+في كلّ 30 ثانية، يموت مريض بسببٍ يمكن منعه بواسطة زرع الأعضاء.

رغم كلّ شيء سيئ يحصل، يتطوّر العالم بسرعةٍ كبيرةٍ، وربما تكون هذه الفترة الأسرع على الإطلاق من حيث الاختراعات والاكتشافات العلميّة، والتقدم في جميع المجالات، خاصةً في مجالات الفيزياء والطب. يعيش البشر الآن حياةً أكثر رخاءً من أسلافهم، وأدى ذلك لازدياد متوسط العمر، لكن لم يكن ذلك الشيء الوحيد الذي ازداد.

ازدادت الأمراض المرتبطة بالشيخوخة والأمراض السرطانيّة، وازدادت نسبة الأشخاص المحتاجين لعمليات نقل الأعضاء، من كلى وكبد وغيرها، دون زيادة في عدد المتبرعين بشكلٍ كافٍ للتغطية. ما الحال إذن؟ اطبعها!، اطبع الأعضاء التي تحتاجها!، أو هكذا يقترح أنتوني عطا الله، مدير معهد ويك فورسيت للطب التجديدي، أحد أبرز الممارسين للطباعة البيولوجية والمطوّرين لها.

ولكن قبل أن نتكلم عن د.عطا الله وإنجازاته، دعونا نتصفح تاريخ الطباعة البيولوجية أولًا.


تاريخ الطباعة البيولوجية ثلاثية الأبعاد:

في 1983 اخترع تشارلز هول Charles Hull تقنيّة «stereolithography»، وهي نوع خاص من الطباعة يعتمد على ليزر يقوم بجعل البوليمرات (البوليمرات هي جزيئات كبيرة تتكون من تحت وحدات عديدة) صلبةَ الهيكل.

تشارلز هول؛ أبو الطباعة ثلاثية الأبعاد.

باستخدام برنامج حاسوبي للتصميم، يستطيع أن يصمم الشخص الشكل الذي يريده ويرسله للطابعة. طوّر هول وزملاؤه هذه اللاحقة المعروفة فيما بعد بـ (.stl) لتحمل معلوماتٍ عن جغرافية الجسم ومساحته.

في البداية لم تكن المواد المتوفر للطباعة جيدة بما فيه الكفاية لتصمد فترةً طويلة، لذلك استخدم المهندسون هذه التقنية لطباعة «نماذج» المنتجات النهائية، كأجزاء السيارة مثلًا، ثم القيام بصناعتها بالطريقة التقليدية. وفي أواخر التسعينات من القرن الماضي، بدأ جيل جديد من مواد الطباعة بالظهور، وهي عبارة عن مسحوق خليط من المعدن والبلاستيك، تمتعت هذه المواد بقدرة على البقاء بشكلها لوقت أطول، وتشكيل منتج أكثر قوة.

في عام 1999 قام العلماء بطباعة هيكلٍ صناعي لمثانة بشرية ثم تغليفه بخلايا بشريّة لإنتاج أعضاء اصطناعية وظيفيّة.

بدأ الباحثون في مجال الطب بالتفكير بهذه التقنية الجديدة، أليست الأعضاء البشرية مجرد أجسام لها ثخن وعرض وارتفاع؟ مثل أي هيكلٍ آخر يتم طباعته؟. المشكلة فقط هي استخدام المواد البيولوجية بدلًا من البلاستيك في الطباعة، وانطلق العلماء للبحث عن هذه المواد. ففي عام 1999 قام العلماء بمعهد ويك فورسيت للطب التجديدي باستخدام طابعة ثلاثية الأبعاد لطباعة هيكلٍ صناعي لمثانة بشريّة، ثم قام العلماء بتغليف الهيكل بخلايا تمّ أخذها من المرضى لينتج بعد ذلك أعضاء اصطناعية وظيفيّة.

وفي عام 2002 قام الباحثون بطباعة كلية مصغّرة وظيفيّة، قادرة على فلترة الدم وإنتاج البول. ثم في عام 2010، قامت شركة Oragnovo بطباعة أول وعاء دمويّ.

معهد ويك فورست.

تطوّرت فكرة الطابعة ثلاثية الأبعاد من فكرة الطابعة العادية؛ الطابعة النافذة للحبر. حاول ملاحظة طابعتك وهي تعمل، ستجد أنّ الآلة تتحرك بشكل أفقي على الصفحة، وأنّ الحبر يُنفث بشكل نقاطٍ صغيرة، والتي تتجمع لتشكيل صورة تختلف دقتها باختلاف كميّة الحبر المستخدم.

كما نعلم، تطبع الطابعة العادية على محورين X و Y فقط، أي في مجال ثنائيّ الأبعاد، أما الطابعة ثلاثية الأبعاد فهي تضيف بعدًا ثالثًا Z. والآلية التي تتغلب على ذلك بواسطتها هي رافعة تُحرك منصةً إلى الأعلى والأسفل لتقوم بوضع الحبر بشكلٍ عموديّ بالإضافة للشكل العادي الأفقي. قم بتعبئة المخزن بالبلاستيك وسوف تطبع قطعةً بلاستيكيّة ثلاثيّة الأبعاد. وبالمبدأ نفسه، قم بتعبئة المخزن بخلايا لطباعة كتلةٍ من الخلايا.

للأسف ليست الطباعة البيولوجية بهذه السهولة، فالأعضاء البشرية تتكون من أكثر من طبقةٍ واحدة، كما يدخل في تركيبها عدد كبير من المواد، وبما أنّ المادة هي نسيج حيّ، فهي بحاجة للمغذيات والأوكسجين، لذلك لابدّ لشركات الطباعة أن تعدّل طابعتها ثلاثية الأبعاد لتخدم المجتمع الطبي.


الأعضاء المطبوعة

عندما قام الباحثون ببناء طابعة ثلاثية الأبعاد قادرةٍ على استخدام حبرٍ بيولوجي وتشكيل كتلٍ من الخلايا، كان عليهم مقاربة المشكلة التالية: كيف يمكن للطباعة البيولوجية أن تنتج عضوًا محددًا لشخصٍ محدد؟.

لحل هذه المشكلة كان على الفريق جمع معطيات عن العضو المطلوب طباعته، حجمه وشكله ووضعه في جسم المريض، ثم كان على الفريق إعداده باستخدام حبرٍ بيولوجي من خلايا المريض نفسه. هذه الخطوة الأخيرة تُمكننا من التأكد بأنّ جسم المريض لن يرفض العضو المصنّع عند زرعه في الجسم.

من أجل طباعة أعضاء بسيطة كالمثانة، فلا يطبع الباحثون النسيج الحي مباشرةً، بل يقومون بطباعة هيكلٍ ثلاثيّ الأبعاد من بوليمرات بيولوجية قابلة للتحلل، أو الكولاجين، ولتحديد شكل هذا الهيكل فإنهم يستخدمون برنامجًا للتصميم الحاسوبي، ويقومون بتحديد المعطيات على كلّ من المحاور الثلاث؛ X وY و Z بأخذ قياسات المريض وتصويره بواسطة التصوير الطبقي المحوريّ CT أو التصوير بالرنين المغناطيسي MRI. بعد ذلك يقوم الباحثون بأخذ الخلايا من المريض بواسطة خزعة المثانة، ثم يتمّ وضعها في مزرعة لمضاعفة عددها بشكلٍ كافٍ لتغطية الهيكل المطبوع. بعد ثمانية أسابيع من العمل على هذا الهيكل تنتج المثانة وتكون جاهزةً للنقل إلى المريض وزرعها، يختفي الهيكل بعد أو خلال العملية الجراحية.


بالنسبة للأعضاء المعقدة

د.أنطوني عطا الله والكلية المطبوعة.

يقوم الأطباء بعمل CT أو MRI للعضو المطلوب طبعه، ثم يقومون برفع هذه الصور على الحاسوب وبناء نموذج ثلاثي الأبعاد بناءً على الصور بواسطة البرنامج الحاسوبي. وبعد دمج هذه المعلومات مع المعلومات النسيجية المعروفة عن العضو، يقوم العلماء ببناء نموذجٍ شريحة تلو الأخرى مماثلة لعضو المريض. كل شريحةٍ تعكس طريقة اتصال الخلايا مع بعضها والنسيج الخلوي في الفضاء ثلاثي الأبعاد. بعد ذلك يتم إرسال النموذج لطباعته طبقةً تلو الأخرى.

في النهاية، ينزع العلماء العضو من الطابعة ويضعونه في حاضنة دافئة هادئة للسماح للخلايا بالعمل والتواصل مع بعضها.


الفائدة من الأعضاء المطبوعة

للأسف حتى 2016، لم يستطع العلماء طباعة أعضاء جيدةٍ بما فيها الكفاية لاستخدامها في عملية الزرع. معظم الأعضاء تكون بسيطةً جدًا، غير مستقرة أو صغيرةً ولا تناسب الحجم البشريّ. كما عمل العلماء في معهد ويك فوريسيت على تشكيل خريطة ونظامٍ كاملٍ لطباعة الطعم الجلدية (skin graft) من خلال ماسح يقوم بمسح جرح المريض وطابعةٍ تقوم بطبع الخلايا والبروتينات والإنزيمات الضرورية لحياة الجلد البشريّ.

تفيدنا هذه النماذج في الجامعات الطبيّة لتعليم الطلاب والتدريب على القلوب والأكباد الحيّة، وليس النماذج البلاستيكيّة أو المحفوظة منها. يمكن لهذه الأعضاء أن تفيد شركات الدواء لتجربة الأدوية عليها أيضًا. فطباعة الخلايا تعطينا طرقًا أفضل لدراسة الأمراض في المختبر، ثم تطبيق العلاجات عليها. على سبيل المثال قامت مجموعة من الباحثين باستخدام نظامٍ لطباعة خلايا سرطان المبيض ثم قاموا بتنمية هذه الخلايا ودراستها وتجربة الأدوية عليها.

في ألمانيا، قام رالف غيبل وزملاؤه بطباعة رقعٍ بواسطة الطباعة ثلاثية الأبعاد، لمعالجة الأذى والجروح القلبيّة. تمّ اختبار هذه الخلايا البشريّة في قلوب الجرذان، وأظهرت تحسنًا واضحًا في الأداء. كما تمّ استخدام الطابعات في طباعة خلايا جذعيّة بشريّة جنينّة، وذلك في إدنبرا في 2013. تكمن أهميّة هذه الخلايا في قدرتها على التطوّر لأي نوعٍ من الأنسجة، أي يستطيع العلماء تنميتها وتجريب الأدوية والأمراض عليها بكل بساطة.


غمزةٌ بسيطةٌ إلى البيوهاكينغ

د.أنطوني عطا الله والكلية المطبوعة
ماك ألبين والأذن الخارقة.

يريد مايكل ماك ألبين Michael McAlpin أن يحوّلك إلى إنسانٍ خارقٍ بواسطة الطباعة ثلاثيّة الأبعاد،؛ فمشروعه الأخير هو عبارة عن أذنٍ صناعيّة مطبوعة تمّ طبعها بواسطة خلايا حيّة مع معدن الفضّة الناقل في طبقات متعددة. اكتشف مايكل أنّ زراعة القوقعة تحتاج وقتًا طويلًا وثمنًا مرتفعًا أيضًا. لكن مايكل لم يرد ذلك فحسب، « إنّ إعادة السمع المعطوب للحالة الطبيعية شيء نبيل، لكن ما أريده هو وشيعة تستقبل الإشارات الكهرومغناطيسيّة وتحوّلها مباشرةً إلى دماغك».

إذن يريد مايكل أن يجعل الاتصال مباشرًا بين الدماغ والهاتف بالاستغناء عن الأذن الوسيطة بينهما، لينقل الإشارات الكهربائية إلى البصلة السيسائية مباشرةً. هل يذكرك ذلك بشيء ما؟ ( الماتركس مثلًا؟).

«لقد تطوّرت الأذن البشرية لتسمع أصوات الحيوانات المفترسة والمهاجمة، أما الآن فمن الطبيعي أن نطوّر إحدى حواسنا للوصول إلى الدماغ مباشرةً، كهربائيًا»، بذلك نستطيع تخطي الحد الذي وضعته الطبيعة 20-20000 هرتز، لنسمع كالوطاويط والدلافين!.

لماذا الأذن إذن؟ حسب ماك ألبين، هي عضو بسيطة، بدون توعية غزيرة، فقط غضروف صرف. يعدّ ماك ألبين هذه التجربة من التجارب الأولى في تطوير معدّاتنا وأجهزتنا التي نمتلكها منذ الولادة.

في المرة القادمة، نستعرض معًا آخر التطورات في مجال الطباعة ثلاثية الأبعاد البيولوجية، مع عودةٍ كبيرة لأنطوني عطا الله مرةً آخرى!.

المراجع
  1. How 3-D Bioprinting Works
  2. A Mad Scientist Designing Organs That Could Give You Superpowers
  3. 7 Cool Uses of 3D Printing in Medicine