المآسي العظيمة وقود جيد جداً لإشعال نار الإبداع. عبارة تبدو كليشيهية جداً ومعتادة، ولكنها -مثل كل الكليشيهات التي نسخر منها- حقيقية للغاية. في الغالب تتيح المآسي الكبيرة مجالاً للعقل كي يبحث عن متنفس يتغلب على الألم والحسرة، ينطلق الخيال في فضاء لا نهائي باحثاً عن طريق للانتصار على الواقع. نرى هذا الانتصار في الفن والأب والعلم. من عمق المأساة يولد نجاح يربت على القلب المكلوم الذي لا يستطيع احتمال عذابات الواقع.

من أعظم المآسي التي يمكن للإنسان أن يعايشها مأساة الشتات، الاغتراب، الطرد من رحمة الوطن والأمان والكرامة. بالطبع عندما يعايش الإنسان المأساة بنفسه يكون أقدر على الإحساس بألمها، وبالتالي عندما يبدع في مواجهتها يكون إبداعه عظيماً كألمه، ولكن ليس بالضرورة أن يكون هذا المبدع قد عايش ألماً بهذا الحجم، يكفي فقط أن يستشعره ويصدقه ويؤمن بعمقه حتى تصبح وكأنها قضيته الخاصة.

يأتي الأدب في مقدمة صنوف الإبداع، لأنه يعيش طويلاً، ولأنه يتيح للخيال أن يعمل، فيجذب لصفوفه الكثيرين، في هذا المقال سوف نستعرض معاً 5 روايات تغلبت على ألم الشتات والاغتراب بالرواية، انتصرت للحق البشري في أن يتغلب على الألم، حتى لو عن طريق السطور.


1. ثلاثية غرناطة

عندما نتحدث عن الأدب والرواية، لابد أن تقفز لذهننا بشعرها الفضي وبسمتها الساحرة، رضوى عاشور. أفضل من كتبت عن الشتات والاغتراب والتهجير من النساء، في روايتها «ثلاثية غرناطة» تحكينا عن الأندلس الذي لم نعرفه، عن الإجبار على التخلي عن الأرض والدين في سبيل الحفاظ على الحياة، الحياة التي حتى مع كل هذا التخلي والألم، لم يكن الحفاظ عليها مضموناً.

تدور الرواية في العقود الأخيرة قبل سقوط الأندلس السقوط النهائي، تحكي عن عائلة جعفر الوراق التي سكنت حي البيازين. تختلق شخوصاً من لحم ودم يحاولون الحفاظ على هويتهم ودينهم ولغتهم، وحتى طعامهم. تصف الرواية كيف سقطت آخر ممالك الأندلس، وماذا واجه أهلها أثناء السقوط النهائي، وكيف كان الألم عظيماً، وكيف أن حب الحياة لا يصمد أمام ألم الشتات والتهجير، فيقرر آخر شخوص الرواية ألا يساق مع الآخرين، حتى لو مات.


2. طشاري

تحكي الكاتبة إنعام كجه جي حكاية طبيبة مسيحية عراقية تعمل في الأرياف، تحكي عن حياتها لتصف حيوات أبناء جلدتها في وطنهم العراق، تبدأ الرواية في حكاية الأحداث بداية من أواخر الخمسينات، وكيف كان العراق مؤلماً كوطن يقتل فيه الإنسان على الهوية، رغم أن البشر الحقيقيين فيه بعيداً عن السياسة لم يكونوا أعداء بأي حال من الأحوال، وتستشهد على ذلك بحكايات جيرانها ومريضاتها المسلمات.

تتأزم الأمور ويضطر الكثير من العراقيين للشتات في أنحاء الأرض نجاة بحيواتهم، فتصف الكاتبة هذا الشتات بالطشاري، وهي لفظة عراقية تعني التبعثر والتشظي، ورغم النجاة بالحياة التي في ظاهرها بعداً عن الألم، يستقر الحزن على الوطن الضائع في القلوب، فيبني الحفيد مقبرة تخيلية على الإنترنت كلعبة، يجمع فيها العائلة والأصدقاء في مكان افتراضي، تعويضاً عن الوطن الذي لفظهم وطردهم يوماً من رحمته، ولم يطردوه من قلوبهم.


3. الطنطورية

عودة مرة أخرى لرضوى عاشور، المتمكنة من حكي المآسي، وكأن قلبها خلق كإسفنجة تمتص الألم لتعيد إنتاجه في هيئة كلمات عصية على النسيان، هذه المرة تستعير مأساة عاشت طرفاً منها عبر زوجها مريد البرغوثي الفلسطيني الذي أعارها ألمه لتكتب حكاية رقية الطنطورية التي ظلت تعلق مفتاح دارهم في رقبتها بعد النزوح إلى لبنان ثم مصر ثم لبنان مرة أخرى.

في «الطنطورية» تحكي رضوى حكاية قريبة لأذهاننا لأن المأساة طازجة في عقولنا جميعاً، وما زلنا نراها إلى اليوم. تحكي حكاية ثلاثة أجيال فلسطينية مشتتة في بقاع الأرض، لم يعوضهم المال والعلم والمكانة الاجتماعية عن هوية وطنهم الضائع، فظلت الطنطورية حية في أذهانهم جميعاً، لا يحتاجون أن يسردوا وقائع شخصية ليتجدد الألم، فهو مستقر هناك في القلب، قرب مفتاح البيت الذي لم يعد موجوداً.


4. شآبيب

أقسى ما يمكن أن يتعرض له الإنسان هو أن يهاجمه عقله، يخوفه وينهش أمانه، يكرر عليه أنه سيأتي اليوم الذي سيكون فيه هذا الإنسان مشرداً، وطنه تضاءل حتى لم يعد موجوداً، وحتى لو كان موجود فهو طارد، مؤلم، يمتص دماء أبناءه بلا توقف، ولا أمل في أن يتغير. الخوف من الشتات والضياع هو السمة الرئيسية التي تصف رواية «شآبيب»، آخر روايات الراحل د. أحمد خالد توفيق.

في الرواية يخلق د. أحمد خالد عالماً خيالياً يضيق بالعرب، تضيق بهم بلادهم ويضيق بهم المهجر، لم تحدد الرواية زمناً تدور فيه الأحداث، ولكنها تدور في المستقبل الذي ربما كان قريباً جداً فهو يستقي رؤيته مما يحدث الآن في كل يوم في بلادنا، ويرى غداً مظلم يضطر فيه العرب مسلمين ومسيحيين للتسليم بأنه لم يعد لهم مكان في العالم المأهول، فينساقون وراء حلم مخبول بأن يخلقوا عالماً جديداً، خالياً من المنطق والواقعية فيتهدم على رؤوسهم ليتضاعف الألم.


5. كتاب الزنوج

مأساة إنسانية لم يعاصرها الكاتب ولا أي ممن قرءوا روايته، يصف لورانس هيل في روايته «كتاب الزنوج» مأساة الأفارقة الذين استغلهم العالم الأبيض وهجرهم من أوطانهم ليستعبدهم اعتماداً على فارق القوة والسطوة الذي يتمتع به العالم الأبيض المتقدم، مقارنة بالأفارقة القبليين في القرن الثامن عشر، مأساة إنسانية كاملة تواطأ فيها العالم كله لعقود كثيرة.

تحكي الرواية قصة أميناتا ديالو الفتاة الأفريقية التي استعبدت، والتي عاشت تجاهد كي تثبت أنها حرة، حتى لو لم يعد هناك وطن يمكن أن تعود إليه. الشتات والتهجير والتنكيل والإذلال الذي تعرضت له يلخص تاريخ البشرية القاسي الذي يبدو أنه تغير، ولكنه في الحقيقة ما زال يعيد إنتاج المأساة بإصرار يثير الإعجاب، ليثبت أن القسوة هي اسم اللعبة.