عندما كان الطفل طفلا، لم يكن يعرف أنه طفلٌ كل الأشياء كانت ملهمة بالنسبة له وكل الأرواح كانت واحدة

بهذا الكلمات يبدأ المخرج الألماني «فيم فيندرز» فيلمه الأشهر «أجنحة الرغبة». عن حكاية ملاك يريد أن يحيا كالبشر، وعن حكاية بشر يريدون أن يصبحوا خالدين كالملائكة. عن الرغبة في الحياة، الرغبة في الحب، والتفاصيل الصغيرة التي تفرق بين الأحياء والموتى. حكاية تدور في برلين، وفي عام 1987، حينما كان هناك جدار يفصل بين جانبي المدينة، يفرق بين معسكري الحرب الباردة، ويفرق الأهل والأحباء.

حكاية فيندرز التي شاركه في كتابتها الكاتب المسرحي «بيتر هاندكه» تدور حول ملاكين، هما «داميال» و«كاسيل»، ملاكان يجوبان سماء برلين وشوارعها. والملائكة في حكايتنا لا يتدخلون في حياة البشر، كما أنهم لا يراقبون أعمالهم الطيبة وغير الطيبة. للملائكة هنا دور أكثر شاعرية، فهم يهتمون بأمر واحد، وهو الاستماع لخواطر البشر، هواجسهم، مخاوفهم، ورغباتهم.

فيم فيندرز درس الطب في بداية حياته، ثم تركه ليدرس الفلسفة، ثم في النهاية ترك كل هذا ليذهب إلى باريس ويعمل كرسام ومصور. هذه الخلفية المتنوعة والغنية واضحة تماما في أسلوبه الإخراجي في هذا الفيلم، وخصوصا في شريط الصورة واستخدام الألوان.

تُسرد الحكاية في الفيلم بالأبيض والأسود، يتخلل ذلك كادرات منفردة بالألوان الكاملة، قبل أن ينتقل السرد بالكامل للألوان الكاملة التي يتخللها كادرات بالأبيض والأسود. يتطلب الأمر بعض الوقت حتى ندرك قيمة هذا الانتقال، ولنعرف أن الملائكة لا ترى الألوان، ولكنها تراقب حياتنا بالأبيض والأسود. كادرات فيندرز طوال أحداث الفيلم تصلح كلوحات منفردة.

تنقسم الحكاية لثلاث مراحل كما اعتادنا في بناء السيناريو الكلاسيكي، مرحلة بناء الشخصيات، مرحلة المجابهة، مرحلة الحل. في سيناريو «أجنحة الرغبة» تستمر المرحلة الأولى بشكل أشبه بتأمل طويل برفقة الملائكة، نتابع معهم خواطر البشر وهواجسهم، ثم ننتقل للمرحلة الثانية بظهور فتاة الأكروبات في السيرك حين تلمس هواجسها روح الملاك داميال حتى يقع في حبها، وتصبح بالتالي محركا للمرحلة الثالثة التي يقرر فيها أن يصبح ملاكا سابقا.

داميال وكاسيل لهما طريقتان في التعامل مع هواجس البشر، كاسيل يستمع لها ويسجلها، يعاملها بطريقة دقيقة للغاية، كما أنه يشعر بالأسى لعدم قدرته على إنقاذ حيواتهم. يظهر هذا بوضوح في مشهد يحضر فيه كاسيل للاستماع لهواجس شاب يحاول الانتحار، ينفذ الشاب محاولاته بالفعل، وحينها نتابع صرخات كاسيل الغاضبة.

على جانب آخر يظهر داميال كمتأمل في خواطر البشر، يحاول انتزاع الجمال حتى في أشد اللحظات حزنا. وتظهر قيمة الفيلم في تأملاته، في قدرته على جعلنا نصدق أن هؤلاء الملائكة غير مرئيين، وأننا نتابع حياة البشر من خلال عيونهم.

تظهر التتابعات الشاعرية التي كتبها فيندرز برفقة بيتر هاندكه كمقاطع تصلح لأن تكون أفلاما قصيرة منفردة، كما يمكن تحويل نصها منفردا إلى قصائد. ومن بين هذه التتابعات نذكر مشهد حضور داميال لموقع حادث سيارة.

يبدأ المشهد بكادر متحرك وسط طريق وكأننا نرى الحياة من عيون الملاك داميال، يظهر أخيرا رجل مصاب ومستلقٍ على جانب الطريق الأيمن. تنتقل الكاميرا في الجهة المقابلة ليظهر داميال في المكان الذي كنا ننظر منه.

يريح داميال راحتي يديه على رأس الرجل المصاب، يحاول طمأنته كما يحاول تذكيره بكل التفاصيل الصغيرة الجميلة في الحياة، تتحرك الكاميرا في بشكل بندولي خفيف يجعلنا نشعر براحة تشبه اهتزازات أرجوحة أو كرسي هزاز وسط حقل أو أمام بحر، فيندرز يحاول تنويمنا مغناطيسيا هنا، ترافقه همسات الملاك داميال التي تبدأ في الخفوت شيئا فشيئا حتى يتلقفها الرجل المصاب ويتمتمها بدلا منه.

يحضر شخص أخيرا من جانب الكادر الأيمن لمساعدة الرجل المصاب الذي أصبح في حالة من الهدوء والطمأنينة الآن وهو يردد «عيون الأطفال، السباحة في الشلالات، الشمس، الخبز والنبيذ، أعياد الربيع، النسيم وسط الحقول، أيام الأحد الهادئة، ضوء الغرفة القادم من الحديقة، أبي، أمي، حبيبتي، ابني» يغادر الملاك داميال الكادر أخيرا نحو الجانب الأيسر، نرى الكادر وهو يتحرك من خلال عينيه وكأننا نطير فوق شريط قطار وسط أحد الحدائق. مشهد شاعري مكتمل ولحظة سينمائية خالدة.

لم تكن فتاة الأكروبات الجميلة التي وقع داميال في حبها سببا وحيدا في قراره التخلي عن خلوده كملاك، تسبب في ذلك أيضا مقابلته للممثل الأمريكي «بيتر فالك»، الذي اشتهر في السبعينيات والثمانينيات كبطل لمسلسل كولومبوس المحقق الذي يكشف قضايا القتل. يخاطب فالك داميال في أحد المشاهد رغم كونه غير مرئي بالنسبة له، يخبره عن طعم القهوة في الصباح، الإحساس بقدرتك على الشعور بالبرد، الدفء القادم من فرك يديك بعضهما ببعض، وأخيرا جعلك قادرا أن تفعل هذا كله في نفس الوقت وأنت أمام إحدى عربات القهوة كل يوم. يعترف أخيرا فالك لملاكنا بأنه هو أيضا ملاك سابق.

هذه التأملات المتتالية في تفاصيل الحياة البسيطة تظهر كرسالة لنا، نحن الذين نحيا ولا نعطي أنفسنا الفرصة للاستمتاع بتفاصيل الحياة، نضيع حياتنا في مطاردة أعمال لا نحبها ولا نستمتع بها، ونغادرها دون أن نستمتع بلحظة تأمل، دون حكايات تستحق أن تُحكى، ودون حب. رغم أن هذه الأشياء هي التي يحسدنا الملائكة عليها، وليست أعمالنا القميئة، ولا ملابسنا الفاخرة. وكأن فيندرز يخبرنا أننا هكذا موتى.