تعود جذور المسألة اليهودية في أوروبا إلى نهايات العصور الوسطى – في القرن السادس عشر تقريبًا – لكن يمكن القول دون مبالغة إنها لم تتحول إلى مشكلة ملحة تبحث عن حل جذري إلا في القرن التاسع عشر، وبالتحديد في النصف الثاني منه، وكان السبب في ذلك هجرة جماعات ضخمة من يهود شرق أوروبا في روسيا وبولندا وأوكرانيا إلى وسط وغرب أوروبا.

كان اليهود في شرق أوروبا يحتكرون مهام التجارة والاستيراد والتصدير في المجتمعات الإقطاعية التي كانت منقسمة إلى السادة والنبلاء الإقطاعيين ملاك الأراضي الزراعية، والفلاحين الأقنان الذين يزرعون الأرض لصالح الإقطاعيين، ومن ثَمَّ كان اليهود موجودين في المجتمعات الإقطاعية للقيام بدور الوكلاء للنبلاء ملاك الأراضي، وكأدوات لإدارة إقطاعياتهم والتحكم في الفلاحين، وكتجار وحرفيين لبيع واستيراد وتصدير السلع غير الزراعية.

لكن مع إلغاء نظام الأقنان في روسيا في ستينيات القرن التاسع عشر بدأت طبقة برجوازية محلية روسية في الظهور، راغبة في إزاحة اليهود من فوق عرش التجارة، وظهرت كذلك أدوات وماكينات التصنيع الحديثة، مهددة بانتفاء الحاجة إلى وجود الحرفيين اليهود التقليديين، وتنامى شعور بالعداء لليهود والرغبة في التخلص من وجودهم في المجتمع الروسي، فراحت قطاعات كبيرة منهم تلجأ للهجرة إلى وسط أوروبا وغربها، وشكلت مصدرًا لانزعاج الحكومات والجماعات اليهودية المندمجة في غرب أوروبا، والتي رغبت بدورها في التخلص من هذا الوافد المزعج.


قبل هرتزل

لم يبدأ المشروع الصهيوني لتوطين اليهود في فلسطين مع تيودور هرتزل أو المؤتمر الصهيوني الأول في بازل 1897 كما قد يظن البعض، وبالأحرى فإن مؤتمر بازل كان نقطة مفصلية بين مرحلتي الصهيونية كدعوة لم تلق كبير استجابة من الجماعات اليهودية في أوروبا، والصهيونية كحركة مُتكئة على الحركة الاستعمارية الأوروبية، البريطانية بخاصة.

أول دعوة رسمية من جانب قوة عظمى لتوطين اليهود في فلسطين كانت من نصيب فرنسا عام 1798.

والملاحظ أن الصهيونية الأولى كدعوة لخروج اليهود من أوروبا وتوطينهم في فلسطين إنما جاءت من أحد مصدرين : الأول هو ساسة وحكام دول أوروبا الغربية الذين كانوا يرغبون في التخفف من أعباء استيعاب موجات هجرة اليهود المتزايدة من شرق أوروبا إلى غربها في القرن التاسع عشر، والاستفادة منهم في الوقت ذاته كمادة بشرية يمكن زرعها في الشام، المنطقة الحاكمة المشرفة على طرق التجارة إلى الشرق الآسيوي.

والمصدر الثاني لهذه الدعوات هو أعلام من يهود أوروبا أنفسهم، إما من المفكرين اليهود الذين كانت غالبيتهم تنتمي إلى أوساط أو طبقات يهودية مندمجة في مجتمعاتها الأوروبية، أو من كبار البرجوازيين والرأسماليين اليهود في غرب أوروبا، والذين رأوا مصلحة في التخلص من الفائض البشري اليهودي الوافد من شرق أوروبا، لئلا يؤلب وجوده الحكومات والشعوب الأوروبية على اليهود كافة، ويهدد مصالح البرجوازية اليهودية المستقرة في غرب أوروبا.


محاولات التوطين

لعل أول دعوة علنية مفتوحة لتوطين اليهود في فلسطين تلك التي أطلقها البيوريتانيين البروتستانت* في إنجلترا عام 1649، حيث قدموا عريضة للحكومة البريطانية يبدون فيها استعدادهم للمساعدة في نقل «أبناء إسرائيل وبناتها» إلى الأراضي الفلسطينية، ومع أن هذه الدعوة لم تُترجم على الأرض، لكنها مؤشر دال على ظهور الفكرة الصهيونية منذ أمد بعيد.

أما أول دعوة رسمية من جانب قوة عظمى لتوطين اليهود في فلسطين فكانت من نصيب فرنسا، ففي 1798 كانت هناك خطة من رسم الحكومة الفرنسية لإقامة كومنولث يهودي في فلسطين، معدة للتنفيذ في حالة نجاح الجيوش الفرنسية في احتلال مصر والشام، وكان من أول ما قام به نابليون بونابرت بعد احتلاله مصر في العام ذاته إصدار بيان دعا فيه اليهود للانضواء تحت رايته من أجل إعادة بناء مملكة القدس القديمة، ثم كرر بونابرت دعوته عند حصاره عكا في 1799، لكن الهزيمة التي مني بها هناك جعلت دعوته تخفت.

كان العائق أمام حركة الهجرة اليهودية إلى فلسطين في هذا الوقت هو رفض السلطان العثماني فتح أبواب فلسطين أمام حركة هجرة يهودية واسعة النطاق.

بدورها، بدأت الإمبراطورية البريطانية تلتفت لما في توطين اليهود في فلسطين من مزايا مع توسع محمد علي في الشام في ثلاثينيات القرن التاسع عشر وتهديده قلب الدولة العثمانية ذاتها، حيث أدركت بريطانيا أن من يسيطر على ضلعي الزاوية الجنوبية الشرقية للبحر المتوسط يملك قوة هائلة، تمكنه من التحكم في طرق مواصلات القوى الأوروبية نحو المستعمرات والأسواق الرئيسية في الهند وآسيا، ومن ثَمَّ أصبح مطلبًا أساسيا لبريطانيا وضع حاجز يمنع الاتصال البري بين مصر والشام.

وحتى قبل ضرب مشروع محمد علي في 1840، بدأت بريطانيا تدرك أهمية وجود جماعة بشرية حليفة لها في الشام وتتولى هي حمايتها، مثل حماية فرنسا للكاثوليك، وحماية روسيا للأرثوذكس في الدولة العثمانية، وفي 1839 أصدر وزير الخارجية البريطاني ورئيس الوزراء فيما بعد هنري جون تمبل (المعروف باللورد بالمرستون) تعليمات للقنصل البريطاني في القدس بإسباغ الحماية البريطانية على اليهود في فلسطين.

أما الكذبة التاريخية الكبرى (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) فهي من نحت «أنتوني آشلي كوبر»، المعروف باسم اللورد شافتسبري، وكان يمت بصلة قرابة للورد بالمرستون، وقدم إليه مشروعا بعنوان «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» أثناء انعقاد مؤتمر لندن في 1840، وهو عبارة عن رعاية بريطانية لحركة تهجير وتوطين اليهود في فلسطين.

كان العائق أمام حركة الهجرة اليهودية إلى فلسطين في هذا الوقت هو رفض السلطان العثماني فتح أبواب فلسطين أمام حركة هجرة يهودية واسعة النطاق، وفي أغسطس/آب 1840 أرسل بالمرستون لسفيره في الآستانة يطلب منه إغراء السلطان العثماني بالثروات التي سيصبها اليهود في فلسطين والآستانة نفسها إذا ما سمح لهم بالاستيطان واسع النطاق في فلسطين، لكن السلطان ظل على رفضه.

وفي تلك الفترة – منتصف القرن التاسع عشر – كان تحالفًا بين الرأسمالية اليهودية الكبيرة في أوروبا الغربية والقوى الاستعمارية قد بدأ يتبلور حول تلاقي مصالح الطرفين على ضرورة تهجير الجماعات اليهودية الوافدة بأعداد كبيرة من شرق أوروبا إلى غربها، الأمر الذي شكّل عبئًا على حكومات دول غرب أوروبا وهدد بتفجير موجة من العداء لليهود فيها.

وظهر هذا التحالف بأوضح صوره في بريطانيا عام 1875، حين موّل الثري البريطاني اليهودي البارون روتشيلد شراء حكومة رئيس الوزراء البريطاني ذي الأصول اليهودية بنجامين دزرائيلي لحصة مصر من أسهم شركة قناة السويس، ولم يكن دزرائيلي من دعاة توطين اليهود في فلسطين فحسب، وإنما كان متحمسًا لإقامة دولة يهودية في فلسطين.

وسوى البريطانيين، لم تكن فرنسا قد أسقطت من حساباتها بشكل نهائي فكرة رعايتها لمشروع توطين اليهود في فلسطين، فبعدما حصلت فرنسا على امتياز شق قناة السويس، راح الإمبراطور نابليون الثالث يبدي اهتمامًا متزايدًا بالفكرة، ذاك الاهتمام الذي عبر عن نفسه على لسان عدد من المقربين من الإمبراطور، مثل جان دونان الذي أسس جمعية استعمار فلسطين في باريس، وإرنست لاهران سكرتير الإمبراطور، الذي دعا لإقامة دولة يهودية في فلسطين تحت الحماية الفرنسية.


المفكرين اليهود

كان المفكر اليهودي الألماني «موسى هس» واحدًا ممن لعبوا دورًا رئيسيًا في بلورة هوية قومية مستقلة لأتباع الديانة اليهودية في أوروبا بغض النظر عن أماكن تواجدهم، فزعم أن الأوساط الألمانية المعادية لليهود لا تكرههم بسبب يهوديتهم فحسب، وإنما تنبذهم باعتبارهم أبناء قومية واحدة وعرق واحد دخيل على أوروبا.

ومن ثَمَّ رفض هس جميع الدعوات التنويرية المنادية باندماج يهود أوروبا في مجتمعاتهم، ودعا إلى تشكيل تحالف صهيوني فرنسي لتأسيس دولة يهودية في فلسطين بتمويل من البرجوازية اليهودية في أوروبا، وربما وقع اختياره على فرنسا لما رآه من نموذج رعايتها وحمايتها للطائفة المارونية في الشام، ورغب في تكراره مع دولة يهودية هذه المرة.

وفي روسيا، كان المفكر اليهودي ليو بنسكر من أشد المتحمسين لفكرة اندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية وفي المجتمع الروسي خاصة، لكنه تحول إلى الفكر الصهيوني مع موجة الاضطهاد التي تعرض لها اليهود في روسيا، بعد نمو البرجوازية الروسية في ثمانينيات القرن التاسع عشر ومزاحمتها لليهود في أنشطتهم الاقتصادية، وبعدما عاين نفور المجتمعات الأوروبية الغربية من اليهود الوافدين إليها من شرق أوروبا.

وفي 1882، وضع بنسكر دراسته الشهيرة المعنونة «الانعتاق الذاتي»، نادى فيها بإحياء الروح القومية اليهودية وخروج عوام اليهود غير المرحب بهم في أوروبا إلى أرض خارجها تكون وطنًا لهم، وإن لم يشترط فلسطين بالضرورة، كما سبق بنسكر هرتزل في طرح فكرة تأسيس شركة مساهمة يهودية تتولى الإنفاق على مشروع تهجير وتوطين اليهود خارج أوروبا.


على الأرض في فلسطين

في 1882، وضع ليو بنسكر دراسته الشهيرة المعنونة «الانعتاق الذاتي»، نادى فيها بإحياء الروح القومية اليهودية وخروج اليهود إلى أرض تكون وطنًا لهم.

في ستينيات القرن التاسع عشر، لعبت جمعية (الاتحاد الإسرائيلي) اليهودية الفرنسية دورًا كبيرًا في مساعدة اليهود في فلسطين ومحاولة زيادة عددهم عن طريق الهجرة، وفي 1868 نجح النائب اليهودي بالبرلمان الفرنسي «أدولف كريمييه» في استئجار قطعة أرض قرب يافا من السلطان العثماني، أقامت عليها الجمعية أول مدرسة لتعليم اليهود في فلسطين أصول الزراعة باسم مدرسة مكفية إسرائيل الزراعية.

وفي 1855 اشترى الثري البريطاني اليهودي «موسى مونيفيوري» قطعة أرض ملاصقة لسور مدينة القدس، بعد ضغوط بريطانية شديدة على السلطان العثماني للسماح بتملك اليهود للأراضي في القدس ومحيطها، وبعد عامين أقام عليها أول حي لسكن اليهود باسم (مشكنوت شعنانيم) وعُرف لاحقًا باسم حي مونتيفيوري.

وفي 1878 اشترت مجموعة من يهود القدس قطعة أرض كبيرة قرب يافا، وبعد عام اشتروا قطعة كبيرة أخرى ملاصقة لها، وأقاموا عليهما معًا مستوطنة بتاح تكفا (فاتحة الأمل)، حيث بدأ الاستيطان اليهودي الجماعي فيها في 1881، وتعد بتاح تكفا أول مستوطنة يهودية كبيرة نسبيًا ويؤرخ بسكناها لبداية الاستيطان اليهودي الرسمي في فلسطين.

وبدءًا من هذا التاريخ راحت المستوطنات تتوالى، فتأسست ثلاث مستوطنات كبيرة في 1882، هي «زخرون يعقوب» و«ريشون لتسيون» و«روش ليتاح»، وفي العام التالي تأسست مستوطنتا «نيوز يونا» و«يسود همعلاه»، وفي 1890 تأسست مستوطنات مشمار هارون ورحوبوت والخضيرة.

وفي هذا الوقت – العقد الأخير من القرن التاسع عشر – كانت المسألة اليهودية وحلها الصهيوني قد نضجا بما يكفي لظهور المؤسس الحقيقي للصهيونية الحركية تيودور هرتزل، الذي لم يكتف بالخطابة والتأليف والطروحات النظرية، فراح يمد جسور الاتصال مع الساسة في غرب أوروبا، ومع كبار البرجوازيين اليهود والمفكرين والنشطاء والحاخامات المؤيدين للحل الصهيوني، وبدأت فكرة توطين اليهود في فلسطين تمهيدًا لإقامة الدولة اليهودية فيها أولى خطواتها.


* هم أتباع مذهب مسيحي بروتستانتي يجمع خليطًا من الأفكار الاجتماعية والسياسية واللاهوتية والأخلاقية. ظهر هذا المذهب في إنجلترا في عهد الملكة إليزابيث الأولى وازدهر في القرنين السادس والسابع عشر، ونادى بإلغاء اللباس والرتب الكهنوتية. وتستند تعاليمهم إلى الإيمان بالكتاب المقدس مصدراً وحيداً للعقيدة الدينية من دون الأخذ بأقوال القديسين ورجال الكنيسة، ويقضي بأن من واجب الإنسان أن يكون سلوكه في الحياة مطابقاً لما ورد في الكتاب المقدس، وعليه أن يؤمن بعقيدة القضاء والقدر.
المراجع
  1. عبد الوهاب المسيري، في الخطاب والمصطلح الصهيوني..دراسة نظرية وتطبيقية، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثانية، 2005.
  2. خيرية قاسمية، النشاط الصهيوني في الشرق العربي وصداه 1908 – 1918، مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، 1973.
  3. محمد حسنين هيكل، المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل – الجزء الأول (الأسطورة والغمبراطورية والدولة اليهودية)، دار الشروق، القاهرة، 1996.
  4. Shlomo Avineri, The Making of Modern Zionism: The Intellectual Origins of the Jewish State, Basic Books, New York, 1981.