هذه المقالة ضمن ملف «مصر العثمانية» الذي تقدمه إضاءات بمناسبة مرور خمسة قرون على دخول العثمانيين مصر.

كثيرًا ما يقابل القارئ في تاريخ الحكم العثماني لمصر مصطلح «الفتح» مقرونًا بغزو ثم حكم العثمانيين لهذا البلد، فإذا ما صدر اعتراض على الوصف واستخدام مصطلحي «الغزو» و«الاحتلال» هاج الكثيرون وماجوا، واعتبروا أن ذلك من قبيل «الاعتداء» على التاريخ و«الإهانة للرموز».

وللأسف فإن أغلب المدافعين عن صفة «الفتح» لا يحاولون مناقشة الأمر بالعقلانية المطلوبة والنظرة الموضوعية المتجردة من التحيزات، وإنما يأخذ دفاعهم عن قناعتهم شكل التشنج والهياج، ويسارعون في اعتبار المنتقد للحكم العثماني لمصر إنسانًا حاقدًا ساعيًا لتشويه التاريخ – التاريخ الإسلامي تحديدًا – وكأنما هم في «حرب مقدسة» لا نقاش علمي. من هذا المنطلق، كان الرأي أن يتخذ هذا المقال شكل قائمة من الأسئلة والإجابات لعرض وجهة النظر التاريخية القائلة بأن حكم مصر من قِبَل الدولة العثمانية كان احتلالًا وليس فتحًا.


1. ما هو معيار التمييز بين «الفتح» و«الاحتلال»؟

للأسف، كثيرًا ما يتأثر تعريف كل من المصطلحين بالعاطفة – بالذات الدينية – فيُحكَم بأن «الفتح» هو ما قام به من هو على دينك أو لغتك أو عرقك بينما «الاحتلال» يقوم به غريب تمامًا عنك، هذا التعريف يوقع أصحابه المتحيزون للقومية الدينية أو العرقية أو اللغوية في مأزق، فلو صحّ تعريفهم، فهل يمكن إذن أن يقال إن حكم العرب مصر – وقد كانت آنذاك غريبة عنهم دينًا ولغةً وعرقًا- احتلالًا أم فتحًا؟

هذا مثال لما يحدث عند استخدام القراءات العاطفية للتاريخ. ولأن التاريخ علم يجب ألا يخضع للعواطف فإن التزام معيار موضوعي متجرد من الانتماءات هو المطلوب. تتنوع وتختلف التعريفات للمصطلحات التاريخية، ولكن اجتهاد كاتب هذا المقال أوصله لأن يكون معيار التمييز، هو كيف عومل الإقليم الذي تم ضمه للدولة الأم، وكيف عومل أهله، مقارنة بمعاملة الحكومة القائمة بالضم لإقليمها الأصلي وأهله؟

فلو تساوت المعاملة من حيث أمور مثل: مشاركة أهل البلد في دوائر الحكم والإدارة في الدولة كلها أسوة بأهل الدولة الأم، واهتمام تلك الأخيرة بالمؤسسات الخدمية بالبلد المحكوم بنفس درجة اهتمامها بها في بلدها الأصلي، وإشراك أهل الإقليم في إدارة شئونه، ومراعاة خصوصياته وثقافاته. بمعنى أوضح جعله بمثابة جزء من الدولة الأم يجري عليه كل ما يجري عليها، فهو فتح، أما لو اختلفت المعاملة فتم الاكتفاء بضمه عسكريًا وتبعيته سياسيًا للدولة الحاكمة وتحويله لمجرد مصدر للمال والثروات التي تصب في خزانة العاصمة، وموقعًا استراتيجيًا تتخذه قاعدة لتوسعاتها، فهو احتلال.

والثابت تاريخيًا أن معاملة العثمانيين لمصر اختلفت عن معاملتهم وطنهم الأم، فلم يكن من الولاة والحكام مصري، بل حتى القاضي الأعلى- قاضي عسكر أفندي – كان عثمانيًا، وتم تقديم المذهب الحنفي – المعتنق من العثمانيين – على المذهب الشافعي الذي يدين به أغلب المصريين. وتم إلغاء العملة المصرية الثمينة واستبدالها بالعملة العثمانية الأرخص وتهديد من يخالف ذلك بالقتل مما أفقد المصريين نسبة الثلث من القيمة الشرائية لأموالهم. بل وتم اعتماد طريقة «المزاد» لبيع الوظائف المالية لمن يتعهد بدفع مبلغ أكبر للخزانة يقوم بتحصيله من المصريين فلاحين وتجارًا وحرفيين.

فهل كان هذا ما يجري في الدولة التركية الحاكمة مع المواطن العثماني؟ ولماذا لم نر مصريًا واليًا أو وزيرًا في بلاط إسطنبول أو قائدًا للجيش؟ إن محاصرة المصريين – من مختلف الطبقات – في منطقة «المحكوم المذعن لحاكمه» تظهر التفرقة في المعاملة.

ولنقارن ذلك مثلًا بالحكم العربي الإسلامي لمصر، فقد تم ضم مصر لدولة أم، ولكن مع مساواتها بالإقليم الحاكم من حيث الخدمات والمؤسسات، وأتيحت الفرص لأهلها لتولي المناصب والمشاركة في الحكم داخل إقليمهم وخارجه. هذا ما يوصف بـ«الفتح» وهو ما يختلف مع الوضع العثماني.

وبينما أقام العثمانيون ببلادهم المستشفيات والمدارس، لم تهتم حكومتهم بإقامتها في مصر، وتُرك الأمر لأهواء الولاة و«أهل الخير». وكانت كل سياسات الدولة العثمانية في مصر تتلخص في «زيادة ما تمول به الخزانة العثمانية» وقيام سلطاتها بالمهام العسكرية في المنطقة لصالح إسطنبول.

لكن ألم تكن حقيقة الأمر أن أهل مصر هم الذين استغاثوا بالعثمانيين وطلبوا منهم أن يأتوا لإنقاذهم من ظلم المماليك وفشل سلطانهم قنصوه الغوري؟

والإجابة أن هذا ادعاء على من يقول به أن يثبته عملًا بمبدأ «البيّنة على من ادّعى»، ولا توجد إثباتات تاريخية له. ولا تكفي مراسلة بعض الرجال للسلطان العثماني لاعتبار أنهم يمثلون الشعب المصري. والمراسلات الوحيدة المثبتة كانت لحاكم حلب «خاير بك» الذي أظهر انحيازًا للعثمانيين وخان السلطان الغوري في معركة مرج دابق بالشام وتراجع بقسم من الجيش لينهزم المماليك، ثم كافأه العثمانيون بحكم مصر باسمهم، وكان سليم الأول يسخر منه بتسميته «خاين بك».

ثم لو كان المصريون هم الذين استدعوا الغازي العثماني، فما تفسير قيامهم بعد مصرع الغوري بالمناداة بخليفته طومان باي سلطانًا عليهم وتحيزهم له إلى حد قيامهم بجلب أمراء القاهرة قسرًا إلى القلعة ليحلفوا له أيمان الولاء، ثم قيامهم بعد ذلك بالمشاركة في أعمال مقاومة الغزاة بكل حماس إلى حد اضطرار القوات العثمانية لقنصهم بالرصاص من أعلى مآذن مساجد القاهرة؟ إن هذه الهمة في المقاومة والتصدي تنفي تمامًا حجة «الاستغاثة» المزعومة.


لماذا يعتبر تأسيس العثمانيين لفئة حاكمة غريبة بمثابة احتلال ما دام كان الوضع مماثلًا في عصر المماليك؟

الوضع كان مختلفًا، ففي العصر المملوكي كان المملوك المجلوب صغيرًا لا يعرف له وطنًا إلا مصر، وانتماؤه لطبقته الحاكمة لا ينفي انتماءه للمجتمع في مجملها وإلا لاعتبرنا أن كل طبقة في المجتمع هي «دولة» في حد ذاتها. بينما كان انتماء الوالي العثماني مؤقتًا، وكذلك الجند العثمانيون المرابطون بمصر كان بقاؤهم بها مجرد خدمة عسكرية للدولة الأم في إسطنبول.

إضافة لذلك فإن إدارة الدولة في العصر المملوكي كانت مقسمة إلى فئتين حاكمتين هما «أرباب السيف» وهم أصحاب المناصب العسكرية من المماليك، و«أرباب القلم/أهل العمامة» وهم الفقهاء والقضاة والنُظار والأدباء، وجلهم من أهل مصر. مما يعني أن الحكم كان مصريًا ولكنه كان طبقيًا. والمتأمل في التاريخ المصري يدرك بسهولة أن الانتماء لمصر لم يكن بالضرورة انتماءً عرقيًا بقدر ما كان انتماءً بـ «الارتباط التاريخي»، بحيث يعتبر مصريًا من ارتبط تاريخه بمصر والعكس.


ألم يكن غزو وحكم العثمانيين لمصر إنقاذًا لها من مصير كمصير الأندلس لو كان غزاها الفرنجة؟

ما الذي يفعله الغازي الغريب لبلادك؟ إنه يسلبها خيراتها ويستعبد أهلها ويقمعهم ويتعامل معهم باعتبارهم مجرد مذعنين لأوامره وسياساته ولا يقدم لهم أي خدمات مساوية لما يأخذ منهم. ما الذي فعله العثمانيون بمصر؟ لقد اتخذوها بقرة حلوبًا لتمويل إسطنبول وعاملوا المصريين كمجرد خدم للمصالح المالية للسلطان وكلفوا البلد حمل «إرسالية مالية سنوية» فضلًا عن الأعباء المالية لرواتب الولاة والموظفين العثمانيين وكتائب الجند. في مقابل ماذا؟ لا شيء، فلم تكن السلطات العثمانية تهتم بالأمور الخدمية من مؤسسات صحية وتعليمية بل كانوا يتركونها لـ «الجهود الذاتية» أو لرغبات الوالي وميوله.

أليس هذا ما كانت تفعله سلطات الاحتلال الأوروبي في الشرق؟ بالعكس لقد كان المحتل الأوروبي يهتم بالمؤسسات الخدمية أكثر مما كان العثماني يفعل (وليس هذا مدحًا له بالطبع فقد كان يفعل ذلك فقط خدمةً لمصالحه التي اقتضت ذلك).

لو نظرنا لتلك السياسة الإدارية وقيّمناها بشكل عام بغض النظر عن القائم بها، ألا تعتبر «سياسة احتلال»؟ وكون أن القائم بها «مسلم» أو «مشرقي» لا يخفف من وطأتها، فالفعل يتم تقييمه بذاته لا بشخص فاعله، فالقتل هو القتل سواء كان القاتل مسلمًا أم غير مسلم، والسرقة هي السرقة بغض النظر عن دين أو هوية السارق… وهكذا.

ثم إن دفاع العثمانيين عن الأقاليم المحكومة كان أمرًا بديهيًا من دولة تحتل إقليمًا للاستفادة من ثرواته وموقعه، فطبيعي جدًا أن تحارب لمنع حيازة غيرها له، من منطلق أن مصلحتها تقتضي ذلك، فهذا إذن ليس تفضلًا منها بل هو إجراءً نفعيًا بحتًا.

ثم إن فرضنا حسن نوايا العثمانيين ورغبتهم الصادقة الدفاع عن القضية الإسلامية، فلماذا أجهض سليم الأول مشروعًا مملوكيًا عثمانيًا سابقًا – في عهد سلفه بايزيد الثاني والسلطان المملوكي قايتباي – للدفاع عن الأندلس واسترداد ما سقط منها، مقابل قيامه بغزو الشام ومصر؟ أليست تلك خيانة للقضية المشتركة؟

ولو سايرنا حجة «الدفاع عن الأقطار الإسلامية» فبم نفسر سرعة تساقط تلك الأقطار واحدًا تلو الآخر في يد الغازي الأوروبي في شمال أفريقيا ومصر خلال القرن التاسع عشر، فضلًا عما جرى قبل ذلك من سهولة سقوط مصر في يد حملة بونابارت؟

ومن الجدير ذكره، كذلك أن سليم الأول لم يكن ينتوي غزو مصر، بل اقتصر طمعه على الشام انتهاءً بغزة، ولم يشجعه على غزو مصر سوى تحريض الأمير المملوكي الخائن خاير بك الذي كان يخشى انتقام المماليك لو استمر حكمهم بالقاهرة.


ألم يكن حكم العثمانيين مصر بمثابة توحيد لـ «بلاد الخلافة» في دولة واحدة؟

الخلافة كانت قائمة بالفعل في القاهرة – وإن كانت بشكل شرفي – وكانت تحظى باعتراف الحكام المسلمين حتى خارج الدولة المملوكية، حتى أن أغلب سلاطين وملوك الأقطار الإسلامية حتى حدود الصين والهند وغرب آسيا بل وبعض سلاطين العثمانيين كانوا يرسلون عند تعيينهم مبعوثًا إلى القاهرة ليحصل من الخليفة على «تقليد» بالحكم وعلمًا خليفيًا، فما الذي تغير حتى يقرر سليم الأول العثماني توحيد الخلافة؟ ولو نظرنا للأمر من وجهة النظر «الشرعية» لأدركنا بطلان تلك الحجة، فأولًا، يجيز الشرع قيام خليفتين طالما تباعدت بلادهما، فلا مبرر لاعتداء إحداهما على الأخرى، وثانيًا، فإن تطبيق الشرع بحذافيره على قيام سليم الأول بغزو مصر – دار الخلافة – فإنه هنا يعتبر «خارجي» – أي خارج على الشرعية الحاكمة – بغض النظر عن تحول حكمه بعدها لما يوصف بـ «إمرة الاستيلاء»، وثالثًا، فإن من الشروط الشرعية للخليفة أن يكون قرشيًا، أي أن شرعية الخليفة العباسي في القاهرة تفوق شرعية مدعي الخلافة العثماني.

هذا فضلًا عن حقيقة تاريخية تقول إن دولة العثمانيين لم تكن دولة خلافة أصلًا، فما شاع عن تنازل الخليفة العباسي عن خلافته لسليم العثماني لم يثبت تاريخيًا، ولم يرد في رسالة سليم لابنه في إبلاغه بانتصاره على المماليك، وما تردد عن خطبة سليم الأول لنفسه في دمشق بالخلافة واتخاذه خاتم «ظل الله على الأرض» لا يثبت له المنصب لأنه لم يستخدمه بعدها.

حقيقة الأمر، أن استخدام العثمانيين لمصطلح «الخلافة» إنما كان يأتي فقط في سياق قيام بعض الكتاب بتعظيمهم بوصف السلطان بـ «أمير المؤمنين» أو «خليفة سيد المرسلين» دون استخدام رسمي للقب. ولم يصف سلطان عثماني نفسه بالخليفة إلا مرة واحدة في القرن الثامن عشر خلال مفاوضات عبد الحميد الأول مع قيصر روسيا، وكان عبد الحميد يرغب في إضفاء حمايته على مسلمي شبه جزيرة القرم فوصف نفسه بالخليفة، أما الصفة الرسمية للخلافة، فكانت في عام 1876م في دستور نفس العام عندما نص الدستور الذي أصدره عبد الحميد الثاني، أنه خليفة المسلمين وأن إسطنبول هي دار الخلافة، وحتى المؤرخ محمد فريد بك المحامي في كتابه «الدولة العلية العثماني» -الذي يبدو جليًا فيه انحيازه للعثمانيين – لم يصف السلاطين سوى بـ «السلطان الغازي فلان خان» ثم في عهد محمد رشاد – التالي لعبد الحميد الثاني – وصفه بـ «أمير المؤمنين وخليفة المسلمين» في إشارة واضحة لبداية نظام الخلافة العثمانية.


كل ما سبق يظهر بوضوح أن حكم العثمانيين مصر كان مجرد احتلال آخر مع فارق أن المحتل من أهل الشرق ويدين بالإسلام، وهو ما لا يكفي لنفي صفة الاحتلال. فكما سلف الذكر يُحكَم على الفعل بذاته لا بشخص فاعله – هذا ما يقتديه كل من الإنصاف والموضوعية – وعلى المتناول الجاد للتاريخ أن يتجرد من أهوائه وانحيازاته قبل تقييم الوقائع والأشخاص وإلا صار من «متبعي الهوى» ولم يُعتَد بقوله. وهو للأسف ما يعانيه تناول الحقبة العثمانية من التاريخ المصري.

المراجع
  1. تاريخ الجبرتي
  2. مصر المملوكية، د. هاني حمزة
  3. الدولة العلية العثمانية: محمد فريد بك المحامي
  4. دراسات في تاريخ مصر الحديث والمعاصر: د.صلاح هريدي
  5. عصر سلاطين المماليك: د. قاسم عبده قاسم
  6. العثمانيون: د. محمد سهيل طقوش
  7. مصر العثمانية: جورجي زيدان
  8. أطلس تاريخ الإسلام: د.حسين مؤنس
  9. الأحكام السلطانية والولايات الدينية: أبو الحسن الماوردي
  10. الجبرتي وعصره: د. عصمت محمد حسن
  11. بدائع الزهور في وقائع الدهور: ابن إياس
  12. دولة المماليك في مصر والشام: د. محمد سهيل طقوش