في روايتها المرشحة على القائمة القصيرة لجائزة «بوكر العربية» تحكي الروائية الليبية «نجوى بن شتوان» طرفًا منسيًا مجهولًا من سيرة الضعفاء والمقهورين في بلادها أيام «الاحتلال العثماني» قبيل الاحتلال الإيطالي للبلاد، حين كان يتم استخدام أصحاب البشرة السوداء «الزنوج» كخدمٍ وعبيدٍ لأسيادهم «البيض» لا لشيء إلا لذلك اللون الذي وجدوا به، وهكذا يذوقون صنوف العذاب والهوان في خدمة أسيادٍ متجبرين لا يعاملونهم إلا بكل قسوة وشدة ولا يرون فيهم إلا مستخدمين أقل منزلة ومكانة منهم.

تدور الرواية بين طفولة «عتيقة»، التي تحكي أطرافًا من مأساتها الخاصة وحياتها في «زرايب العبيد» ذلك المكان الذي خصص لإقامة العبيد بعد أن هربوا من سيطرة أسيادهم ولكنهم لم يهربوا من حياة الفقر والظلم والقسوة، وبين حياة أمها «تعويضة» وحكايتها المأساوية حينما كانت خادمة في بيت «محمد الكبير بن شتوان» وقصة حبها لسيدها تلك التي رأت فيها الأيام البيضاء والسوداء على السواء!

اقرأ أيضا:القائمة القصيرة لبوكر 2017: الانحياز للمسكوت عنه

وهكذا تنتقل الرواية بين مشاهد من حياة البنت وحياة أمها، يجمع بينهما شعورٌ بالغ بالقهر، وصورة واقعية من حياة مجتمع كامل يحيا على الهامش ويحاول أن تمضي أيامه كيفما اتفق، تتعرّف الطفلة التي تعيش بين «العبيد» على نفسها وعلى عالمها وسطهم وتلحظ ما يلحظونه عليها من اختلافٍ، حتى تكون أقسى أمانيها أن تنظر إلى وجهها في المرآة، فتخوض من أجل ذلك مغامرة قاسية لا تُنسى!

شهدت وأنا طفلة على الكثير مما في العالم السري لرجالٍ ونساءٍ يلتقون بعضهم بعضًا لأول مرة، فقط لأنهم تزوجوا. كنت طفلة زنجية تخدم أزواجًا من ذلك النمط، لا يُخشى على سريتهم منها، إذ لا مبرر للحذر من طفلٍ ساذج لا يفهم، فما بالك إن كان أسود بربع دماغٍ كما يشيع الاعتقاد! كنت أسمعهن يبكين وأسمعهم يشتمونهن ويضربونهن ويهدونهن بالطلاق أو الادعاء بأنهم لم يجدوهن أبكارًا، وفي نهاية الأمر كنَّ يصمتن مستسلماتِ لأقدارهن منطوياتٍ على كثيرٍ من الحزن الخاص، ثم يأتي الأطفال ويبتعد الحب أو لا يأتي أبدًا وتمتلئ السماء بالأحزان!

تلتقط «نجوى» بين هذا العالم شديدة القسوة والظلام قصة حبٍ فريدة تنشأ بين سيدٍ وخادمته، ولكن السادة يرفضون تلك العلاقة، ويسعون بكل جهدهم للتفريق بينهما، وهكذا تنقلب على أثر تلك العلاقة الحكايات وتبدو بوادر الثورة والتمرد على عالم «الأسياد» الأبيض، الذي لا يرى في الآخرين إلا خدمًا وحثالة من البشر وعبيدًا.

محمد المفتون بجارية سوداء نهبت روحه حتى صار لا يرى جمال وفتنة زوجته الشابة البيضاء المليحة، لابد له من معالج، لابد للقرآن أن يتدخل ويعيد إليه رشد روحه المنهوبة بملذّات التسري، إن الشيطان يسكن حيثما تكون المتعة، يغري بها ويطيّبها للناس، فيجربونها مرة تلو أخرى حتى يدمنوها، مغيبي العقل والإرادة، محمد سحرته الزنجية السوداء والكل يدرك أنه مأخوذ بها، أخذ مجنون وليس أخذ عاقل، ولكن لا أحد يقول كيف أدرك الفرق بين الجنون والعقل؟! ألأنه عشق كما يعشق الرجال، أم لأنه يملك أن يكون عاشقًا عندما يريد وكيفما يريد؟ وكأنه يتنافى أن يلتقي العشق والإرادة إلا في مسحورٍ أو مجنون!

ومع قصة الحب الفريدة تلك تأتي قصة صداقة أخرى وتضحية فريدة من نوعها، حينما يتصدر «علي» ليحمي «تعويضة» حبيبة صديقه وابن خاله «محمد» من البيع في سوق العبيد، بعد أن عرف المؤامرة التي قام بها جده «محمد الكبير» وجدته لكي يتخلصوا من هذه الخادمة.

هكذا يخلق الحب أجواءً جديدة ويكون عاملًا مهمًا يغيّر حياة الأفراد بل والمجتمع بشكل عام، تنجو «تعويضة» من سيطرة أسيادها أخيرًا، حتى وإن هربت من حبيبها «محمد بن شتوان» فالزمان كفيلٌ برده إليها، ويبقى «علي» على العهد حريصًا أن يصل بالحقيقة التي ضحى من أجلها وعرفها وعاش تفاصيلها إلى الابنة «عتيقة» كما جاء في بداية الرواية، التي رغم كل ما مرت به من مآسٍ داخل تلك الزرايب إلا أنها تعثر على حب حياتها مع جارهم «يوسف جوسيبي» الذي يعوضها عن كل ما لاقته..

هكذا تأتي شخصيات الرواية واضحة حادة، فهم إما طيبون أخيار يتعاملون بحبٍ وإنسانية، وإما أشرار إلى أقصى حد يتعاملون مع الآخرين بقسوة ووحشية، بدا ذلك بشكل واضح داخل عالم السادة حيث صوّرت الرواية كيف تعاملت السيدة «اللالا عويشينه» مع «خادمتها تعويضة» حينما أخطأت فقط ونسيت اللحم حتى أكلته «القطط» فعلقوها وضربوها وأبعدوا عنها ابنها الرضيع، بل وكيف كانت قسوة جميع أهل البيت معها حتى مات ابنها من الجوع! ولم ينجها حتى محاولة زوجها الخادم «سالم» في جلب اللحم من مكان آخر، وقاموا بضربه وتعذيبه هو الآخر حينما اعترض على تلك المعاملة الوحشية، وانتهى بهم الأمر خارج بيت هؤلاء السادة القساة!

اقرأ أيضا من قائمة البوكر:موت صغير: عن حياة إمام المتصوفة «ابن عربي»

من جهة أخرى جاءت لغة الرواية سلسلة متسقة تمام الاتساق مع عالمها الخاص، إذ جمعت «نجوى بن شتوان» في سردها بين شاعرية اللغة في المواقف التي جمعت المحبين ببعضهما، واللغة الصارمة القاسية لاسيما في الحوار بين طبقات السادة والعبيد بشكل خاص، حيث تتميّز لغتهم بالقسوة والغلظة.

كما تنتقل الرواية ببساطة بين الماضي والحاضر، وينتقل السرد بين حكاية البطلة «عتيقة» عن نفسها بضمير المتكلم، وبين السارد «العليم» الذي يحكي أطرافًا من حكاية أمها «تعويضة»، وبين الحكاية التي يرويها «علي» لعتيقة بضمير المخاطب. كما احتوت الرواية على وصفٍ مفصّل ودقيق لعالم «العبيد» داخل «زرايبهم» تلك وما تحويه من تفاصيل غرائبية وعجيبة، وما في عالمهم من قسوة في التعامل بين أفرادهم وطبيعة أعمالهم وما تجلبها عليهم من تحمل للأذى وتقبل لقسوة ما تفرضه عليهم تلك الحياة.

كما أوضحت بعض العادات والمعتقدات التي يحرصون عليها لاسيما في تعاملهم مع البنات، من ذلك تلك العادة القاسية في «تقفيل البنات» حتى لا يتم انتهاكهن، وكيف كانوا يفرقون بين الخادمة والحرة، واعتقادهم في عوالم الجن الغيبية، وكيف يمكن أن تؤثر تلك الأفكار على تعاملهم مع الأشخاص حتى وإن كانوا معهم داخل تلك «الزرايب» الموحشة، وغير ذلك من تقاليدهم القاسية وعاداتهم الغريبة.

وهكذا استطاعت «نجوى بن شتوان» الإمساك بعالم روايتها الثري الشيق على ما فيه من قسوة ومأساوية، والإلمام بشخصياتها على تعددهم واختلافهم، وتصوير ذلك كله عبر لغة متماسكة وسرد متقن، يجعل القارئ شغوفًا بقراءة الرواية والتعرف على تفاصيل ذلك العالم الذي ربما لم يكن يعرف عنه شيئًا، وهو ما يفعله الأدب دومًا إذ يكشف لنا عوالم مسكوتًا عنها أو مجهولة من الماضي من تاريخنا أو من واقعنا تلك العوالم على اختلافها وتباينها هي التي شكلت وعي الحاضر ويبنى عليها بالتالي طريقة تعاملنا في المستقبل.

رواية «زرايب العبيد» هي الرواية الثالثة لنجوى بن شتوان، سبقتها روايتها «وبر الأحصنة» التي حازت على جائزة أفضل رواية عربية عام 2005، وهي المرة الأولى التي تصل فيها الرواية الليبية إلى القائمة القصيرة في البوكر طوال أعوامها السابقة، كما أنها المرأة الوحيدة في هذه القائمة لأول مرة أيضًا، وإذا أضفنا إلى ذلك أن روايات القائمة القصيرة كلها قد حصلت بلدان بقية روايات القائمة على جائزة البوكر في سنواتٍ سابقة، تكون فرص فوز «زرايب العبيد» هذا العام أكبر.