يغال آلون ليس رجل دولة بارزًا في دولة الاحتلال فحسب، إنه «مُنظِّر» كبير و«استراتيجي» له اعتباره في الأوساط الصهيونية، وله دوره الكبير في تقرير سياسة الاحتلال الصهيوني.

ناجي علوش في تقديمه للكتاب المترجم بعنوان «إنشاء وتكوين الجيش الإسرائيلي»

يتحدث يغال آلون بين ثنايا كتابه «إنشاء وتكوين الجيش الإسرائيلي» عن انتصارات الاستعمار الصهيوني وكيف تكون الجيش الإسرائيلي وقصة تكوين الجيش التي ارتبطت بقصة الاستعمار الصهيوني في فلسطين.

وقد وصف ناجي علوش هذا الكتاب بأن «لديه القدرة على استفزاز العقل العربي بصراحته الموغلة في العجرفة العرقية بلا حدود»، وأن هذا هو ما دفعه لتقديم هذا الكتاب والتفكير في ترجمته.

فهذا الكتاب لشخصية درست الفلسفة والسياسة والاقتصاد، وكانت من أوائل المتطوعين في الهاجاناه والبالماخ، تقلد العديد من المناصب السياسية البارزة في حكومة الاحتلال، فكان عضوًا في الكنيسيت ثم وزيرًا للعمل ثم نائبًا لرئيس الوزراء ثم وزيرًا لاستيعاب المهاجرين ووزيرًا للمعارف والثقافة. إلى جانب كونه مُنظرًا كبيرًا مما أعطى هذا الكتاب ثقلاً وأهمية في الأوساط الصهيونية.

ولكي نفهم كيف كان يفكر العدو، لابد من التعرف على الاستراتيجية الصهيونية من منظور شخصية صهيونية ذات ثقل كـ «يغال آلون».


قبل «دولة إسرائيل»

قدم يغال آلون في الفصل الأول من كتابه المرحلة التي سبقت تأسيس إسرائيل، وكيف نشأت القوة العسكرية الصهيونية.

فقد كانت البداية منذ عام 1880 عندما كانت فلسطين تحت سلطة الحكم العثماني، إذ لجأ اليهود لتكوين خلايا للدفاع عن أنفسهم ضد السرقة وقطع الطريق، إيمانًا بأنهم لن يكونوا في مأمن إلا إذا تمكنوا من تحقيق القدرة على الدفاع الذاتي. وبدأ في الظهور عدد من المنظمات الناشئة، وكان على رأسها «هاشومر» التي مثلت المقدمة لظهور منظمة الهاجاناه، وكانت تهدف هذه المنظمات بالأساس إلى حماية المستعمرات اليهودية البعيد منها والقريب.

وبعد وعد بلفور تحديدًا، أُنشئت أول كتائب يهودية تابعة للجيش البريطاني، ضمت يهودًا من فلسطين وبريطانيا وأمريكا ومنحت الشباب اليهود الفرصة لتلقي تدريب عسكري والحصول على أسلحة عسكرية.

تطور القوة العسكرية الصهيوينة في الفترة بين الحربين

لبعض الوقت كنا نقوم بنفس الشيء الذي يفعله وينجت، ولكن على نطاق أضيق وبمهارة أقل، كنا نسير في طرق متوازية دون أن نتقابل حتى جاء لنا ووجدنا فيه قائدنا.
كتبها الجنرال إسحاق صاده عن الجنرال أورد وينجت

تميزت الفترة بين الحربين (1920 – 1939) بهجمات عربية على المستعمرات اليهودية عُرفت حينها باسم «الاضطرابات العربية»، والتي مثلت الشرارة التي دفعت اليهود إلى تطوير منظماتهم العسكرية الناشئة خاصة في ظل حيادية حكومة الانتداب أحيانًا، ومن هنا بدأت الهاجاناه في الظهور وما دعمها في تلك الآونة سيل الهجرة المتدفقة من اليهود من بلدان كثيرة الذين انضموا إليها، حتى أصبحت كل مستعمرة يهودية قلعة هاجاناه في حد ذاتها.

وقد أصيب المجتمع اليهودي خلال الاضطرابات بين عامين 1936 و1939 بخسائر جمّة، حفّزت اليهود حينها نحو تطوير الهاجاناه والتوسع فيها، فأُنشئت شرطة المستعمرات اليهودية من قبل الإنجليز، وذلك من أجل استخدام القوة في حالة الطوارئ وتأمين الطرق والمحصولات وحراسة الأماكن المهمة ونصب الكمائن.

وعندما أنزل الفدائيون العرب خسائر جسيمة بخط الأنابيب، أُنشئت وحدة يهودية بريطانية مشتركة تحت قيادة الجنرال «وينجت» لحماية خط الأنابيب الحيوي، وعرفت تلك الوحدة بـ «الفرق الليلية»، ونظرًا لقلة عددها، لجأ وينجت للتعاون مع وحدات الهاجاناه سرًا، وقد عمل الجنرال «إسحاق صاده» إلى جانب وينجت في إدخال تعديلات جوهرية على الهاجاناه، ونتيجة لذلك تعلمت الهاجاناه القيام بدوريات الحراسة للحقول والمزارع، ونصب الكمائن على طرق العدو وشن الغارات على قواعده.

وفي أواخر عام 1936 وصلت المواجهات بين العرب واليهود إلى أشدها، فقامت الهاجاناه ببناء مستعمرات جاهزة من سياج دفاعي وبرج مراقب مزود بجميع وسائل الدفاع كأساليب حرب العصابات من أجل تحقيق أهداف سياسية وعسكرية، ونمت الهاجاناه قوة وحجمًا، فضمت كل اليهود الموجودين في فلسطين.

تطور القوة العسكرية الصهيونية بعد الحرب العالمية الثانية

إننا سنشترك في الحرب كما لو لم يكن هناك كتاب أبيض، وسنحارب الكتاب الأبيض كما لو لم تكن هناك حرب.

«ديفيد بن غوريون» رئيس المجلس التنفيذي للصهيونية آنذاك واصفًا الكتاب الأبيض

على الرغم من أن مرحلة الثلاثينيات مثلت انتصارًا عسكريًا لليهود فإن اللجنة العربية العليا كسبت الصراع السياسي، وحصلت على الكتاب الأبيض من بريطانيا، الذي كان من شأنه أن يحافظ على النسبة الحالية آنذاك من السكان العرب واليهود، بما يعني الحد من هجرة اليهود إلى فلسطين وحظر المزيد من التوطن، وحل الهاجاناه وإعطاء فلسطين حكمًا ذاتيًا. الأمر الذي لو تحقق لكان كفيلا بأن يقضي على الحلم اليهودي نهائيًا كما أشار آلون.

ولهذا السبب حارب اليهود هذا الكتاب بكل قوتهم من خلال بناء المستعمرات في المناطق المحظورة وتشجيع الهجرة السرية لليهود عن طريق البحر.

وفي مايو/آيار 1941، أقرت اللجنة العليا للهاجاناه إنشاء قوة يهودية سرية مستقلة تنقسم إلى تسع جماعات معبأة للعمل الدائم في كل مكان وكل وقت عرفت باسم «البالماخ».

في البداية كان تعاملها مع الجيش البريطاني في حدود التعاون الوقتي، وعندما انتهى ذلك التعاون ظلت البالماخ تنمو في العدد وتتحسن في مستوى التدريبات إلى أن جاء الوقت الذي تعرضت فيه إلى أزمة مالية هددت وجودها الفعلي، ولم يكن أمامهم سوى الاعتماد على أنفسهم، وبالفعل حُلت المشاكل المالية تمامًا وبدأوا في إدخال مستوى الكتيبة كوحدة تكتيكية.

«الحرب البناءة» بين اليهود والحكومة البريطانية

بدأت الهاجاناه في نضالها ضد الإنجليز عندما انتهجت الحكومة البريطانية سياسة معادية للصهيونية، وكان الهدف من ذلك «النضال» إجبار لندن إما على إعادة النظر في سياستها أو تسليم انتدابها على فلسطين للأمم المتحدة، واتبعت في سبيل ذلك استراتيجية «الحرب البناءة».

فبدأت بتدعيم الهجرة السرية من أجل إنقاذ بقايا المجتمعات اليهودية في أوروبا وزيادة عدد اليهود في فلسطين، وحشد التعاطف العالمي وكسب الرأي الإعلامي البريطاني نفسه من أجل الضغط على بريطانيا لانتهاج سياسة أفضل تجاهها أو استفزازها حتى تعطي اليهود مبررا لـ «النضال» والظهور في صورة المضطهدين.

ورغم أن الاشتباكات بين الطرف اليهودي والبريطاني لم تكن تستغرق وقتًا كبيرًا فإنه في مرحلة تالية اضطر الإنجليز إلى توسيع نطاق عملياتهم واعتقال زعماء قوميين، مما أدى إلى نفور الرأي العام العالمي من الموقف البريطاني. وفي 29 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1947، أقرت الأمم المتحدة تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية وإنهاء الانتداب البريطاني من فلسطين وحددت 15 مايو/آيار آخر موعد لجلاء الجيش البريطاني من أرض فلسطين.


«حرب التحرير 1948»

استهل يغال آلون الفصل الثاني من كتابه بالحديث عن التوترات المتزايدة التي شهدها عام 1947 بين العرب واليهود، خاصة بعد إعلان الأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين مستقلتين، إذ انطلقت المظاهرات العربية والعمليات الفدائية وباتت تجوب شوارع فلسطين على إثر ذلك القرار. وقد قسّم آلون حرب 1948 إلى أربع مراحل:

المرحلة الأولى

بدأت المرحلة الأولى من الحرب في نوفمبر/تشرين الثاني 1947 وانتهت في النصف الأول من مايو/آيار عام 1948، اتبعت الهاجاناه خلال تلك المرحلة استراتيجية قائمة على بناء المستعمرات في المناطق النائية وتجنب الاشتباكات مع الإنجليز، واستطاعت خلال هذه الفترة زيادة تشكيل المنظمة العسكرية نفسها، فقد دخلت البالماخ الحرب بأربع كتائب كاملة التعبئة، بالإضافة إلى إنشاء حرس وطني من الشباب والنساء تحت سن الثامنة عشرة والرجال المسنين كان دوره الدفاع السلبي عن الأحياء اليهودية.

المرحلة الثانية

كانت المرحلة الثانية من الحرب قصيرة جدًا وحاسمة أيضًا، إذ خلالها تم جلاء الإنجليز عن أرض فلسطين بصورة نهائية في 14 مايو/آيار 1948، ولم تتجاوز تلك المرحلة أيام قلائل، فكانت المواجهة حينها بين العرب واليهود في ظل غياب الإنجليز المادي. واستطاعت الهاجاناه مد سيطرتها على مناطق كانت تحت سيطرة القوات العربية في ذلك الوقت.

المرحلة الثالثة

بدأت تلك المرحلة من الحرب من 15 مايو/آيار إلى 10 يونيو/حزيران 1948، إذ تم الهجوم الذي لطالما هددت به الجيوش العربية، ورغم أن الجيوش العربية كانت الأقوى، في نظر يغال آلون، فإن اتباع الهاجاناه لأسلوب «الدفاع الإيجابي» كان له دور كبير في تغيير المعادلة.

فعلى الرغم من النجاح الذي حققته الجيوش العربية في البداية فإنها فقدت قوة اندفاع هجومها شيئًا فشيئًا، ولم يدخر الإسرائيليون في فترة وقف إطلاق النار الأولى جهدًا، إذ استغلوها في إعلان الهاجاناه أول جيش رسمي إسرائيلي، وأطلق عليه «زاحال»، وذلك من أجل رفع الروح المعنوية لليهود حينها.

المرحلة الرابعة والأخيرة

شهدت تلك المرحلة تحولا جذريًا في قدرات الجيش الإسرائيلي، كانت بدايتها في 18 يونيو/حزيران 1948، وخلال هذه المرحلة أخذ الجيش الإسرائيلي زمام المبادرة بمجرد انتهاء وقف إطلاق النار، وفي فترة وقف إطلاق النار الثانية من 19 يوليو/تموز إلى 10 أكتوبر/تشرين الأول، استغلوا تلك الفترة في إراحة قواتهم وتدعيم قدراتهم التنظيمية والحصول على معدات أقوى وأفضل.

وأثناء الحرب كانت إمكانيات الجيش الإسرائيلي أكبر رغم قلة عددهم مقارنة بالجيوش العربية، فقد تمتعت بالقدرة على المناورة واستخدام عنصر المفاجأة، ففي الفترة التي تلت الهدنة في 10 أكتوبر/تشرين الأول، تمكنت الهجمات العسكرية من تحقيق مكاسب إقليمية وإضعاف الجيوش العربية، وعلى إثرها استطاعوا إعادة منطقة الجليل لإسرائيل.

وفي عمليات منفصلة جرت في ديسمبر/كانون الأول عام 1948 نجحت القوات الإسرائيلية في السيطرة على قطاع غزة والنقب الجنوبي واستمرت حرب العصابات، حتى تمكنوا من تحطيم القبضة المصرية جنوبي بئر السبع ونجحوا في اجتياز حدود سيناء واحتلال أبو عجيلة ومناطق أخرى مهمة كالقسيمة والعريش وبير حسنة، حتى قامت الحكومة الإسرائيلية تحت ضغط سياسي أمريكي بوقف الهجوم وانسحاب جميع القوات من سيناء، ووقعت اتفاقية الهدنة في رودس يوم 24 فبراير/شباط 1949 تاركة قطاع غزة في أيدي المصريين.

وبخروج الجيش المصري من الحرب أصبح بإمكان الإسرائيليين تخصيص قوات أكبر لـ «التحرير النهائي لفلسطين»، وفي حركة بعيدة المدى استطاعوا الاستيلاء على النقب الجنوبي بأكمله، وسرعان ما وقعت الهدنة مع الدول المتبقية (لبنان وشرق الأردن وسوريا والعراق)، وخرجت إسرائيل من الحرب مسيطرة على مناطق أوسع وأقيّم من الناحية الاستراتيجية.

وخلص يغال آلون في نهاية الفصل الثاني إلى أن الجيش الإسرائيلي في صورته الحالية استمد أصوله من الجيش الذي خرج كقوة منتصرة في حرب التحرير، وأن ملامح الجيش الإسرائيلي عام 1949 ظلت على الدوام طابعا لقوات الدفاع الإسرائيلي وأن جيش إسرائيل مدين إلى الهاجاناه التي كانت ذات تراث حافل متعدد الجوانب، والتي لولاها لما كان النصر بهذه الصورة.

لعل الدرس المستفاد مما سبق أن كلمة السر وراء «تأسيس إسرائيل» وانتصارها في «حرب التحرير» هي أنه «لم يكن هناك خيار آخر». فكرة تُلخص لماذا قامت إسرائيل ولماذا هي بالشكل التي عليه اليوم، فاليهود حينها كان لديهم إحساس بأنها الفرصة الأخيرة التي إذا لم يوحدوا فيها الجهود ويستميتوا في الدفاع عن حلمهم فلن يكون لهم وجود، وفي سبيل ذلك اتبعوا كل الوسائل وانتهزوا جميع الفرص، حتى لو كان ذلك على حساب حليفهم الاستراتيجي في ذلك الوقت.