منذ اللحظة التي تحررت فيها الإنسانية من قيود الجاذبية، وانطلقت محلقةً فوق الغلاف الجوي لكوكبنا الأزرق، أصبح بإمكاننا رؤية الكون كما لم نرَه من قبل. تخلصنا من قيود موقعنا هنا على الأرض، ولم يعد محكومًا علينا بالسجن داخل محيطها، لنكتشف حقائق كونية استعصت على تاريخ البشرية بأكمله، لتسمح لنا أخيرًا بالهرب إلى ما بين النجوم.

بفضل التقدم الذي أحرزته البشرية في استكشاف الفضاء، والإبداع الذي قدمته لنا وكالة الفضاء الدولية ناسا، رأينا أكثر مشاهد الكون روعة. وهذه قائمة بأعظم صور قدمتها لنا وكالة ناسا، وغيرت من نظرتنا للعالم وللكون بأكمله.


1. حقل هابل العميق الأقصى

تلسكوب هابل، حقل هابل البعيد، صور فلكية، ناسا، فضلاء
أثناء الهبوط إلى الهاوية نسترد كنوز الحياة. فحيث تتعثر، ستجد هناك كنزك الخاص في انتظارك.
الكاتب الأمريكي جوزيف جون كامبل

منذ أكثر من خمس عشرة سنة، التقط تلسكوب هابل أول صورة للحقل العميق. من خلال توجيه كاميرته إلى بقعة فارغة من السماء، وجمع الضوء لعدة أيام متتالية، ليتمكن من الكشف عما يوجد في هاوية الكون السحيقة: مليارات ومليارات من المجرات. تطورت معدات التلسكوب هابل عدة مرات منذ ذلك الحين، مما أدى إلى استغلال كل فوتون من الضوء، ليمتد بصورة أعمق في طيف الأشعة فوق البنفسجية والأشعة تحت الحمراء، وليمتد على حد سواء مجال رؤيته وعمقها.

وفي الخامس والعشرين من سبتمبر عام 2012، أصدرت ناسا نسخة إضافية منقحة من الحقل العميق الفائق أطلقت عليها اسم الحقل العميق الأقصى (Extreme Deep Field)، لتصبح أعظم صورة يتم التقاطها للكون على الإطلاق، حيث تكونت مما مجموعه 23 يومًا (مليوني ثانية) من الرصد في مساحة تبلغ 1/32000000 فقط من مساحة السماء بأكملها. ولم يعثروا على أكثر من خمسة آلاف مجرة ​​فحسب، لكنهم عثروا أيضًا على أمثلة توضح تطور المجرات، حيث كان بإمكانهم النظر إلى الماضي عندما كان الكون يبلغ 4% فقط من عمره الحالي، ليكتشفوا مجرة يُفترض أنها تكونت بعد 450 مليون سنة فحسب بعد الانفجار العظيم.

لقد تعلمنا كيف تطور الكون، وكيف انتقلت المجرات من بذور بنية صغيرة إلى كائنات سماوية عملاقة كما نعرفها اليوم. والأكثر إثارة للدهشة أننا تمكنا من معرفة أول تقدير دقيق لعدد المجرات في كوننا المرئي: تريليونا مجرة. واستنتجنا الكثير من هذه المعلومات نتيجة تقنية تصوير واحدة.


2. مهمة أبولو الثامنة وشروق الأرض

تلسكوب هابل، حقل هابل البعيد، صور فلكية، ناسا، فضاء، قمر، الأرض
لقد قطعنا كل هذه المسافة من أجل استكشاف القمر، ولكن كان أهم شيء هو أننا اكتشفنا الأرض.
رائد الفضاء ويليام أندرز

هذا هو المكان الذي نحيا به، في منتصف الفضاء الشاسع. على كرة صخرية محصنة ضد اللون الأسود القاتم اللانهائي، محاطة بغلاف من الهواء والألوان. كرة إعجازية، وهشة في ذات الوقت، مثل فقاعة الصابون.

في عام 1968، عرفنا نحن أبناء الأرض ذلك بالفعل. لكن تلك الفكرة المجردة جاءت عشية عيد الميلاد في ذلك العام. فأثناء استكشاف مواقع الهبوط على سطح القمر، التقط رائد الفضاء من مهمة أبولو الثامنة، وليام أندرز، صورة الأرض الزرقاء اللامعة، وهي تشرق فوق الجبال القمريّة ذات اللون الرمادي، مثل وجه كوني مبتسم.

هذه الصورة، التي أُرسلت لنا من الفضاء، وأسرت خيال العالم هي صورة شروق الأرض. حيث كانت هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها الإنسان الأرض تشرق فوق أطراف القمر، ولأول مرة ترى الإنسانية كم كانت الأرض جميلة وثمينة وصغيرة وهشة.

عندما كتبت الأخت ماري جوكوندا إلى وكالة ناسا لإعلامهم بالتوقف عن هدر الأموال لاستكشاف الفضاء بينما هناك الكثير من المعاناة والفقر والجوع هنا على الأرض، كتب إرنست ستوهلينجر، المدير المساعد للعلوم في ناسا آنذاك، خطابًا طويلًا ردًا عليها، وأرفق معه هذه الصورة، أقتبس منه:

تُظهر الصورة التي أرفقها بهذه الرسالة منظرًا لأرضنا كما التقطها بعثة أبولو 8 عند دورانها حول القمر في عيد الميلاد عام 1968. من بين كل ما نتج من برنامج الفضاء حتى الآن، قد تكون هذه الصورة هي الأكثر أهمية. لقد فتحت أعيننا على حقيقة أن أرضنا جزيرة جميلة ثمينة في فراغ لانهائي، ولا نملك مكانًا آخر سواه نحيا به، سوى هذه الطبقة السطحية الرقيقة من كوكبنا، يحدّها العدم القاتم للفضاء. ولكن لحسن الحظ، فإن عصر الفضاء لا يحمل لنا مرآة يمكن أن نرى فيها أنفسنا فحسب، بل يوفر لنا أيضًا التقنيات والتحدي والدافع، وحتى التفاؤل لمواجهة هذه المعاناة بكل ثقة.

بفضل مثل هذه الصورة، يمكننا الإجابة بثقة عن السؤال الدائم حول أهمية الاستثمار في العلوم، حتى مع كل المعاناة في العالم اليوم.


3. نقطة زرقاء باهتة

تلسكوب هابل، حقل هابل البعيد، صور فلكية، ناسا، فضاء، قمر، الأرض، نقطة زرقاء باهتة
هذا هنا. هذا المنزل. هذا نحن. على سطحها كل من تحب، وكل من تعرفه، وكل من سمعت عنه، وكل إنسان خُلق، وعاش حياته. ويبدو أنه لا يوجد توضيح أفضل على حماقة الإنسان وأوهامه أكثر من هذه الصورة البعيدة لعالمنا الضئيل.
عالم الفلك الراحل كارل ساجان

في الرابع عشر من فبراير عام 1990، وبعد أكثر من عقد من السفر بعيدًا عن الأرض، وفي طريقها إلى خارج المجموعة الشمسية، حوّلت المركبة الفضائية فويجر 1 عينها نحو الوطن.

تمكنت المركبة من التقاط صورة لستة كواكب، لتشمل هذه الصورة العائلية كلًا: من نبتون وأورانوس وزحل والمُشتري والأرض والزُهرة. حيث اُلتقطت هذه الصورة للأرض على بعد ستة مليارات كيلومتر، مما يجعلها أبعد صورة يتم التقاطها لكوكبنا على الإطلاق.

لم تتضمن خطة فوياجر الأصلية التقاط هذه الصورة، ولكن امتلك الراحل كارل ساجان نظرة مستقبلية، وقد كان جزءًا من فريق التصوير الخاص بالمركبة فوياجر، حيث اقترح توجيه كاميرا المسبار نحو الأرض، لإلقاء نظرة أخيرة على الوطن. شعر أغلبية الفريق بأن تحول الكاميرا باتجاه الأرض وبالتالي باتجاه الشمس قد يتسبب في تلف معدات الكاميرا الحساسة على متن المسبار بجانب استهلاك الطاقة بهدف غير مجدٍ، ولكن ساجان استطاع اقناعهم بأن هذه الصورة ستظهر لنا موقعنا الحقيقي في أرجاء هذا الكون الشاسع.

والآن مركبة فوياجر 1 على بعد حوالي 20 مليار كيلومتر، حيث ما زالت تواصل رحلتها إلى الفضاء بين النجوم كأكثر مركبة فضائية تبتعد عن الأرض في تاريخ البشرية.


4. الصورة الأولى من على سطح القمر

هذه خطوة صغيرة للإنسان، وقفزة هائلة للبشرية.
رائد الفضاء نيل أرمسترونج

بعد أن أدلى بهذه الكلمات التاريخية في العشرين من يوليو عام 1969، في اللحظة التي وضعت فيها البشرية قدمًا على عالم آخر غير عالمها، بدأ قائد مهمة أبولو 11 نيل أرمسترونج عمله لتوثيق ما يراه أمامه على سطح القمر. هذه هي الصورة الأولى التي التقطها أرمسترونج بعد الخروج من وحدة الهبوط «إيجل»، لتصبح أول صورة يلتقطها إنسان يقف على سطح عالم آخر، لتوثق لحظة أول هبوط للإنسان على سطح القمر، لحظة تتعدى كونها مجرد صفحة في كتب التاريخ، لحظة ساطعة للبشرية جمعاء.


5. أعمد الخلق

تلسكوب هابل، حقل هابل البعيد، صور فلكية، ناسا، فضاء، قمر، الأرض

العديد من السدم المرئية، سواءً في مجرتنا أو خارجها، هي مناطق تشكّل النجوم، حيث تنقبض جزئيات الغاز الباردة تحت تأثير الجاذبية لتخلق نجومًا جديدةً في أعماق قلوبهم المنهارة.

وفي عام 1995، ولأول مرة، تمكنّا من النظر بداخل قلب إحدى هذه السُدم، وهو سديم النسر على بعد 7 آلاف سنة ضوئية، لنكتشف أعمدة من الغاز والغبار الكوني وسط النجوم، وتحتوي هذه الأعمدة على نجوم صغيرة لا تزال في طور التكوين، تتبخر من الداخل والخارج، بفضل الضوء فوق البنفسجي المنبعث من النجوم الساخنة الشابة التي خُلقت لتوّها.

وبمعنى آخر، فإن أعمدة الخلق هي أيضًا أعمدة الدمار؛ حيث يكشف ضوء الأشعة تحت الحمراء والأشعة السينية عما يحدث للنجوم بالداخل، وبعد أن أصدرت ناسا نسخة محدثة عالية الدقة من الصورة بعد 20 عامًا، أظهرت التبخر البطيء والتغيرات التي تحدث داخل الأعمدة. وربما في خلال بضع مئات إلى بضعة ملايين من السنين، سوف تتبخر هذه النجوم تمامًا.

منذ مائة عام مضت، لم نكن نعرف حتى أن هناك مجرة ​​أخرى في الكون غير مجرتنا درب التبانة، لم نكن نعرف كيف نشأ الكون، وما هو عمره، أو حتى مما يتكون. لم نكن نملك أي فكرة عما سيؤول إليه مصير الكون النهائي، أو إلى متى ستضيء النجوم. ولكننا اليوم نعرف الإجابات على كل هذه الأسئلة، بل وأكثر من ذلك بكثير؛ فعندما تحررنا من القيود الأرضية، واتجهنا للسماء، واستثمرنا في علوم الفضاء، عرفنا الكثير والكثير من أسرار الكون، ولكنّا ما زلنا في بداية الطريق.

فلا يزال بإمكاننا استكشاف وتعلم وفهم الكون بما يتجاوز أحلامنا، وهذه الصور خير دليل على كذلك.