يسأل سائل:عندنا إشكال في نشأة هذا الكون.. فأنتم قلتم أن هناك إلها خالقا له، فانتقل الكلام من السؤال عن تفسير وتعليل هذا الكون إلى الكلام عن تفسير وتعليل نشأة هذا الإله. وهذا مخالف لمبدأ أوكهام الذي يقول أننا ينبغي أن نختار التفسير الأبسط لا الأعقد، وواضح أن ما يُقال عن الإله وأنه غير مخلوق يمكن أن يُقال عن نشأة الكون وأنه غير مخلوق كذلك، ولكن تفسير الكون فقط أبسط من تفسير الكون والإله، فينبغي أن نرفض التفسير المبني على وجود الإله على هذا الكلام.هذا السؤال يتكرر كثيرا في أوساط المثقفين العرب وأشباه المثقفين، حتى أن بعضهم قد نظمه في صورة شِعرية فقال:

لمّا جهلتَ من الطبيعةِ سِرَّها ** وأقمتَ نفسك في مقامِ مُعلِّلِ
أثبتَّ ربّا تبتغي حلا به ** للمشكلاتِ فكان أعظمَ مُشكِلِ

وهذا السؤال هو مثال جميل، لأنه يوضِّح إصابة بعض المتكلمين في الأديان من الملحدين وأدعياء العلم بجهالات مركبة، جهل بالعلم الذين يدّعون نصرته من ناحية، وجهل بالدين الذي يهاجمونه من ناحية أخرى، ثم يدّعون أنهم المتكلمون بلسان العلم مع كونهم واقعين في ظلمات من الجهل بعضها فوق بعض. ولسنا نعني بهذا الكلام أشخاصا بأعيانهم، وإنما تعنينا الفكرة لا الأشخاص.


ما هو مبدأ أوكهام Occam’s razor؟

غاية ما يقوله مبدأ أوكهام هو أنه ينبغي عليناأن نفضِّلَ النظريةَ العلمية الأبسط على النظرية العلمية الأعقد إذا تساوتا من حيث القوة في تفسير الظواهر. ثم إن هذا التفضيل هو مجرد تفضيل، وليس معناه (كما لا يصح أن يخفى على عاقل!) أن النظرية الأبسط هي الصحيحة المطابقة للواقع.

وذلك التفضيلِ لأن النظرية الأبسط أسهل في نقضها بالمشاهدات من النظرية الأعقد ، فمتى نُقِضت ((falsifiedبالمشاهدة انتقلنا للنظرية الأعقد ، فنتقدم علميا بشكل أسرع ..

هذا هو الاستعمال المشهور لهذه الفكرة الآن.

وهناك نظرة أخرى فلسفية مرتبطة بمبدأ أوكهام وليست هي الاستعمال المشهور له،نتكلم عليها بعد قليل.


إبطال الاستدلال بمبدأ أوكهام على نفي وجود الإله

يأتي ملحد ويقول:

«For example, in the theological debate between atheists and theists, both attempt to account for the existence of the universe using similar ideas. Atheists believe that the universe is self-contained and had no preceding ’cause’. Theists believe that the universe was created by God, and that God is self-contained and has no ’cause’. Both theories contain a similar uncaused element, but, the theistic theory contains an additional assumption that the uncaused cause is a God. By employing Occam’s razor, many would guess that the simpler atheistic theory is more likely to be correct because it contains less unanswered questions (assumptions) than the theist one»
وترجمة كلامه بالعربية:

نقول: هذا كلام باطل!أولا: لأن مبدأ أوكهام لا يفيد صحة النظرية الأبسط كما يدعي قائل هذا الكلام، وإنما يرجح اختيار النظرية الأبسط اختيارا عمليا براجماتيا لنحو السبب الذي ذكرناه من سهولة نقضها. فمبدأ أوكهام ليس مبدأ لتصحيح نظرية على أخرى، وإنما لتفضيل النظرية الأبسط على الأعقد إذا تساوتا.ثانيا: أن هذا المبدأ مجال عمله ما إذا تساوت الأدلة بين النظريتين. وما ندعيه أن الأدلة ليست متساوية أصلا، بل نحن –كما سنبيّن في مقالات إثبات وجود الله- ندعي أن وجود الله عز وجل مؤيد بالبراهين العقلية القاطعة، وأن دعوى عدم وجوده هي دعوى متهافتة مليئة بالتناقضات والإشكالات التي لا حل لها. وسنبين ذلك بالتفصيل في كلامنا عن أدلة وجود الله.

ثالثا:نحن لم ندعِ أننا اخترنا أن نفسر الكون بأنه مخلوق خلقه إله خالق كمحاولة أو فرضية لتفسير نشأة الكون، أو أننا لما عجزنا عن تفسير مشاهدات كونية معينة بالعلم التجريبي لجأنا إلى تفسيرها بأن هناك إله هو الذي فعل كذا (God of the gaps)، بل نحن نقول أن الكون متصف بصفات (كالإمكان، والتغيُّر، والحدوث والتجدد)، وأن التأمل العقلي في هذه الصفات (كما سنبين في كلامنا على أدلة وجود الله) يؤدي بالضرورة إلى الوصول إلى حقيقة افتقاره إلى سبب.

فإن قولنا: «أن الكون مفتقر إلى خالق» ليس لمجرد أن الكون شيء من الأشياء الموجودة، وإنما لصفات قائمة في هذا الكون، من تأمله دلت على ضرورة افتقاره لسبب مؤثر، ولو كانت هذه الصفات موجودة في هذا السبب المؤثر لكان مفتقرا بالضرورة أيضا إلى سبب آخر مؤثر، وهكذا ، فإن هذه السلسلة لابد أن تنتهي إلى ذات ليست متصفة بتلك الصفات التي يتصف بها الكون التي بسببها قطعنا بافتقاره واحتياجه إلى موجِد.

وسأضرب مثالا أقصد به تقريب هذه الفكرة الهامة للأذهان:

تخيل أنك رأيت مشتركا كهربائيا ، فقلت أن هذا المشترك من صفاته أنه موصّل للكهرباء وليس منتجا لها، فلابد أن يكون قد اكتسب الكهرباء التي فيه من شيء قبله، فنظرت في هذا الشيء الذي قبله فوجدته هو الآخر مشتركا كهربائيا.. فإنك ستقطع أن هذا المشترك ليس هو الآخر مصدرا للكهرباء ، وأنه لابد أن يكون قد اكتسبه من مصدر آخر، وهكذا فإن هذه السلسلة لابد أن تنتهي إلى مصدر للكهرباء.

فهل يمكن الاعتراض عليك حينئذ بمبدأ أوكام فيُقال لك:

إنك قد انتقلت من النظرية البسيطة أن المشترك هو مصدر الكهرباء إلى نظرية أعقد وهي أن المشترك قد اكتسب الكهرباء من غيره ، وأن هذا الغير هو مصدر الكهرباء؟!

إن هذا الكلام غير صحيح، وستجيب عنه قائلا:

إن حقيقة المشترك الكهربائي أنه مجرد موصِّلٍ للكهرباء وليس مصدرا لها، ولذلك قلت أنه اكتسب الكهرباء من غيره، وأنه حتى لو كان هناك 100 مشترك ووضعنا سلك كل منها في الآخر ، فإن هذه السلسلة لابد أن تنتهي إلى مصدر للكهرباء ليس يشبه المشترك في كونه موصلا، وإنما له صفة الإنتاج للكهرباء.

هذا مثال للتقريب وتبسيط الفكرة فقط، ومقصودنا أننا قلنا بافتقار الكون إلى الخالق ليس لأنه (شيء من الأشياء ولكل شيء سبب)، وإنما لأنه (متصف بالإمكان) (أي أن وجوده ممكن وعدمه ممكن)، والحدوث (أي أنه مسبوق بعدم)، والتغيُّر (أي أنه تجري عليه الأحداث والأعراض) وأن هذه الصفات هي التي أوصلتنا بعد ترتيب مقدمات عقلية معينة إلى الجزم بافتقاره إلى صانع.

فما الأبسط إذا أثبتنا بالضرورة العقلية حدوث العالم (أي أنه مسبوق بالعدم):

  • أن يكون العالم نتج عن لا شيء
  • أو أن يكون العالم نتج عن حادث ، عن حادث إلخ … في سلسلة لا نهائية
  • أو أن يكون العالم قديما على الرغم من كل دلائل حدوثه هذه
  • أو أن يكون خلقه فاعل مختار قديم ، ليس عنده سمات الحدوث والإمكان المشاهدة في هذا العالم؟!

وهذه شرح سريع للفكرة للرد على من يستدل بمبدأ أوكهام، وستتضح تمام الاتضاح بعد قراءة مقالات وجود الله وأدلته إن شاء الله تعالى.


نظرية فلسفية لمبدأ أوكهام

«على سبيل المثال، فإنه في النقاش العقائدي بين المؤمنين والملحدين، فإن كلا من الفريقين يعتمد في تفسيره لوجود الكون على أفكار متشابهة. الملحدون يعتقدون أن هذا الكون مستقل بذاته وليس له سبب سابق عليه. والمؤمنون يعتقدون أن هذا الكون قد خلقه الله، وأن الله نفسه هو مستقل بذاته وليس له سبب سابق عليه. فكلا النظرتين تحتوي على شيء لا يعتمد على سبب سابق عليه، لكن نظرة المؤمنين تحتوي على عنصر آخر هو الإله وأنه هو العنصر الذي لايعتمد على سبب. بتطبيق مبدأ أوكهام، فإن الكثيرين سيفهمون أن النظرة الأبسط، وهي النظرة الإلحادية، هي التي يترجح أن تكون صحيحة لأنها تحتوي على افتراضات أقل من النظرة الإلهية»

هناك من العلماء و الفلاسفة من نصر مباديء يخلطها البعض بمبدأ أوكهام وليست منه، وهي مبنية على فكرة: أن العلة التامة كافية فمتي وجدت لا نحتاج لشيء آخر.

فجاليليو مثلا قال:

«Nature does not multiply things unnecessarily; that she makes use of the easiest and simplest means for producing her effects»[1]

وترجمة كلامه بالعربية:

«الطبيعة لا تضاعف الأشياء بلا ضرورة، لكنها تأخذ بأبسط وأسهل الأسباب لتحقيق الآثار والنتائج فيها»

وقال نيوتن:

«No more causes of natural things should be admitted than are both true and sufficient to explain their phenomena»

«As the philosophers say: Nature does nothing in vain, and more causes are in vain when fewer will suffice. For Nature is simple and does not indulge in the luxury of superfluous causes»[2]

وترجمة كلامه بالعربية:

«لا ينبغي إضافة أسباب طبيعية عن الأسباب الحقيقية والكافية لتفسير الظاهرة»

«كما يقول الفلاسفة: الطبيعة لا تفعل شيئا بلا فائدة، والأسباب الإضافية هي بلا فائدة عندما تكون الأسباب كافية. فالطبيعة بسيطة ولا تتدلل بترف فعل أسباب غير ضرورية»

قال علماء الكلام [3] من المسلمين أن الشيء المؤثر إذا تعلق بأثره ينتجه، وبالتالي لا يجوز اجتماع مؤثرين على أثر واحد عقلا، إذ يلزم منه تحصيل الحاصل وهو محال. وقد يُـحمَل كلامُ نيوتن وجاليليو على هذا ، لكن تعبير المتكلمين أدق وأعمق، أو يحمل كلامُهما على أن (بطلان الدليل يدل على بطلان المدلول) بمعنى أنا لو تيقنّا أن هناك أمرا لا دليل عليه نتيقن أن هذا الأمر ليس موجودا، وهذا المبدأ مختلف عليه بين علمائنا ، فمنهم من قبله ، والأغلب قال أنه لا يفيد اليقين.

وهذا النقاش العلمي/الفلسفي لا علاقة له بمبدأ أوكهام الذي هو طريقة لترجيح نظريتين علميتين متكافئتين في الأدلة كما سبق وبينّا.


فخلاصة ما نريد أن نقوله في هذا المقال: أنه بناء على مبدأ أوكهام ينبغي علينا أن نفضِّلَ النظريةَ العلمية الأبسط على النظرية العلمية الأعقد إذا تساوتا من حيث القوة في تفسير الظواهر. وهذا التفضيل هو مجرد تفضيل، وليس معناه أن النظرية الأبسط هي الصحيحة المطابقة للواقع. فإن قال قائل: (تفسير الكون بأنه ليس مخلوقا.. أبسط من تفسير الكون بأنه مخلوق وأن الإله الخالق هو نفسه ليس مخلوقا.. فينبغي أن نرجح عدم وجود الإله طبقا لمبدأ أوكهام). ونقض هذا الكلام من وجوه:

أولا: أن مبدأ أوكهام لا يفيد أن النظرية الأبسط صحيحة.

ثانيا: أن مبدأ أوكهام شرطه أن تكون النظريتان متكافئتان من حيث الأدلة، ونحن ندعي أن وجود الإله مؤيد بالأدلة القاطعة، وأن دعوى عدم وجوده متهافتة متناقضة كما سيأتي في مقالات إثبات وجود الله.

ثالثا: أننا لم ندعِ أننا اخترنا أن نفسر الكون بأنه مخلوق خلقه إله خالق كمحاولة أو فرضية لتفسير نشأة الكون،

أو أننا لما عجزنا عن تفسير مشاهدات كونية معينة بالعلم التجريبي لجأنا إلى تفسيرها بأن هناك إله هو الذي فعل كذا ( God of the gaps )، بل نحن نقول أن الكون متصف بصفات من تأملها بعقله يصل إلى حقيقة افتقاره إلى سبب. فليس الذي حملنا على القول بافتقار الكون إلى الخالق أنه مجرد شيء من الأشياء، بل لأن فيه صفات تقتضي ذلك، ويجب عقلا افتقاره إلى ذات خالية عن هذه الصفات، كما سنبين في مقالات قادمة.


[1] Galileo Galilei, Dialogue concerning the two chief world systems , translated by Stillman Drake, University of California Press, 1953. ( p. 397 )

[2] Isaac Newton,The Principia: Mathematical Principles of Natural Philosophy; A New Translationby I. Bernard Cohen and Anne Whitman. University of California Press. ( p 794 )

[3] نسبة إلى «علم الكلام» وهو علم يبحث فيه عن ذات الله تعالى وصفاته، وأحوال الممكنات في المبدأ والمعاد على قانون الإسلام.