تبدو صورة مصر في العصر العثماني صورة شائهة، إذ درجت الكتابات على تصويرها في أقصى درجات التخلف في هذا العصر. ربما يكون السبب في ذلك أن أغلب ما وردنا عن هذه الفترة كان من كتابات المستشرقين، وأغلبهم جاء مع الحملة الفرنسية، أو أن الأزمة كانت في غموض المصادر المدوّنة لتلك الفترة.

في المقابل، قدّم الدكتور عبد الرحيم عبد الرحمن كتابًا مفردًا في بابه، وهو «فصول من تاريخ مصر الاقتصادي والاجتماعي في العصر العثماني»، والمميز في هذا الكتاب أنه لا يعرض فقط هذه الصور من التاريخ العثماني خاصة الجانبين الاقتصادي والاجتماعي، وإنما يعرض طريقة البحث والتوثيق حول هذه الفترة، ومصادر مهمة قد تسفر عن رسم صورة جديدة لتلك المرحلة، بل ويعرض ذلك بطريقة مدرسية توضح المقصد بالأمثلة.

يدور الكتاب حول ثلاثة أقسام رئيسة، الأول، حول مصادر كتابة التاريخ العثماني، الثاني، حول التجارة العثمانية، ثم العلاقات المصرية في العصر العثماني ببقية الأقاليم الإسلامية خاصة المغرب والشام والسودان، ويشير إلى حجم التبادلات التجارية، والتأثيرات الاجتماعية بين الأقاليم، ثم يتناول في شقّه الآخر المجتمع المصري نفسه وتشكلاته في العصر العثماني.


مصادر دراسة تاريخ مصر العثمانية

وضع الدكتور عبد الرحيم عبد الرحمن هذا الباب في صدر كتابه، وكان حقيقًا بنا أن نفعل ذلك ونصدره في بداية هذا المقال، غير أننا أخرناه لتعلقه أكثر بالمتخصص في دراسة التاريخ، أو الذي يريد أن يتوسع في المعرفة التاريخية المصدرية لذلك العصر. والحقيقة أن عبد الرحيم قد أجاد في عرض هذا الموضوع؛ إذ أشار إلى المصادر التي يمكن من خلالها إعادة رسم صورة التاريخ العثماني في مصر، وأوضح عدة نماذج للتعامل مع كل مصدر على حدة، وبيّن المشكلات المنهجية في تلك المصادر، وكيفية دراستها دون الوقوع في مشكلاتها.

فمِن بين هذه المصادر «كشوف الالتزام» التي كان يدون فيها الملتزمون المبالغ الموجبة على كل ناحية، وأيضاً كشوف الجمارك في الموانئ المصرية وسجلات المحاكم الشرعية وسجلات الأوقاف والجسور والترابيع. كل هذه السجلات تعطي صورة شاملة عن الحياة الاقتصادية والاجتماعية في مصر في العصر العثماني، فلدينا سجلات مدونة من عام 1600م.

واستقراء هذه النصوص يضعك أمام حقائق بينة تجاه هذه الفترة، تتعلق بسعر العملة، وأسعار السلع الأساسية، ومقدار واردات الدولة، ومصادر أموالها، وتصور الأعباء المادية التي كانت تمرّ بها القرى المصرية، ويمر بها الفلاح، وما كان عليه من رسوم وضرائب، توضح إنحناءات وتغيرات ضخمة في بنية المجتمع، مثل حركة العتق التي تشير لها سجلات المحاكم الشرعية، وهي عتق السادة لمماليكهم وتمليكهم الأطيان، وحركة التزاوج من غير المسلمين وإشهار الإسلام، وسيطرة الطوائف الحرفية على سير الحياة الاجتماعية، والعلاقة بين الريف والحضر، والفلاح والدولة، وشيء من تفاصيل الحياة اليومية تنقلها لنا هذه السجلات، لذا كان العلم بها وبطريقة قراءتها دون الوقوع في التعميم الخاطئ ولا القراءة الصورية، إحدى أهم أدوات الباحث فى هذه الفترة، وتزيد أهمية الفصل فى أنه تم إيراد أماكن وأعداد هذه الكشوفات والسجلات، ونموذج لقراءة عدد منها وكيفية الاستفادة منها وملاحظات حولها.

ثم يعرض الدكتور عبد الرحيم لمصدرين مهمين آخرين لتدوين تاريخ هذه المرحلة، وهما كتاب الجبرتي «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» وكتاب أحمد شلبي «أوضح الإشارات فيمن تولى القاهرة من الوزراء والباشات»، فيطوف على شخصية كل مؤرخ وما دفعه لتدوين كتابه هذا وأسلوبه، والفارق بين حولية الجبرتى وأحمد شلبي الذي اهتم بالترجمة للنظار والوزراء، ويعرض لمنهجهم في تدوين الحوادث التي عاصروها، والتوثّق من الحوادث التي سبقت وجودهم، حتى إنه يعرض أكثر من نصّ من كلا الكتابين ليبين أوجه نقل الجبرتي من كتاب أحمد شلبي وأوجه التغيير، وكيف نظر كل منهما لذات الحادثة. وعلى أي حال، فإن الكتاب على درجة كبيرة من الأهمية لموضوعات التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لمصر في العصر العثماني، وثمة موضوعات أخرى مهمة سنعرض لها في مقالنا المقبل فإلى الملتقى.


تجارة مصر العثمانية

قبل السيطرة العثمانية على مصر لم يتمكن المماليك من حماية وجودهم وسيطرتهم على البحر الأحمر وتجارة الشرق دون الاستعانة بالقوة العثمانية الصاعدة، فنجد أن السيطرة المملوكية على التجارة الشرقية تهددت باكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، فكان الصراع بينهم وبين البرتغاليين الواصلين للهند آنذاك، كانت أول خطوة يظهر فيها العجز المملوكي، ومن ثم استعانة السلطان المملوكي قنصوه الغوري بالسلطان العثماني بايزيد الثاني لدعمه في مواجهاته البحرية مع البرتغاليين.

لكن بعد ذلك، توالى الوجود الأوروبي في المحيط الهندي وجنوب البحر الأحمر، بين محاولات سيطرة ومحاولات تعاون واستفادة، خاصة محاولة السيطرة على اليمن، وإقامة وكالة تجارية أوروبية بها، بداية من الوجود الهولندي ثم الفرنسي ثم الإنجليزي، ومن بين آليات السيطرة تلك كانت إقامة سياج مسيحي على ساحل البحر الأحمر، من خلال اتصال القوى الأوروبية بالحبشة، وأمام ذلك صكت الدولة العثمانية قانونًا يمنع مرور السفن المسيحية عبر البحر الأحمر؛ لأنه «يطل على المدن المقدسة» وظل هذا القانون معمولاً به حتى القرن الثامن عشر.

ورغم هذه الحالة الصراعية التي سادت القرن السادس والسابع والثامن عشر في محاولات للسيطرة على البحر الأحمر، لم تكن الصورة السائدة عن الاقتصاد المصري الذي وصف بأنه «راكد» في العصر العثماني هي الصحيحة؛ فقد ظلت الواردات السلعية من الهند واليمن وأوروبا تتوافد على الأسواق المصرية، وتشكلت فى تلك الفترة «الوكالات التجارية» التى سيطرت عليها أسر كاملة، ومنذ القرن الثامن عشر تطورت الرأسمالية المصرية التي سيطرت عليها حينذاك عائلات كاملة كانت تحظى بثروات هائلة، وهذه الحالة من القوة الاقتصادية جذبت التجار من البلاد المجاورة، خاصة الشوام والمغاربة، بل إن بعضهم ترقّوا في مناصب التجارة حتى شغلوا رئاسة الطائفة، بل إن هذا النشاط اتسع ليشمل الوكالات التجارية المصرية في البلاد المجاورة والأوروبية منها.

غير أن اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح كان له أثر سلبي على الاقتصاد الزراعي المصري، فقد زادت الضرائب التي تفرض على الفلاحين، وزاد الملتزمون من الأعباء التي يفرضونها على الفلاحين لتوفير الموارد الأساسية للدولة. أما الأوضاع التجارية في المدينة فقد أصيبت باضطراب شديد جراء تحول التجارة عن البحر الأحمر إلى أن سيطر العثمانيون على البلاد، فقد كانت سياستهم تُبنى على فتح التجارة وحرية الحركة في البلاد الخاضعة لهم، مما جعل من مصر سوقًا مفتوحة، ومن ثم بدأت طبقة التجار تعاود ازدهارها في شكل طبقة رأسمالية، تديرها عائلات وبيوت تجارية كبرى، أقامت الوكالات، والأسواق الضخمة.

ومن أهم الأسواق التي ازدهرت في العصر العثماني «سوق خُط الأزهر»، «الغورية»، «خان الخليلي» وغيرها، وقد أدى تضخم أرباح التجار إلى ظهور الشراكات، وهي تشارك التجار في رأس المال وإدارة أحدهم للعمل مقابل أجر، وباقي الأرباح توزع عليهم في نهاية دورة العمل، ومن اللافت أن هذا النظام التجاري الجديد كان قد بدأ يظهر له أوراق في المحاكم الشرعية في تلك المرحلة، وأيضاً ظهرت الوكالات المتخصصة في سلع محددة كوكالة المرجان، والحق أن التجارة المصرية بدأت تمد فروعها في الأرياف عن طريق الالتزام، فتحوّل كثير من التجار إلى ملتزمين؛ والملتزم هو الذي يلتزم للدولة بدفع مال سنوي نيابة عن قرية أو ناحية في الريف، مقابل استرداد هذه الأموال من الفلاحين، الأمر الذي زاد من تضخّم ثرواتهم، ثم ملكوا الأصول الثابتة كالوكالات والمحال والمصانع، وبدأ دعمهم لصناعات بعينها وامتلاكهم لها ثم تسويقها، بعد أن كانت مصر سوقًا للمنتج المستورد .

كل هذه التطورات كانت تسري بالإيجاب على السوق المصرية إلى أن تحولت الرأسمالية المصرية إلى رأسمالية شاملة لكافة المجالات، تزامن ذلك مع تصارع البيوت المملوكية، وهو ما أدى إلى تدهور السوق المصرية فى النصف الثاني من القرن الثامن عشر.


التجارة بين مصر العثمانية والأقطار الإسلامية

الأصل في العلاقة بين الأقاليم الإسلامية في التاريخ الإسلامي دوام الاتصال وحرية الحركة بينها، وكان على الدولة العثمانية الحفاظ على هذه السمة المميزة للدول الإسلامية، أما الدولة العثمانية فكان دورها دعم هذه السمة بفتح مجال أكبر للنشاط التجاري بين أقطار العالم الإسلامي، وكان للمراكز الثقافية الكبرى دورها الفاعل في دعم هذه السمة أيضاً، فلم يكن طلاب العلم يكتفون بطلب العلم وفقط، وإنما كان هناك نشاط تجاري للكثيرين منهم، قائم على هامش هذه الحركة، له بعد آخر تمثّل في دمج هؤلاء الوافدين في المجتمع.

أما العامل الأساسي في رواج هذه الحركة التجارية، فقد تجلى في سهولة طريق الحج، فالطريق الممهدة بين أقطار العالم الإسلامي لتسهيل حركة الحجيج شهدت في المقابل حركة تجارية كبيرة ومؤثرة في الأقطار العربية والإسلامية؛ فقافلة الحجيج التي كانت تمر من المغرب إلى مصر ثم الحجاز لم تكن تأتي بالحجيج فقط، بل جاءت محملة بالبضائع المغربية، وقد اتخذت من أماكن راحتها أسواقًا، ثم في طريق العودة تكون محملة بالبضائع الحجازية التي تنقلها لمصر ثم المغرب، أما الشام فالطريق بينها وبين مصر معروفة منذ القدم، وكان القائم على نقل هذه البضائع العُربان الذين بدورهم أقاموا لأنفسهم تجارتهم الخاصة ولم يكتفوا بنقل البضائع فقط. ولهذا التبادل التجاري الضخم الذي يورده الكاتب في الكتاب بالأرقام وأحجام السلع وأنواعها ومواسمها دليل كبير على حركة التبادل النشط الذي تمتع بها العالم الإسلامي في العصر العثماني، وبطبيعة الحال كانت مصر مركزًا لهذا التبادل بموقعها المتوسط لخط سير السفن والقوافل البرية، فلا تكاد وكالة تجارية واحدة إلا وبها أكثر من شريك من أصول مغربية أو شامية.

وتؤكد وثائق المحاكم الشرعية أن هذه الحركة التجارية كانت تتمتع بكامل الحرية، حتى أنه كان من حق أي تاجر نقل كامل أمواله التي أسّسها في بلد ما إلى بلده، أو أي بلد آخر دون تدخل حكومي، والجدير بالذكر أن هذا الوجود التجاري اقترن بامتلاك العقارات، ولدينا وثائق بالمحاكم الشرعية تثبت امتلاك عدد من التجار المغاربة والشوام لعقارات كثيرة في القاهرة دون تقييد، وهذه الوثائق تعطي تصورًا عن مساحة هذه العقارات ووظيفتها، وما خُصّص منها للوقف على أبواب الخير، كما تُحدد شكل الشوارع والطرقات التى وُجدت بها.

هذا التبادل التجاري والعلاقات القوية بين المشرق والمغرب أدت إلى وحدة المجال الاجتماعي والحركة وفق انتماء للمحيط الأكبر العربي الإسلامي، فنجد حركة مصاهرة نشطة بين المغاربة والشوام والمصريين، وتنوعًا ثقافيًا في البيت الواحد، بل انتقلت العادات من البيئات المختلفة، لتزيد من التشابه والاندماج في البيئات العربية في العصر العثماني، وهذا ترسمه لنا وثائق المحاكم الشرعية بشكل كبير، بل وتعطينا أسماء بيوت وعائلات بها أفراد من أصول مختلفة.


السودان ونشاطهم التجاري

يورد الكاتب عدة علاقات بين مصر والأقاليم العربية الأخرى في كتابه «فصول من تاريخ مصر الاقتصادي والاجتماعي في العصر العثماني» محللاً عمق هذه العلاقات اجتماعيًا وتجارياً، من جملة هذه العلاقات التي امتازت بالقوة والمتانة كانت السودان. والحق أن العلاقة بين مصر والسودان ممتدة منذ بداية التاريخ، ولم يكن نهر النيل عاملها الوحيد فهناك طريق برية ممتدة بين البلدين، ووحدة في الجذور، وتشابه في العادات والتقاليد، وكانت مصر هي مدخل المسيحية للسودان ومن بعدها الإسلام، وظل هذا التواصل إلى العصر العثماني.

في تلك الفترة، كانت القوافل السودانية من أهم القوافل الوافدة لمصر، ومن أهمها «قافلة دارفور»، وهي قافلة ضخمة جداً كان يمتدُ وجودها في مصر لعام كامل، تأتي من الصعيد ليحدد عليها قيمة الجمارك المفروضة وتسلك شمالاً حتى تصل إلى القاهرة. لقد كانت هذه القافلة تحمل أعدادًا ضخمة من العبيد، وسلعًا متنوعة، وخلال سيرها بمحازاة النيل كانت تنقل بضائع مصرية أخرى، وتتاجر في الجِمال، مما كان لها شأن في الرواج الاقتصادي على طول ضفاف النهر.

أما القافلة الثانية، فهي «قافلة سنار» وهي أصغر من قافلة دارفور بكثير، وكانت تأتي من شرق السودان محمّلة بأنواع مختلفة من السلع والبضائع، لكنها كانت مختلفة في أنواع البضائع التي تحملها؛ فقد كان العبيد السلعة الأساسية التي تحملها هذه القافلة، وهؤلاء العبيد هم من سيشكلون قوام التداخل الاجتماعي بين المصريين والسودانيين، حيث تذخر وثائق المحاكم الشرعية بالحديث عن الجواري السودانيات المحرّرات اللاتي سيتزوجهن أسيادهن، وعن الميراث الذي سيرثه أبناء السودانيات، وعن تحرير الجواري السودانيات وتزويجهن للمماليك. وهو حديث ماتع يكشف لنا أهمية العنصر السوداني في مصر العثمانية.