه توصل في النهاية إلى أن المقاومة السلمية لا تجدي نفعًا، تحديدًا بعد مذبحة شاربفيل والتي قلبت الأمور رأسًا على عقب، حيث قرر مانديلا وبقية قادة الحزب فتح باب المقاومة المسلحة. وعليه قاموا بإنشاء حركة جديدة أطلقوا عليها اسم «رمح الأمة» وهي حركة ثورية مسلحة تم تصنيفها دوليًا على أنها حركة إرهابية، حيث قامت بعدة هجمات استهدفت تدمير بعض المنشآت الحكومية والعسكرية، وتم على إثرها إلقاء القبض على مانديلا وباقي قادة الحزب، واتهموا بالخيانة جميعًا وانتهى الأمر بالحكم على مانديلا بالسجن مدى الحياة.

اتحدوا، وجهزوا، وحاربوا؛ إذ ما بين سندان التحرك الشعبي، ومطرقة المقاومة المسلحة، سنسحق الفصل العنصري

نيلسون مانديلا

ورغم ما تعرض له مانديلا من قمع وقهر إلا أن كلماته الثورية لم تتوقف، ورسائله التي أحيت القارة الأفريقية لم تنتهِ، فكانت رسالته للثوار حينئذ، «اتحدوا، وجهزوا، وحاربوا؛ إذ ما بين سندان التحرك الشعبي، ومطرقة المقاومة المسلحة، سنسحق الفصل العنصري»،وبعد 27 عامًا من عمره قضاها مانديلا في السجن، كضريبة، قمعية دفعها جراء مطالبته بالمساواة، أصبح مانديلا أول رئيس أفريقي لجمهورية جنوب أفريقيا في 9 مايو 1994م، لهذا سيظل رمزًا للسلام وأيقونةً للنضال والمثابرة.

«اتخذت الأمم المتحدة موقفًا قويًا وواضحًا تجاه التمييز العنصري، وعلى مر السنين استطاعت بناء إجماع دولي لوضع نهاية لهذا النظام العنصري والجائر. لكننا نعلم جيدًا بأن حريتنا هذه منقوصة بدون حرية الفلسطينيين»، هكذا اختتم مانديلا مسيرته النضالية ليودعه العالم كله في 9 سبتمبر 2013م.


جيفارا

إن الثورة تتجمد وإن الثوار ينتابهم الصقيع حين يجلسون فوق الكراسي، وأنا لا أستطيع أن أعيش ودماء الثورة مجمدة داخلي
جيفارا

«إن مقاومة الظلم لا يحددها الانتماء لدين أو عرق أو مذهب، بل تحددها طبيعة النفس البشرية التي تأبى الاستعباد وتسعى للحرية»، هكذا بدأ جيفارا مسيرته الثورية، فقد قال عنه والده: «إن ابني تجري في عروقه دماء المتمردين الأيرلنديين»، لم يكن يقصد والده الإشارة إلى أصوله الأيرلندية فقط، بقدر ما كان يعني الإشارة إلى النضال والحماس الذي يسير في عروق جيفارا منذ نعومة أظافره.

في عام 1953م، قرر جيفارا خوض رحلة إلى جميع أنحاء أمريكا اللاتينية على دراجة نارية، برفقة صديقه «ألبيرتو غرانادو»، حينها لم يكن جيفارا قد تخرج من كلية الطب بعد، كانت هذه الرحلة هي الشعلة التي أوقدت نيران الثورة بداخل جيفارا. الظلم الذي رآه في عيون الفقراء والمزارعين البسطاء جعله يشعر أن هناك خطأ ما في هذه المنظومة، لم يغادر مخيلة جيفارا مشهد الفلاح البسيط الذي يعمل في أراضي الأثرياء بدمه قبل عرقه، حينها استنتج جيفارا أن الحل يكمن في الثورة، ثورة تقضي على هذا التفاوت الاقتصادي المهول. دوّن جيفارا ملاحظاته طوال الرحلة في مذكرته التي أسماها «يوميات دراجة نارية» والتي أصبحت أحد أكثر الكتب مبيعًا في العالم.

الثورة هي الحل الوحيد لرفع الظلم الواقع على الفقراء

جيفارا

لم يغادر مشهد الجوع والفقر والمرض قلب ولا عقل جيفارا، عاد إلى الأرجنتين محملًا بآلام الفقراء، مشغولًا بمرضاهم وجياعهم، حينها لم يجد من الثورة مفرًا، وقال في مذكرته الثورة هي الحل الوحيد لرفع الظلم الواقع على الفقراء، وبالفعل لم يلبث كثيرًا حتى أصبح أحد أهم أعضاء الحركة المسلحة التي عملت على إسقاط النظام في كوبا.

«إن الثورة تتجمد وإن الثوار ينتابهم الصقيع حين يجلسون فوق الكراسي، وأنا لا أستطيع أن أعيش ودماء الثورة مجمدة داخلي»، مقولة بدأ بها جيفارا ثورته في كوبا مع رفيقه فيدل كاسترو، حيث التقى جيفارا بفيدل كاسترو في مدينة مكسيكو، كانا حينها يخططان لثورة تطيح بنظام الرئيس الكوبي «فولغينسيو باتيستا» الذي كان يتم دعمه من قبل الولايات المتحدة، لم يتردد جيفارا للحظة وأعلن انضمامه في حركة 26 يوليو، وسرعان ما اشتهر جيفارا وصُقلت مكانته بين المسلحين الكوبيين، إلى أن تمت ترقيته إلى الرجل الثاني، ولقب حينها بعقل الثورة.

رجل الثورة مكانه الحقيقي بين جموع الشعب بين الفقراء والمظلومين، لا مباني الوزارات والتنقل بين المناصب

جيفارا

وبعد أن نجحت الثورة الكوبية في إسقاط النظام، تم منح جيفارا الجنسية الكوبية، كما تم تعيينه مديرًا للمصرف المركزي، ووزيرًا للصناعة وممثلًا لكوبا في الخارج ومتحدثًا باسمها في الأمم المتحدة. وفي أكتوبر 1965م، أرسل جيفارا رسالة إلى كاسترو يعلن فيها تخليه عن منصبه في الحزب، ومنصبه كوزير أيضًا وكافة المناصب التي شغلها، موضحًا أن مكانه الحقيقي بين جموع الشعب بين الفقراء والمظلومين، لا مباني الوزارات والتنقل بين المناصب، مؤكدًا ان ذلك لن ينقص من حبه لكوبا شيئًا ولن ينسيه أيام النضال العظيمة. ورغم نجاح تجربة جيفارا في كوبا إلا أنه فشل في تحقيق ثورته في الكونغو بأفريقيا، وكذلك فشل في تحقيق ثورته في بوليفيا.

وفي 9 أكتوبر 1967م، تحديدًا في لاهيجيرا، ببوليفيا، أمر الرئيس البوليفي «رينيه باريينتوس»، بقتل جيفارا، فقام الضابط المكلف بقتله بـإطلاق 9 رصاصات في أماكن متفرقة من جسده. لينهي جيفارا مسيرته الثورية والنضالية، لينهي صورته التي رسمت كبرياء الثورة وهو يدخن السيجار الكوبي الفاخر، لينهي كاريزما الثورة، تاركًا للعالم بصمة بإنسانيته التي مثلت طوق نجاة للفقراء والمظلومين. وبقعة ضوء وسط الظلام الحالك. إنه تشي جيفارا.


مهاتما غاندي

صورة تجمع بين غاندي ووزير الخارجية البريطاني اللورد بيثيك لورانس، 18 أبريل عام 1946
يعد غاندي الأب الروحي للحملات الوطنية لتخفيف حدة الفقر، وزيادة حقوق المرأة، وبناء جسر من الوفاق الديني والوطني بالهند، ووضع حد للتمييز، وزيادة الاعتماد على الذات اقتصاديًا

السياسي البارز والزعيم الروحي للهند، كان رائدًا «للساتياغراها» وهي مقاومة الاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل، كان غاندي محاميًا في جنوب أفريقيا قبل أن يعود إلى بلاده عام 1915م، ليقوم بتنظيم احتجاجات الفلاحين والمزارعين والعمال في المناطق الحضرية بالهند ضد ضرائب الأراضي المفرطة والتمييز في المعاملة. وبعد توليه قيادة المؤتمر الوطني الهندي في عام 1921م، قاد غاندي حملات وطنية لتخفيف حدة الفقر، وزيادة حقوق المرأة، وبناء جسر من الوفاق الديني والوطني بالهند، ووضع حد للتمييز، وزيادة الاعتماد على الذات اقتصاديًا.

كان الهدف الأسمى لغاندي هو تحرير الهند من السيطرة الإنجليزية، فكان قائدًا لأول حركة عصيان مدني في الهند ضد فرض بريطانيا للضرائب على الملح، ليقود ما يعرف بـ«مسيرة الملح» التي امتدت من «سبارماتي أشرام» إلى «داندي» لإنتاج الملح دون دفع الضريبة، وعلى طول الطريق انضم إلى مسيرته العديد من الهنود واعتقل غاندي خلال مسيرة الملح إلا أن اعتقاله لم ينجح في إيقاف المسيرة التي كان لها الدور الأكبر في لفت أنظار العالم إلى قضية استقلال الهند، وتعد مسيرة الملح إحدى أشهر حركات العصيان المدني السلمي في التاريخ.

بالرغم من جهود هؤلاء وغيرهم لإيقاف نزيف التمييز العنصري على خارطة العالم، إلا أن النظم السياسية كانت وما زالت الدافع الأول والأخير لتكريس مبدأ التمييز، فاليوم يُقتل الآلاف من الأبرياء في بقاع الأرض في ظل صمت عالمي تلطخه الدماء، فإن أعادت ذاكرة التاريخ هؤلاء لعصرنا الذي نعيشه الآن، فما قولهم فيما نحن فيه؟