شهدت الثلاث سنوات الماضية منذ تولي السيسي مقاليد السلطة في مصر حالة من تراجع النشاط العمالي والحركة الاحتجاجية والتي كانت قد شهدت العديد من الإرهاصات لتكوين حركة عمالية اجتماعية قادرة على تحقيق التوازن على الساحة السياسية فيما بعد ثورة 25 يناير. فلماذا سعى النظام الحالي إلى إفشال الحركة العمالية الوليدة؟

عانت الحركة العمالية والنقابية في مصر منذ تأسيسها في 1899 من قمع الأنظمة المتعاقبة ومحاولات إفشال أي إرهاصات لحركة عمالية فاعلة، وفي إطار استراتيجيات الدولة في التعامل مع ملف الحريات النقابية عملت على تأميم النشاط النقابي منذ 1959 فاستمرت تبعية هذا النشاط للتوجه الحكومي حتى أواخر عهد مبارك.


النقابات المستقلة ومعركة الاستقلال

كانت النشاطية العمالية والحقوقية منذ عام 2006 البداية الحقيقة لصور النضالات اليومية التي شهدها المجتمع المصري في مواجهة قمع واستبداد نظام مبارك، حتى كللت تلك الجهود بإسقاط النظام مدعومة بثورة شعبية شاملة كافة الفئات الاجتماعية، وهنا حاولت النشاطية العمالية أن تحافظ على مكتسباتها القانونية والدستورية والحفاظ على استقلاليتها بتأسيس النقابات المستقلة.

النشاطات العمالية بعد 2006 كانت الانطلاقة الأولى لتحرك الجماهير الحاسم في 2011 وهو ما يخيف النظام الحالي

كانت البداية الأولى لتأسيس النقابات المستقلة في عام 2009 وتأسيس نقابة الضرائب العقارية المستقلة، ثم تسارعت المجموعات العمالية المهنية والحرفية إلى تدشين وتأسيس نقاباتها المستقلة بعد ثورة يناير حتى وصلت إلى 1600 نقابة مستقلة في بضعة شهور، وتزايدت معها صور النضالات العمالية اليومية من أشكال المقاومة والاحتجاج والاضرابات حتى بلغت في عام 2014 إلى أكثر من 2247 إضرابًا وهو العام الأكثر حراكًا للنشاطية العمالية.

ولكن مع تثبيت نظام ما بعد 30 يونيو أركان حكمه تشير إحصائيات الإضرابات إلى تراجع حاد في النضالية العمالية، فقد بلغت عدد الإضرابات 1115 في عام 2015، وإلى حد ما استقر هذا العدد في 2016 حيث بلغ 1736 إضرابًا، فيما عمل النظام على تعطيل وإجهاض مشروع النقابات المستقلة، وقد تعددت الأسباب حول هذا التراجع وهذه الفلسفة منها ما يعود إلى مشكلات التنظيم الداخلية ومنها ما يعزا إلى السياسات الحكومية.

وقبل الحديث عن الأسباب الداخلية والسياسات الحكومية والتي دفعت إلى تراجع النشاطية العمالية في مصر، لا بد من وضع أطر منهجية لمفهوم النشاطية العمالية، وما هو يمكننا من فهم تأثير المشكلات الداخلية والسياسات على تراجع نضالات وممارسات المجموعات العمالية.


اللاحركات: مشكلات التأسيس والتنظيم

تشير التجربة التاريخية للممارسات العمالية في مصر إلى أننا أمام ممارسات تقودها مؤسسات نقابية على قطاع واسع وممارسات تقوم بها جماعات حرفية أو مهنية أحيانًا بعيدة عن أطر التنظيم النقابي، وهو ما يدفعنا هنا إلى التساؤل ما إذا كان هناك حركة عمالية في مصر؟ أم أننا أمام صورة أخرى للتنظيم البشري؟

في ظل تعقد الظواهر الاجتماعية ومن ثم صعوبة الاتفاق على مفهوم واحد للتنظيم السياسي والاجتماعي البشري، فإن بعض المداخل التفسيرية للممارسات العمالية تشير إلى خضوع تلك الممارسات لثلاثة مفاهيم هي الحركات الاجتماعية، واللاحركات الاجتماعية، والحركات الاحتجاجية.

النضالية العمالية هي أقرب بسماتها إلى الحركات الاحتجاجية واللاحركات الاجتماعية، حيث تفتقر إلى القدرة التنظيمية التي تمتاز بها الحركات الاجتماعية

قد تتقاطع تلك المفاهيم وتتلاقى في أركان عدة ولكن المنظرين الاجتماعيين يرون أنها متمايزة بقدر ما تبين حالات القصور التنظيمي والحركي للتجمعات البشرية المختلفة، فمهفوم الحركة يعني «الجهود المنظمة التي تبذلها مجموعة من المواطنين كممثلة عن قاعدة شعبية تفتقد التمثيل الرسمي بهدف تغيير الأوضاع أو السياسات أو الهياكل القائمة لتكون أكثر اقترابا من القيم التي تؤمن بها الحركة».

أما مفهوم اللاحركات الاجتماعية، فهو يشير إلى ممارسات جمعية لأفراد غير جمعيين قد لا ينتمون إلى فئة واحدة أو طبقة واحدة وقد يشترك فيها منظمات أو مؤسسات، وتمتاز بأنها لا تكون موجهة بأيديولوجية أو بقيادات معترف بها.

أما المفهوم الثالث، وهو الحركات الاحتجاجية والذي يعني الأشكال المتنوعة من الاعتراض والتي تستخدم أدوات يبتكرها المحتجون للتعبير عن الرفض أو لمقاومة الضغوط الواقعة عليهم أو الالتفاف حولها، وهي أشكال منتشرة في الفئات الاجتماعية كافة وخاصة الواقعة منها تحت الضغوط الاجتماعية والسياسية، وقد تتخذ أشكالاً هادئة أو هبات منظمة.

وبالعودة إلى التجربة التاريخية للنشاطية العمالية في مصر والتي بدأت إرهاصاتها في 1899 وتحت مظلة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها البلاد في أعقاب الانفتاح على رأس المال الأجنبي إبان حقبة الاحتلال البريطاني، نجد أن النضالية العمالية هي أقرب بسماتها إلى الحركات الاحتجاجية واللاحركات الاجتماعية، حيث تفتقر إلى القدرة التنظيمية التي تمتاز بها الحركات الاجتماعية.


الأزمات المتراكبة: الكادحون في مواجهة أنفسهم

الفردية والفئوية

إحدى أهم مميزات التنظيم البشري السياسي والاجتماعي هي وحدة الألم والأزمة التي يمر بها أبناء التنظيم، وهو ما يدفع بهم إلى التفكير إلى الاجتماع لمقاومة هذا الألم، وبالرغم من أن المجموعات العمالية ومنذ تأسيس النشاطية العمالية في مصر يعانون من نفس المشكلات ووحدة الأهداف من زيادة رفع الأجور وتحسين الأوضاع المعيشية ومقاومة الفصل التعسفي ومحاولات الحفاظ على الحقوق والحريات العمالية. إلا أن في مصر تفتقد النشاطية العمالية إلى وحدة التنظيم ووحدة الحركة دفاعًا عن حقوق وحريات عامة، ولكنها تبقى حبيسة مطالبها الفئوية والعمالية داخل حدود المؤسسة، وهو ما يفسر على سبيل المثال عدد الإضرابات التي شهدتها البلاد في فترة مابعد ثورة 25 يناير.

التشظي والتمويل

عانت النشاطية العمالية في السنوات اللاحقة لثورة 25 يناير من حالة التشظي والتضارب في الأهداف والرؤى التغييرية للنشاطية العمالية، كذلك مثلت الأزمات التمويلية إحدى أبرز تلك الأزمات التي حجمت نشاط النقابات المستقلة في مواجهة النقابات العامة وعدم قدرتها على تعبئة وحشد قواعد نقابية لفترات مستمرة نسبيًا، ولكن ضعف نشاطها واعتمادها فقط على صور الإضرابات والاعتصامات دفع الكثيرين إلى التخلي عن آمالهم بتلك النقابات.

غياب الرؤية والاستراتيجية

يذهب طوني صغبيني في تحليل أسباب فشل النشاط التغييري في الشرق الأوسط فيما بعد الربيع العربي إلى أن أحد أبرز أسباب فشل حركات الألفية هي تماهي تبني الحركات لاستراتيجيات التغيير بين ثنائية العنف واللاعنف، ويذكر أن هذه الاستراتيجيات تحولت من آلية للتغيير إلى هدف في حد ذاتها، مما أدى إلى إفشال النشاطية السياسية والاجتماعية والتي باتت مدعومة بثقافة الفراغات والنهايات وردات الفعل قصيرة الأجل، وتغلب عليها الطابع اللاسلطوي واللاستراتيجي للتغيير.

تماهت في ضوء ذلك التجربة العمالية في مصر خاصة في فترة ما بعد ثورة 25 ينايرـ حتى بات الاحتجاج والإضراب عنصرًا مميزًا لممارساتها في مقاومتها للسلطة وهو ما دفع إلى سهولة التفاف النظام الأمني لها حول الممارسات التي اعتبرها النظام غير قانونية.


التدخلات الحكومية: كيف أجهضت النقابات المستقلة؟

يدرك النظام الحالي قدرة النقابات المستقلة على تأسيس حركة عمالية مستقلة فاعلة وقادرة على سد الفراغ الذي كشفت عنه الثورة نتيجة ضعف المؤسسات الحزبية والسياسية الرسمية وغير الرسمية معًا

ذكرنا أن فترة ما بعد الربيع العربي مثلت إرهاصات ميلاد جديدة لحركة عمالية اجتماعية مستقلة تقودها النقابات المستقلة، ولكن تم إجهاضها بشكل متسارع فيما يشبه ما قام به نظام ضباط ثورة 23 يوليو 1952 مع عمال مصانع كفر الدوار لوأد الحركة العمالية التي ظنت أملاً في قيادات الثورة الجديدة التي حملت لواء العدالة الاجتماعية كأساس منطلقي للحكم.

تحولت خطوط الصراع العمالي مع الدولة فأصبحت الدولة تواجهه النقابات والكيانات والنشاطات العمالية من موقع المقاومة، خشية تزايد نشاطاتها وفعاليتها السياسية، فمع الشهور الأولى لتولي النظام الجديد مقاليد السلطة تسارعت القرارات والتحذيرات الرسمية من التعامل مع النقابات المستقلة واعتبارها كيانًا غير شرعي.

وهو ما أكده تصريح السيسي في الكتاب الدوري لمجلس الوزراء الصادر في 25 نوفمبر 2015، ومن ثم شن حملة إعلامية وبرلمانية وتشريعية واسعة النطاق على النقابات المستقلة وكياناتها المختلفة.

تصاحبت استراتيجيات النظام في مواجهة النقابات المستقلة مع إصدار قانون التظاهر والذي أحجم على المجموعات العمالية التظاهر والإضراب إلا باستصدار إذن من وزارة الداخلية، وهو ما نلاحظه في تراجع عدد الإضرابات وفعاليتها السياسية.

كما نجح النظام الحاكم في اختراق النقابات المستقلة على شاكلة ما حدث إبان الأنظمة السابقة للربيع العربي، فعمل على تحييد قيادات النقابات المستقلة وموظفي الجهاز الحكومي وسعى باكرًا إلى تقليص المكاسب الثورية والدستورية والمالية التي حصل عليها العمال في السنوات الماضية، فيما غلت يد الداخلية بالقمع للممارسات العمالية الاحتجاجية.


الدوامة الاجتماعية: الغلاء في مواجهة العمال

تحولت خطوط الصراع العمالي مع الدولة فأصبحت الدولة تواجهه النقابات والكيانات والنشاطات العمالية من موقع المقاومة، خشية تزايد نشاطاتها وفعاليتها

أحد الأسباب الخارجية والتي أثرت على النشاط العمالي خلال السنوات القليلة الماضية هو تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بشكل فج خاصة في الشهور القليلة الماضية مع تحرير سعر الجنيه ورفع الدعم عن بعض السلع الأساسية والمحروقات، وهو ما جعل المواطن البسيط والعامل مهمومًا بتوفير قوت اليوم، والانشغال بالحياة اليومية، خشية الفصل التعسفي أو الطرد أو التشريد الوظيفي أو التهديدات الأمنية المختلفة.

ختامًا يبقي الصراع حتميًا بين الدولة وبين النشاطات النضالية المختلفة، ويبقى معه التساؤل حول قدرة النقابات المستقلة على إعادة إحياء المشروع النقابي المستقل من جديد؟ لتحقيق ذلك لابد من محاولة معالجة القصور في النضالية والتنظيمية للعمل النقابي، وتحديد رؤية واستراتيجية واضحة للتعامل مع الأنظمة الحاكمة.

المراجع
  1. آصف بيات، الحياة سياسة: كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط، المركز القومي للترجمة، 2014,
  2. عمرو الشوبكي (محرر)، الحركات الاحتجاجية في الوطن العربي(مصر_المغرب_ لبنان_ البحرين_الجزائر_سورية_الأردن)، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 2014.
  3. طوني صغبيني، لعنة الألفية: لماذا يفشل النشاط التغييري؟، مدونة نينار، 2014.
  4. رؤوف عباس، الحركة العمالية في مصر (1899-1952)، المجلس الأعلى للثقافة،ط1، 2016.