تناولنا في المقال الماضي تاريخ الطباعة البيولوجية والأهداف التي حققتها في الأعوام الماضية، لكن ماذا عن الآن؟ ما هي الفوائد الجديدة التي جناها العالم من هذه التقنية وإلى أين وصلنا؟


الجديد في 2016

بعد عشر سنواتٍ من التطوير، قام فريق البحث الذي يقوده أنطوني عطا الله من معهد ويك للطب التجديدي بالكشف عن نظام طباعة الأعضاء والنسج المتكاملة (ITOP) (tegrated tissue–organ printer).

أذن مطبوعة

قام العلماء لأول مرةٍ بصنع طابعةٍ بيولوجيّة ثلاثيّة الأبعاد، تقوم بطباعة مواد قويةً بما فيه الكفاية لتتحمل عملية زرع الأعضاء، لاختبار هذه الطابعة، قام العلماء بطباعة عظم الفك، بعض العضلات والغضاريف، وأخيرًا قاموا بطباعة أذنٍ بشريّة. تعمل الطابعات البيولوجية بنفس الطريقة التي تعمل بها الطابعات ثلاثية الأبعاد، باستخدام مواد مضافةٍ لصنع وتطوير هياكل معقدّة، طبقة تلو الأخرى، لكن بدلًا من استخدام البلاستيك والمعدن، فإنّ هذه الطابعات تستخدم مواد بيولوجية خاصةً لإنتاج نُسُجٍ حيّة فعّالة.

لا تستطيع الطابعات البيولوجية الحالية صناعة النسج بالحجم المناسب، أو القوة المناسبة، ومازالت المنتجات ضعيفة جدًا للاستخدام في عمليات نقل الأعضاء والجراحة. كما أنّها لا تستطيع طباعة عناصر دقيقة جدًا كالشرايين والأوعية الدموية، بدون هذه الأوعية لا تستطيع الخلايا أن تؤمن ما تحتاجه من غذاء وأوكسجين.

لا تستطيع الخلايا ببساطة أن تعيش بدون مواردها من الأوعية الدموية، التي تبلغ من الصغر ما يقارب 200 ميكرون، وهذا حجم صغير بالفعل

بقول د.أنطوني عطا الله، وهذا هو السبب الذي جعل الطباعة البيولوجيّة ثلاثيّة الأبعاد صعبةً تقنيّةً حقًا.

بعد أن نتأكد من سلامة وأمان هذه المطبوعات، يصبح بإمكاننا استخدامها لاستبدال الأعضاء المصابة أو العاطلة عن العمل في المرضى. وبما أنّ هذه الأعضاء مصممة عن طريق الحاسوب، فهي ستكون ملائمة بشكلٍ «شخصيّ ومخصص» لكل مريضٍ على حدة.

يسمح نظام الطباعة ثلاثي الأبعاد الجديد لنا بتخطّي هذه العقبات، باستخدام مواد بلاستيكية قابلة للتحلل (بوليمرات) لإعطاء الشكل للنسيج، و«جيل» ذي أساس مائي لإعطاء الخلية هيكلًا مناسبًا، لأنّ وجود هذا الهيكل الخارجي يساعد في الاحتفاظ بهيكل الجسم خلال عملية الطباعة. قام الباحثون أيضًا بإدخال قنوات ميكروية في التصميم لتسمح للمغذيات والأوكسجين بالوصول للخلايا عبر أي مكان في الهيكل.

لقد قمنا بإعادة تعريفٍ للأوعية الدقيقة بهذه الطريقة، بصنعنا لقنوات ميكروية تعمل كالسرير الوعائي فعلًا.
يقول عطا الله.

جرّب الباحثون الأعضاء المطبوعة بهذه الطريقة على حيواناتٍ حيّة ليتأكدوا من فعاليتها، فتمّ زرع أذن بشرية تحت جلد فأر، وبعد شهرين حافظت الأذن على هيكلها، وتشكّلت أوعية دموية ونسيج غضروفي لدعمها. كما تم زرع نسج عضليّةٍ أيضًا في الفئران، وكما حصل في التجربة السابقة، حافظت العضلات على هيكلها.

استخدمت الخلايا الجذعية لتشكيل عظام الذقن، وثم زرعها في الفئران، بعد خمسة أشهر استطاع الهيكل تشكيل سرير وعائي لتلبية متطلبات العظام. في المستقبل ربما نستخدم هذه التقنيات لطباعة العظام واستخدامها في عمليات إعادة تشكيل الوجوه في التشوهات والأذيات عند البشر. ويقول عطا الله أنّه استطاع مع فريقه طباعة الأنسجة بالحجم والقوة المناسبين، مع الاحتفاظ بالوظيفة المطلوبة استخدامها للعضو في البشر. يستطيع نظامهم تطوير أنسجة ذات هيكل مستديم وبقياساتٍ فعليّة يمكن تشكيلها على أي شكلٍ مراد اختياره، وذلك حسب حاجات كل مريضٍ على حدى.

بعد أنّ تقرر سلامة الهياكل وفعاليتها، يبدأ الباحثون في تجربتها على البشر، ولكن مازال الفريق يفكّر في سلامة هذه المطبوعات، وربما يستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن نرى ذلك على أرض الواقع، لكن على الأقل قمنا بتحقيق قفزةٍ نوعيّة خلال سنوات قليلة جدًا.


الدماغ والطباعة ثلاثية الأبعاد

مازال تطوّر الدماغ ووصوله لمراحله الأخيرة سرًا يحاول باحثو العلوم العصبية ودارسو الطب العصبي فهمه يومًا بعد يوم، لكن جاءت هذه التقنية مرةً أخرى لتساعدنا في فهم أو وضع حلولٍ لم تكن معروفةً من قبل لمشاكل قديمة.

الدماغ وتلافيفه

الدماغ تشريحيًا:

الدماغ وتلافيفه

تمتلئ القشرة الدماغية المغطية لأكثر أعضائنا تميّزًا بكثيرٍ من الانحناءات والطيّات والتجاعيد، بل أنّ الشيء المميِّز للدماغ عن كلّ الأعضاء الأخرى هي هذه الطيّات، والتي تزيد مساحة سطح الدماغ وبالتالي تزيد عدد العصبونات القشريّة، وكلّ ذلك مرتبط بالذاكرة، الوعي، التركيز، الأفكار وغيرها.

للأسف ما زالت آلية تشكُّل هذه الطيّات لغزًا محيّرًا في العلوم العصبيّة، كثيرٌ من الأبحاث خُصصت لدراسة الآليات الجينية والخلويّة المسؤولة عن تخلّق القشرة الدماغية لكن آخرها كان على النماذج الرياضيّة والفيزيائيّة للدماغ. وحسب دراسةٍ في مجلة نيتشر، دُرس التطور الفيزيائي للدماغ، أيّ اعتماد الفيزياء بدلًا عن البيولوجيا في الدراسة. باستخدام مواد مطبوعة بتقنية الطباعة ثلاثيّة الأبعاد لتحفيز الدماغ في مراحل تشكّله، وجد الباحثون أنّ تطوّر القشرة ترافق بقوى ضغطٍ تحصل بسبب اختلاف معدلّات النمو بين الطبقات المختلفة في الدماغ.

الاسم التقنيّ لتشكّل طيات الدماغ هو gyrification أي «تشكيل تلافيف الدماغ». تبدأ جميع أدمغة الثديّات بشكل أملس، ثم تبدأ التلافيف بالتشكل وتستمر بعد الولادة. تطوّر الـ Gyrification بطريقةٍ مفيدةٍ لتحميل أكبر حجمٍ من القشرة الدماغية داخل الجمجمة الصغيرة. إذًا سبب هذه العملية معروف وواضح، لكن العملية الفيزيولوجية التي سببتها لم تكن واضحة.

حاليًا التفسير الأسهل هو أنّ التوسّع الخارجي لطبقات القشرة الدماغية بالنسبة للطبقات الموجودة تحتها يؤدي لتوليد ضغط عليها، مما يؤدي لتشكّل ميكانيكيّ للطيّات في القشرة، أيّ أنّ السبب فيزيائيّ بحت. تختلف التلافيف والشقوق الناتجة عن هذه الآلية، ولكنها محكومة بجغرافية الدماغ المحددة.

هنا يدخل دور الطباعة ثلاثية الأبعاد، حيث تمّ طباعة نموذج فيزيائيّ للدماغ، بواسطة جيل تمت طباعته بحيث يتوسّع بمعدلات مختلفة عند وضعه في المحلول. يتعرّض هذا الجيل للتغيّر كما يتطور الدماغ على أرض الواقع، وبذلك كان من الممكن رؤية عملية تشكل التلافيف بشكلٍ مباشرة.

من المتأمل أن يساعدنا فهمنا لتطوّر القشرة في تطوير فهم أفضل للتطور العصبي الطبيعي والتطور العصبي للأمراض، مثل الفصام، التوّحد وغيره، ومن المثير للاهتمام أن يكون السبب فعلًا في هذه الأمراض فيزيائيًا بدلًا من أن يكون بيولوجيًا.


في مجال الأعضاء المطبوعة المعقّدة

يتم صرف حوالي 1.8 مليار دولار وقضاء 12 سنة في الدراسة لتطوير عقارٍ موافق عليه من قبل FDA، وذلك لأن أكثر من 90% من العقاقير لا تتخطى مرحلة التجارب على الحيوانات أو التجارب البشرية السريرية. بواسطة هذا التطوّر الجديد، تستطيع الشركات الدوائية أن تقوم بالدراسات على الأعضاء مباشرةً دون الحاجة إلى القيام بدراسات على الحيوانات أو البشر للتأكد من سلامة وأمان الأدوية الجديدة وفعاليتها على المرضى. وبما أنّ الكبد هو المصنع الأكبر في جسم الإنسان، والمسؤول عن طرح السموم والتخلص منها، كما أنّ نسبةً كبيرةً من الأدوية تُستقلب وتٌعالج من خلاله، فكان لا بدّ لنا من إيجاد طريقةٍ ما لتوظيف الطباعة البيولوجية لمساعدتنا في تقليل الوقت والتعب والقدرة المصروفة في الاختبارات السريرية للأدوية.

توضيح لتشريح الكبد

قام فريق بحثي في جامعة كاليفورنيا في سان ديغو بطباعة نسيج بواسطة تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، كان هذا النسيج مشابهًا لشكل ووظيفة النسيج الكبدي البشريّ، وذلك لاستخدامه في تجارب الأدوية والعقاقير على الكبد.

وقام الفريق بذلك بخطوتين:

  • طباعة نمطٍ يشبه توزّع بيوت النحل -مسدسات بحجم 900 ميكرومتر- يحتوي كلّ منها -المسدسات- خلايا كبديّة تم الحصول عليها بواسطة تحفيز الخلايا الجذعية متعددة القدرة. إحدى فوائد هذه الخلايا هي أنّ كونها منتجة من الخلايا الجذعية (المأخوذة من خلايا جلد المريض) فبإمكاننا أن نصنّع كلّ كبدٍ بشكلٍ مخصص لصاحب الخلايا.
  • الخطوة الثانية هي طباعة خلايا البطانة والخلايا الميزانشمية الكبدية في المسافات بين الخلايا الجذعية.

يتميز هذا النموذج بأنه أفضل من النماذج المطبوعة السابقة، حيث يحتاج لثوانٍ فقط لطباعته، بينما تحتاج النماذج الأخرى العديد من الساعات، كما أنّ هذا النموذج يستطيع المحافظة على وظائف الكبد الطبيعي لمدةٍ أطول من النماذج السابقة، وينتج مستويات أعلى من الأنزيمات مقارنةً بالنسخ السابقة.

يتميز الكبد بأنه يحصل على التروية الدموية من مصدرين مختلفين، كلّ منهما يتميز بضغط مختلف ومواد كيميائية مختلفة، ويقترح النموذج الأخير لقدرة على تطوير نظام تروية دموية مشابه لنظام تروية الكبد، وبالتالي الحصول على الخصائص الوظيفية للكبد الصحيّ والمريض.

في النهاية، لن تتوقف الأبحاث والدراسات هنا، بل ستستمر لإيجاد أفضل بديلٍ لزراعة الأعضاء البشرية، ولتجريب الأدوية ودراسة الأعضاء خارج الجسم البشري، وربما أحيانًا قد تتخطى ذلك لجعلنا نسخةً محدثةً من أنفسنا!

المراجع
  1. 3D-printing a new lifelike liver tissue for drug screening
  2. 3D Printing Reveals the Hidden Physics Behind the Brain's Folds and Furrows