إذا أردنا القيام بمسح إحصائي شامل لأكثر نصيحة تكرارًا على ألسنة الأطباء لمرضاهم حول العالم، فسنجد في المقدمة وبفارق كبير: توقف عن التدخين ! وفي نفس المسح الإحصائي، إذا أردنا التعرف على أكثر نصيحة طبية يفشل المرضى – وحتى بعض الأطباء أنفسهم للأسف – في تنفيذها، فتكون أيضًا الإقلاع عن التدخين.

هنا سنعرض أهم الطرق الآمنة والفعالة للإقلاع عن هذه العادة، التي تُجمِع الأبحاث الطبية في معظم التخصصات، خاصة القلب والصدر والأورام، على أنها تفتح ألف بابٍ وباب للمرض. والخطوات التي سنذكرها، لا يشترط على كل راغبٍ في الإقلاع عن التدخين أن يمر بجميعِها، لكن لا مفر من أكثرها.


أولاً: الاقتناع التام بأهمية الإقلاع عن التدخين

لا يمكن أن يبدأ أحدنا برنامجًا فعالًا للتخلص من هذه العادة، ما لم يكن مقتنعًا تمامًا بخطورة التدخين، وبأن التوقف عنه سيحدث فارقًا في حياته صحيًا ومعنويًا وماديًا واجتماعيًا. لا تلتفت للأمثلة التي تبدو استثنائية لبعض المدخنين الذين لا يبدو عليهم ظاهريًا أية مشكلات، فما خفيَ أعظم، وبعض مشكلات التدخين لا تظهر إلا متأخرًا بمضاعفاتٍ خطيرة.

وعمومًا الاستثناءات لا تنفي القاعدة الأصلية، وثِقْ أن هؤلاء – وأنت – بدون التدخين، لكانوا أفضل على كل المستويات. نعم لن تستطيعَ منع الموت في أوانه مهما التزمت بالإقلاع عن التدخين وكافة التعليمات الصحية، لكن بالتأكيد ستكون جودة حياتك أفضل بفعل هذا، حتى يأتي الأوان المقدور.

وخذ هذه البيانات الإحصائية الموجزة جدًا عن مضار التدخين كحوافز:

  • أكثر من نصف المدخنين يتوفون نتيجة أسباب تتعلق بالتدخين.
  • متوسط العمر المتوقع للمدخنين إحصائيًا أقل 10 سنوات من غير المدخنين.
  • في بريطانيا، يتخطى 8 من كل 10 سن السبعين بين غير المدخنين، بينما 5 فقط من كل 10 من المدخنين.
  • سنويًا حول العالم، يفقد أكثر من 7 ملايين إنسان حياتهم لأسباب تتعلق بالتدخين.
  • يخسر العالم سنويًا أكثر من 1.4 تريليون دولار ( 1400 مليار) بسبب التدخين، كنفقات للخدمة الصحية للمضاعفات التي يسببها التدخين، وكخسارة في طاقة الإنتاج نتيجة أضرار التدخين على صحة البشر في فترات الإنتاج من أعمارهم.

على الجانب الآخر هناك بعض الإحصاءات الإيجابية عن انتشار حالة الوعي بضرورة الإقلاع عن التدخين. ففي إنجلترا، تُظهر الإحصاءات تناقصًا مستمرًا في نسبة المدخنين على مدار النصف قرن الماضي. ففي عام 1972 كانت نسبة المدخنين حوالي نصف عدد البالغين، بينما مؤخرًا انخفضت النسبة إلى النصف.

انظر أيضًا: التدخين والطب .. لا داعي للمبالغة.


ثانيًا: ببطء .. لكن بثقة

هذا المثل الإنجليزي العبقري slow but sure نحتاجه هنا جدًا. لا تحمل نفسك على الأمر فجأة، فتيأس، وتعود إلى التدخين أشد من السابق. ضع خطةً تناسب ظروفك وقدرتك على التحمل، حتى لو كانت تدريجية، وبطيئة. ولا تستقل أي خطوة في مسارك. فالسيجارة الواحدة التي تستطيع عدم إشعالِها، لا تشعلها، واعتبره انتصارًا صغيرًا له ما بعده.

لكن في المقابل، لا تنخدع بالتدريج لتستمر سنوات في التدخين ولو بمعدل أقل، فحتى لو وصلت إلى سيجارة واحدة يوميًا، فعلى مدار الشهور والسنين، سيظل هناك قدر غير قليل من الخطورة على صحتك من مضاعفات التدخين مثل جلطات شرايين القلب التاجية، …إلخ.


ثالثًا: لا تكن عاطلا .. لا تكن وحيدًا

هذه الكلمات الذهبية التي قالها الراحل العظيم د.أحمد خالد توفيق في سياقٍ عامٍ، يمكن استعارتها هنا. ستكون الأيام الأولى للتوقف عن التدخين صعبة للغاية، فالرغبة في التدخين ستشتعل في كل بقعةٍ بداخلك .. عقلك، وقلبك، وصدرك، وحتى أصابعك التي اعتادت الإمساك بالسيجارة وإفراغ الانفعالات الجانبية فيها.

التعطل والملل، من أهم بواعث التدخين لدى الكثيرين، فنقب عن هواياتك المفيدة، والجأ لها، وشاغل نفسك أولًا بأول.

شاغِل جسمك بالرياضة، خصوصًا وأنها ستُشعِرُك بالفارق الإيجابي في لياقتك البدنية بعد التخلص من الدخان. وكذلك استمتع بالتمشية في المساحات الخضراء، وابتهج بالنسيم العليل غير المتكدر بالدخان.

شاغِل حواسك بالاستماع للأغاني الجميلة، ومشاهدة الأفلام والوثائقيات الممتعة.

شاغِل أصابعك المعتادة على السجائر، بالإمساك دائمًا بشيء شبيه كقلم أو حتى مصاصة عصير.

شاغِل صدرك بأنفاسٍ عميقة تأخذها ببطء وتخرجها ببطء. يذكر بعض المدخنين أن التدخين الوهمي بأنفاسٍ عميقة عبر مصاصة عصير مثلًا قد ساعدهم في الأيام الأولى من الإقلاع!

شاغِل فمك باللبان أو السواك أو الحلوى أو بالأطعمة التي تحبها، وكذلك بشرب الماء الوفير.

أرِحْ أعصابك ما استطعت بتقديس أوقات النوم، وتخصيص وقت جيد للعائلة والاسترخاء بعيدًا عن العمل وضغوطاته.

ولا تترك نفسك وحيدًا، خاصة في الأيام الأولى الصعبة للتوقف، حين ينقض عليك عقلك الجائع للنيكوتين. استمد بعض القوة والسلوان من قضاء أوقاتِك مع الأسرة، وكذلك مع الأصدقاء من غير المدخنين، وحبذا لو بدأت مشوار الإقلاع عن التدخين مع أحد الأصدقاء لتتواصيا بالإقلاع وبالصبر عليه.

لكن احذر من غواية المدخنين لك في هذه الفترة العصيبة. فالبعض ستُشعرهم مبادرتك القوية بالإقلاع عن التدخين بالعجز، وبتأنيب الضمير، لعجزهم عن الإتيان بمثل ما تفعل، ولن يستريح ضعاف النفوس إلا عندما يرونك تحرق أنفاسَك بالدخان مثلَهُم. ولذا حاول عند خروجك من المنزل قضاء وقت كبير في الأماكن غير المسموح فيها بالتدخين.

يذكر الكثيرون أنهم يلجأون للتدخين بسبب ضغوطات العمل والحياة. عوِّد نفسك حين تدهمُك الضغوطات أن تلجأ لصديقٍ مقرب أو لأفرادٍ من أسرتك، أو لزملاء مخلصين في العمل، …إلخ لتنفث لهم أولًا بأول همومك نتيجة هذه الضغوطات، بدلًا من الشكوى للسيجارة التي ستشتكي منها عاجلًا أو آجلاً. وإذا كنت تشعر أن الضغوطات عليك كثيفة، وتؤدي إلى قدر كبير من التوتر والانفعال، فلا مفر من الاستشارة الطبية النفسية، والتي ستساعدك في إدارة الضغوطات، مما سيسهل إقلاعك عن التدخين.

وأخيرًا كافئ نفسك بشكل يومي وأسبوعي وشهري …إلخ على النجاح في الإقلاع عن التدخين.


رابعًا: أدوية تعويض النيكوتين .. للأسابيع الصعبة الأولى

ننتقل الآن من الخطوات التي تبدو كأنها كلامٌ إنشائي – رغم أنها هي الأساس في الإقلاع عن التدخين – إلى الخطوات الدوائية. النيكوتين هو المادة الفعالة الرئيسية في السجائر، والمسئولة عن حالة التعود الدماغي عليها، والتي تشبه الإدمان. لهذا السبب، ظهرت الأدوية التي تحتوي على النيكوتين بتركيزات مختلفة، وطرق تعاطٍ متنوعة، وذلك لمساعدة المدخنين على التخلص من تدخين السجائر.

هذه الأدوية تساعد في الأسابيع الأولى من الإقلاع عن التدخين في التخفيف من آثار الحرمان من النيكوتين؛ كالقلق، والضيق، والاضطراب، والرغبة الحادة في التدخين …إلخ. وكذلك يمكن أن يستخدمها المدخنون بشراهة، لتقليل كمية السجائر التي يتعاطونها يوميًا، وهذا بلا شك أفضل من الحصول على النيكوتين بجانب مئات السموم الأخرى الموجودة في السجائر.

يجب التأكيد على أن هذه الأدوية مرحلة مؤقتة لحين التخلص التام من السجائر، لأن الاستمرار عليها بشكل دائم، يعرضنا لأضرار النيكوتين على القلب والشرايين والمخ …إلخ. وبالنسبة لسعرها المرتفع نوعًا ما، فهي بالتأكيد أرخص كثيرًا من كلفة التدخين + تكلفة الإنفاق الصحي على علاج المضاعفات الصحية للتدخين والتي قد تحدث عاجلًا أو آجلا، وبعضها مكلف للغاية على الجيب، وعلى الصحة بالطبع.

وهي عمومًا آمنة للاستخدام لدى معظم المدخنين، عدا بعض المحاذير المانعة ، كالحمل والرضاعة، وخلال أسبوعين من جلطة حادة بشريان القلب، وفي وجود آلام الذبحة الصدرية، وللمراهقين تحت ١٨ عامًا.

أشهر الأمثلة لمعوّضات النيكوتين، لبان، ومُستَحلَب النيكوريت، ومتوفر منه تركيزي ٢ مجم، و٤ مجم. ونستخدم هذا أو ذاك حسب مدى إدمان النيكوتين لدى الشخص، ويستدل عليه بأول سيجارة يفتتح بها يومه، فإن كانت خلال نصف ساعة فقط من اليقظة، فالأفضل استخدام التركيز الأعلى. والجرعة تكون متدرجة تنازليًا، ففي الشهر الأول يمكن استخدام حتى قطعة لبان كل ساعة أو اثنتين. ثم في الثاني كل ٤ ساعات، ثم في الثالث كل ٦-٨ ساعات لا أكثر. وتكلفة العبوة الواحدة ١٠٠ قطعة من تركيز ٢ مجم حوالي (٣٥ دولار). والحد الأقصى للاستخدام اليومي ٢٠ قطعة.

ويجب مضغ اللبان ببطء لحوالي نصف ساعة للحصول على أكبر فائدة منه. وفي حالة حدوث إحساس لاذع بالفم، يُنصَح بتحريك القطعة باللسان إلى ما بين جدار الفم الداخلي، والأسنان، فهذا يقلل الإحساس اللاذع، والذي يقل تدريجيًا في الجرعات التالية.

وهناك كذلك لاصقة جلدية ( نيكورديرم ) توضع لمدة ٢٤ ساعة، ومنها تركيزات 7 و 14 و 21 مجم. وتستخدم أيضًا بشكل متدرج تنازليًا، في الشهر الأول توضع لاصقة واحدة 21 مجم يوميًا، وفي الثاني 14 مجم، وفي الثالث 7 مجم. لكن يعيبها أنها قد تسبب بعض الأرق ليلًا، أو بعض الالتهابات الجلدية في مكان لصقها. ويوجد كذلك بخاخ نيكوتين للأنف أو الفم.

وبالطبع يجب أن يتم تعاطي هذه الأدوية بإشراف الطبيب.


خامسًا: السيجارة الإلكترونية

لوحظ في الفترة الأخيرة الانتشار المتزايد للسيجارة الإلكترونية – E-cigarettet خاصة بين الشباب بحجة أنها أقل سوءًا من السجائر، حتى اختُصّت بفعل إنجليزي خاص بتدخينها بدلًا من smoking سيئ السمعة، وهو vaping!

بالفعل هي تحتوي على سموم أقل من السجائر، فهي تحتوي بالأساس على النيكوتين، وبالتالي يمكن استخدامها كمعوض نيكوتيني في فترة الإقلاع، لكن يعيبها أنها تشبه عملية التدخين المعتادة كثيرًا، وبالتالي يصعب الإقلاع عنها مقارنة بالوسائل الأخرى كاللبان والمستحلب واللاصقة …إلخ. كما يؤخذ عليها أنها أصبحت مدخلًا للكثير من الشباب إلى التدخين. ولذا نؤكد أنها غير آمنة، نعم أقل سوءًا من السجائر، لكنها تدخين أيضًا، ولها أضرارها الخاصة المثبتة علميًا.


سادسًا: أدوية أخرى تساعد في الإقلاع عن التدخين

ننوه على أنه لا تناول لدواء بدون وصف من طبيب بما يتناسب مع حالتك، وهناك أدوية بالطبع تساعد على الإقلاع عن التدخين، استشر طبيبك قبل استخدامها.

منها دواء الفارينكلين، واسمه التجاري شانتيكس. وهو أيضًا يستخدم لتقليل أعراض الانسحاب من النيكوتين لدى المقلعين عن التدخين. يقوم هذا الدواء بتفعيل مستقبلات النيكوتين في المخ، ولكن بقدر أقل، وأخف ضررًا، وبالتالي يقلل من أعراض الحرمان من النيكوتين والتي تكون عاصفة خاصة في الأيام والأسابيع الأولى.

يستخدم الشانتيكس بجرعات متصاعدة بشكل تدريجي، في الأيام الثلاثة الأولى نصف مجم يوميًا، ثم في التي تليها ١ مجم يوميًا، ثم باقي مدة العلاج – غالبًا ٣ أشهر – يستخدم بجرعة ١ مجم مرتين يوميًا. ويبدأ كورس العلاج قبل أسبوع من التوقف عن التدخين.

ومن أهم آثاره الجانبية الميل للقيء، والإمساك، وغارات البطن واضطرابات النوم. ويفضل عدم استخدامه للحوامل وللمراهقين، وللمصابين بفشل كلوي متقدم.

وهناك أيضًا دواء البوبروبيون، وهو من مضادات الاكتئاب. وهو أيضًا يقلل من أعراض انسحاب النيكوتين، لكن يعيبه أن آثاره الجانبية أشد خطورة، وإن كانت غير شائعة، ومنها الأرق الشديد، والنوبات الصرعية.

يحتاج الجسم إلى شهور وسنوات للتخلص تدريجيًا من الآثار السلبية للنيكوتين، فلا تتأخر في قرارك بالتوقف. واستعِن بإرادتك، وبما سبق من خطوات، وستتخلص بإذن الله من أكبر قاتل بطيء عرفته البشرية.