في القدس لا تتوه الحكاية، فالتاريُخ العربي وحده يروي تفاصيلها بلا زيفٍ أو مبالغة، وجودها يعود إلى أربعة آلاف وخمسمائة عام، آنذاك أقام العرب الكنعانيون على أرضها أول كيانٍ سياسي بعد رحلة هجرة طويلة من جزيرة العرب.


الهوية العربية

إنّها «يبوس»، إذ كان اليبوسيون هم السكان الأصليون للمدينة، بعد أن نزحوا إليها مع القبائل العربية الكنعانية، وأقاموا مُدنًا منفردة منها أور سالم، ونابلس، وغزة، وبيسان، وعسقلان وشكيم.

16469058_10154968065399929_133165796_n
16469058_10154968065399929_133165796_n

في التاريخ تُعد «أور سالم» التي تعني قرية السلام، المدينة الأولى بعد يبوس التي أسسها «ملكي صادق» أول ملوك الكنعانيين، لكن في الروايات المسيحية والإسلامية فإن اليبوسيين أول من حطوا رحالهم في القدس، وهم أول من قاموا بحفريات نفق عين «أم الدرج» المعروفة الآن بعين سلوان، اليهود ورغم يقينهم بصحة الرواية إلا أنهم حاولوا طمسها عبر تجاهل الحقبة الكنعانية من رواياتهم، ليُزيفوا الواقع الذي يُشير إلى عروبة القدس وتاريخها الأصيل.

أرادوا إحقاق الزيف دون أي ثوابت تاريخية وحاولوا رسم صورة «يبوس» في ذهن العالم بأنها عاصمة لمملكة داوود وسلطانه وسلطان ابنه سليمان الذي يأوي المنطقة من الفرات إلى تخوم مصر، والحقيقة أن النبي داوود عليه السلام جاء فاتحًا لـ«يبوس» ولم يُغير اسمها ولم يقترف جرمًا بحق أهلها فيطردهم، كما أنّه لم يُسمِّ المدينة باسمه. فقط اليهود فيما بعد أطلقوا الاسم عليها، وظلوا محتفظين في توراتهم بـ«يبوس».

في تلك الحقبة بُني السور حول المدينة ومن ثمَّ جاء سُليمان وشيّد الهيكل وراح ينقل إليه وإلى أرجاء المدينة الماء، ولم يدم الأمر طويلًا حتى جاء نبوخذ نصّر فدمر الهيكل وسبى اليهود إلى بابل، حتى أعادهم مُجددًا كورش الفارسي إلى أرض مملكة داوود وسليمان، وحينها سمح لهم داريوس بإعادة بناء الهيكل غير أنه لم يكتمل إلا في زمن الروماني هيرودوس الآدومي، وكان فلسطينيًا من أصول عربية.


الأقصى يعانق القيامة

16468701_10154968073664929_508373440_n
16468701_10154968073664929_508373440_n

أجمل ما تُشاهده حين تزور القدس تعانق المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، فهو يُبدد أي نزعة عنصرية بين الدينين الإسلامي والمسيحي، فقط تبقى العنصرية اليهودية ضدهما والتي تُريد إنهاء أي وجود مسيحي إسلامي في المدينة لتهويدها، وفي إطار ذلك تعمل على توسيع حدود القدس لتصبح 600 كيلو متر مربع على حساب البلدة القديمة والتي ستتقلص مساحتها إلى أقل من 0.15%.

في القدس إذا ما أدرت بصرك حول البلدة القديمة التي تحوي معظم الآثار الإسلامية والمسيحية تجدها مطوقة بسورٍ قديم بامتداد 3.662 مترًا وارتفاع يتراوح بين 11.6 – 12.2 متر، ويعود تاريخ بنائه إلى العهد العثماني وزمن السلطان سليمان القانوني. يعتليه 34 برجًا للدفاع عن المدينة لتبدو حصنًا منيعًا أمام الغزاة والمحتلين، بينما يتخلله 11 بابًا جميعها تؤدي السبيل إلى الأقصى، غير أن 7 فقط مفتوحة أبوابها والأربعة الباقية مُغلقة بفعل الاحتلال.

كل شيء كان يُخبر بانتهاك الاحتلال لعروبة المدينة وإسلاميتها؛ الأزقة والطرقات هُودت، والأحياء الرئيسية في المدينة أُبدل سكانها باليهود والمستوطنين، فتفرع منها 84 حيًا صاخبًا بالتهويد على حساب الوجود السكاني العربي الإسلامي.

إذ تُشير التقديرات الأخيرة لمركز القدس لدراسات إسرائيل أن عدد سكان القدس بجناحيها الشرقي والغربي بلغ مطلع العام الماضي 2016 حوالي 829 ألف نسمة منهم فقط 307 آلاف فلسطيني بنسبة 39%.

وعلى الرغم من أن النسبة مازالت متضائلة أمام الوجود اليهودي في القدس المحتلة إلا أنها تُعد اختراقًا لنسبة الخطر التي حددتها إسرائيل منذ احتلالها للمدينة والمُقدرة بـ 22%، لا يجب على الفلسطينيين في القدس تجاوزها، إلا أنهم فعلوا ذلك في السنوات الأخيرة وأسقطوا الحسابات الديمغرافية الإسرائيلية أرضًا.


عند «باب الساهرة» كانت البداية

16559266_10154968065469929_104675723_n
16559266_10154968065469929_104675723_n

كانت عقارب الساعة تُشير إلى العاشرة، مال بنا السائق يمينًا وتمتم وصلنا القدس وبسبابة يده أشار إلى أحد الأبواب كان «باب الساهرة»، ثم استدار شمالًا بعدما أنزل أمتعتنا وقال: «إن الأقصى خلف الباب، إن أردتم سيروا إليه، وتولى مُسرعًا».

لم يكن صعبًا أن نتخذ القرار بالسير إلى المنتهى حيث الصلاة في المسجد الأقصى.

شغف كبير انتاب قلوبنا، وصلنا بأعجوبة وتلألأت قبة الصخرة أمامنا والعين تدمع والقلب يُقبّل الأرض والمسرى ألفًا، صلينا الضحى والظهر وبعدها صلاة الجنازة على أحد الموتى.

كانت جموع الناس كثيرة في الأقصى ومحيطه، بدأت أتجاذب أطراف الحديث مع إحداهن كانت «إيناس صيّام» قالت وقد انعكس القهر على ملامح وجهها: «إن بيتها لا يبعد سوى خمسين مترًا من الحرم الشريف لكنّها ممنوعةٌ من الوصول إليه بأمر الاحتلال البغيض»، وأشارت إلى أنها برغم نزوحها من بيتها إلى بيت آخر يملكه جدها في حي السعدية بالبلدة القديمة؛ إلا أنها تأتي للصلاة في المسجد يوميًا.

454634241
454634241

بالخروج من المسجد الأقصى قابلنا سوق القطانين الذي يبدأ بطريق الواد وينتهي بالمسجد الأقصى، تبدو الملامح المملوكية واضحة على البناء رغم قدمه، فالأقواس والمقرنصات ما زالت تشهد للفترة التي بُني فيها السوق خلال عهد الناصر محمد بن قلاوون.

على امتداد السوق كانت الحوانيت مُشرعة الأبواب، لكن الزبائن قلة، مما يُشير إلى ركود الحياة الاقتصادية هناك، وهو ما أكد عليه أحد أصحاب الحوانيت.

أبو محمد سكافي قال: «إن حركة التجارة في السوق ميتة»، وإنه يفتح حانوته يوميًا فقط ليكسب أجر صلاة الظهر والعصر في المسجد الأقصى، وأضاف أنه في غالب الأحيان لا يبيع بما ثمنه خمسة شواكل طيلة ساعات النهار.

16522776_10154968065274929_2128616714_n
16522776_10154968065274929_2128616714_n

تجولنا في المدينة حتى وصلنا لـ«سوق العطارين» وما إن تمر بهذا السوق حتى تجذبك رائحة البهارات والأعشاب الطبية العطرية، التي يُصر المقدسيون حتى يومنا هذا على بيعها وتحضير بعض الأدوية منها، وبحسب التاريخ الذي تروي تفاصيله الحجارة وهيئة عمران السوق فإنّه كما سابقه يعود إلى الفترة المملوكية، يُغطيه سقف مقوس وأقبية متقاطعة بها فتحات للتهوية والإنارة.

هناك في آخر السوق مازالت عائلة «المؤقت» تحتفظ بتراث الأجداد وتُصر على ممارسة مهنة العطارة منذ 500 عام حتى أنها بدأت في السنوات الأخيرة تُطورها بإعداد أدوية وعلاجات طبية يُقبل عليها المقدسيون ويُفضلونها بدلًا من الأدوية المُصنعة.

قال «إسحق المؤقت»، وهو طبيب يُشرف على محل العطارة العائد لأجداده، إنّه يُسخر العلم لخدمة مهنة العطارة ويتعاون مع مختبرات عالمية لفحص تركيب وجودة الأدوية والعلاجات التي يُصنعها خالصة من الأعشاب الطبية، وبسبب نجاحه بات يورد منتجاته للعديد من البلدان العربية والأوروبية، ولعل ذلك هونَّ عليه كثيرًا سوء الحال الاقتصادي والركود اللا مسبوق في أسواق القدس، لافتًا أن الاحتلال الإسرائيلي يُحاول من حينٍ إلى آخر إغراء أصحاب المحال التجارية بالأموال لإخلائها وبيعها، وأحيانًا يُكبلهم بالضرائب عساهم يرحلون «إلا أننا صامدون».

ومنذ أربع سنوات عمدت شركة تطوير القدس الإسرائيلية إلى فرض مخطط المسار السياحي، بامتداد 30 دونمًا في سوق العطارين وأسواق أخرى بهدف إفراغها والسيطرة على قرابة 77 متجرًا تابعًا للوقف الإسلامية، حسب ما يُؤكد لنا عزام الخطيب، مدير عام الأوقاف الإسلامية بالقدس.

وبيّن أن المخطط سيعمد إلى إضافة العقارات والمنازل المملوكة للمقدسيين إلى أملاك خاصة، وسيُقيم أسواقًا للمستوطنين هناك، ضاربًا بذلك الحركة التجارية الفلسطينية في القدس كسبيل أقصر لفرض السيادة على البلدة القديمة وأسوار المسجد الأقصى لتثبيت الوجود اليهودي.

فالاحتلال يرغب في خلق تواصل جغرافي للاستيطان فوق أسطح البلدة القديمة، وسيبدأ من باب العامود مرورًا بسوق خان الزيت ويتفرع باتجاه برج اللقلق والحي الإسلامي، ومن ثم يتجه إلى كنيس الخراب، وحارة اليهود المقامة على أنقاض حارة المغاربة، وحارة الشرف المطلة على ساحة البراق.

وسرعان ما تُعيدك رائحة كباب المقدسي «زياد قُرش» إلى شوارع القدس مرة أخرى، فالرائحة لا تدعك تُقاومها، فقط تستسلم لعبقها المنبعث من «كانون الفحم» منذ تسعين عامًا، فتجلس طوعًا تتناول وجبتك الشهية، لا يُعكر صفوك شيء سوى موظف بلدية القدس التابعة للإدارة الإسرائيلية، يأتي من بعيد مُدجج بالسلاح، ليأمر صحاب الحانوت بإغلاق المكان أو تسديد ما عليه من ضرائب.

ما يُؤلم أن متجر الستيني زياد كما يقول: «عمره تسعين عامًا وقد ورثه عن جده جواد، الذي أقامه في العام 1920، والآن مُهدد بالإغلاق فلا طاقة لأحد بالضرائب ولا ممارسات الجنود الإسرائيليين».


سلوان: نقطة البداية وصراع النهاية

867318674684
867318674684
16507178_10154968065359929_523569931_n
إذا ما وصلت إلى بلدة سلوان بالقرب من المسجد الأقصى تجد اليهود يجتهدون في تغيير ملامح المدينة بدءًا من تغيير اسمها من سلوان إلى مدينة الملك داوود.

يُحرم الفلسطينيون من الوصول إليها، حتى سُكانها يواجهون التهجير القسري والهدم الذاتي لبيوتهم وحوانيتهم، وبحسب علماء الآثار الإسرائيليين فإن سلوان تحتوي على آثار من كل الحقب التاريخية التي مرت بها إلا حقبة الملك داوود أو آثار الهيكل، ولكن رغم ذلك لا تكف إسرائيل عن إجراء عمليات التنقيب، واختلاق تاريخ ليس له وجود، فهي تُذيع بين العالم أنها إسرائيل القديمة التي أسسها الملك داوود عام 1200 قبل الميلاد.

تجري عمليات التنقيب لاعتبارات سياسية اليوم بهدف تبيان ارتباط الإسرائيليين بالمكان وتطويق المسجد الأقصى بأماكن يهودية. وإذا ما سألت عما وجدوه من آثار أثناء التنقيب، تجد الغالبية العظمى تعود إلى ما قبل عصر داوود وسليمان أو بعده.

وعن مخططات الاحتلال التهويدية للقدس، يقول الكاتب اليهودي «كيث وايتلام» في كتابه «اختلاق إسرائيل القديمة»: إن الهدف من الدراسات التوراتية الحديثة لتاريخ إسرائيل تصوير ذلك التاريخ على أنه التعبير القديم للدولة الحديثة وشعبها اليهودي، إضافةً إلى طمس كل ما يتعلق بالتاريخ الفلسطيني قديمًا وحديثًا.

ولأن التاريخ يخلو من أي دلالة على وجود الهيكل فإن اليهود يُريدون أن يبنوه أولًا في عقول الناس، عبر إقناعهم بالفكرة، ومن ثَمَّ الحشد لها على المستوى السياسي المحلي والدولي، وأخيرًا البدء بإقامة معالم يهودية توراتية، منها على سبيل المثال لا الحصر: الحديقة التوراتية التي تُشكل خنجرًا مسمومًا يسعى إلى مصادرة الأراضي حول القدس وإفراغها من النسل والحرث، حيث اقتطعت الحديقة قرابة 750 دونمًا، 500 دونم من أراضي بلدة العيسوية والبقية من أراضي بلدة الطور.

المراجع
  1. عبد الرؤوف أرناؤوط، القدس 2016: إجراءات تهويدية تبقي عوامل الانفجار قائمة، مجلة الدراسات الفلسطينية، ربيع 2016.
  2. سلوان تحت المجهر، مركز معلومات وادي حلوة.
  3. القدس، وزارة الثقافة الأرشيف الوطني الفلسطيني، نوفمبر 2010.