في فجر أحد مُمطر، 24 يناير/كانون الثاني من عام 1965، كان الصمت يخيم على شوارع أبو رمانة، حي المترفين من سكان دمشق، وفي إحدى البنايات الحجرية المقابلة لمبنى أركان الجيش، وعلى بعد مئات الياردات من قصر الضيافة، حطم الصمت موكبًا من السيارات المتقدمة، يظهر من داخل إحدى العربات هندام أنيق لرئيس المخابرات العسكرية العقيد «أحمد السويداني»، وبوصوله للمنزل رقم 8، سرعان ما قفزت من السيارات حامية من شعبة مقاومة التجسس لتقتحم البيت.

عندما اندفعت الحامية العسكرية إلى الطابق الرابع من المنزل، حيث كان يمكث رجل أربعيني أعزب، تفصله أيام من موعد تعيينه نائبًا لوزير الدفاع، كانت يده على زر الإرسال وبجواره مجموعة الشيفرات، اسمه «إيلي شاؤول كوهين»، أخطر عميل إسرائيلي، عرفته دمشق باسم «كامل أمين ثابت».

قصة هذا الجاسوس الإسرائيلي تناولها تفصيلاً كتاب «الجاسوسية الإسرائيلية وحرب الأيام الستة»، وهو من تأليف: «زفي الدوبي»، وهو جاسوس إسرائيلي سابق وشارك في فضيحة لافون، بجانب «جيرولد بالينغر» وهو سياسي إسرائيلي رُشح لمنصب نائب وزير الدفاع.

الكتاب الذي صدرت طبعته العربية عام 1972 يشرح كيف استطاع كوهين أن يتغلغل إلى مراكز السلطة والتوجيه في سوريا، واستطاع الحصول على جميع المعلومات التي كانت إسرائيل في حاجة إليها لتعجيل الظفر في حرب الخامس من يونيو/حزيران 1967، التي وقعت بعد عامين فقط من تنفيذ حكم الإعدام بكوهين.

وبعد توقيف كوهين، بعث السويداني رسالة إلى إسرائيل كاتبًا:

إلى ليفي أشكول: كامل وأصدقاؤه هم الآن ضيوفنا في دمشق، نحن بانتظاركم لإرسال أصدقائهم وسنحيطكم علمًا بمصيرهم في وقت قريب.

بين جنبات الحارة المصرية

«موظف هادئ وزوج مثالي ووالد مخلص صاحب مزاج هادئ»، هكذا وصف مقربون شخصية إيلي كوهين، وهم لا يعرفون أن وراء هدوئه الظاهري يخفي شخصية مغايرة، هذا الجاسوس الذي احتضنته حارة اليهود بالإسكندرية، حيث ولد في 16 ديسمبر/كانون الأول 1924 بعد سنتين من إلغاء الحماية عن مصر والاعتراف به بلدًا شبه مستقل، وهو ابن لحانوتي فقير من لبنان هاجر مع ألوف غيره من اليهود من ولاية حلب بسوريا إلى مصر.

في العشرينات من عمره، تحول كوهين من الدعة والاستقرار إلى حياة مليئة بالتوتر الذي لازمه حتى آخر لحظات حياته، ففي عام 1945 انتشر الذعر بين عائلات حارة اليهود في الإسكندرية على خلفية قتل عدد كبير من اليهود بعد إذاعة أخبار النزاع في فلسطين، وفي تلك الأثناء اشترك إيلي في لجنة الحرس لحماية الجالية اليهودية.

وعلى جانب بعيد عن الحارة، أعلنت الحكومة البريطانية في 14 مايو/آيار 1948 إنهاء انتدابها على أراضي فلسطين، وسارع ديفيد بن غوريون رئيس الوكالة اليهودية، ليتلو وثيقة الاستقلال معلنًا قيام «دولة إسرائيل»، فيما لم يكن الملك فاروق حاكم مصر ولا باقي الدول العربية يتصورن أن مستعمرة صغيرة من اليهود مسلحة تسليحًا رديئًا ستكون قادرة على الدفاع عن نفسها ضد جيوش قادمة من كل حدب وصوب، حينها لم يكن إيلي ومعه سكان الحارة يعرفون أن تلك الأحداث ستغير مجرى حياتهم.

وفي الساعة الخامسة من صبيحة يوم 15 من مايو/آيار 1948 شنت قوات تتألف من 25 ألف جندي تابع لقوات تحرير فلسطين يساندها مجموعة من القوات العربية، هجومًا على إسرائيل، لكن مُنيت الجيوش العربية بخسائر فادحة؛ تسببت في إيقاف السلطات المصرية عددًا من المشتبه بهم من اليهود يصل إلى 141 رجلاً و26 امرأة، منهم أقرباء في عائلة كوهين، ووصل القتل إلى 22 في هذا العام وخسائر بالملايين.

وبعد وصول الضباط الأحرار للسطلة، لم ينسوا هزيمتهم في فلسطين، وقرروا توجيه ضربات انتقامية إلى اليهود، كان إيلي بين الموقوفين الذين تحوم حولهم شبهة الاشتراك في نشاط صهيوني، وتم الإفراج عنه لاحقًا، وعقب وصول «دوايت أيزنهاور» إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة، تحول التوجه الأمريكي لصالح مصر في سياسة الشرق الأوسط؛ مما دفع اليهود في القاهرة لتكوين شبكة تجسس تقوم بأعمال تخريبية، عرفت بـ«فضيحة لافون»، حوكمت لاحقًا عام 1954 وصدر ضدها أحكام تتراوح ما بين الإعدام والسجن خمس عشرة سنة، بينما تم الإفراج مجددًا عن كوهين.

في تلك الفترة، أسهم إيلي في تهريب عدد كبير من اليهود فيما عُرف بعملية «غوشن»، وذلك عبر دفع رشاوى لموظفي الجوازات، قبل أن يخرج من الإسكندرية قسرًا صوب إيطاليا بجواز مرور خُتم عليه «غير صالح للعودة إلى مصر».


تحت قبضة الموساد: الرحلة إلى دمشق

مطلع عام 1960 تم ترشيح كوهين للعمل في الخارج من قبل مسئول كبير في الموساد، في البداية رفض عرض التجنيد لكن بعد تعرضه للتسريح من العمل غيّر رأيه، حيث تعلم في الموساد كيف يكتب على جهاز مورس، ودرس أساليب الشفرة باستخدام جهاز إرسال لاسلكي، وكيف يصنع متفجرات، وأعمال الطبوغرافيا، وأنواع الطائرات والدبابات والأسلحة.

ونتيجة الاضطرابات التي مرت بها والأنظمة المتعاقبة قصيرة العمر، خلقت هذه الأجواء للمخابرات الإسرائيلية جوًا جعل الحكومة السورية أكثر الأهداف اجتذابًا، فأصبحت دمشق نقطة الارتكاز لتجنيد كوهين، وسافر إيلي بعد أن أتم تدريباته العسكرية إلى الأرجنتين، والتحق بعضوية الجمعية الإسلامية كما اندمج مع التجار، وكان من ضمن قائمة المدعوين لحفلات الاستقبال التي يقيمها الدبلوماسيون العرب.

وفي إحدى جولاته، التقى كوهين بعد أن استخدم شخصية «كامل أمين ثابت» بأمين الحافظ الملحق العسكري في الجمهورية العربية المتحدة، ولم يكن يعلم أن الرجل الذي يجلس أمامه الآن في مكتبه في السفارة السورية في بوينس أيريس، سيكون له الدور الأكبر في تغيير مستقبل سوريا والشرق الأوسط.

وفي سوريا، أنشأ «شركة أمين ثابت للاستيراد والتصدير»، وسارع بالتعرف على شخصيات مهمة تمده بالمعلومات، كان منها «معزي زهر الدين» ابن شقيق قيادي بارز في الجيش وهو «عبدالكريم زهر الدين»، وتعاون مع «ماجد شيخ الأرض» هو سوري ثري، و«جورج سيف» موظف بوزارة الإعلام.


رصاصة الموساد تخترق قلب دمشق

أسهم إيلي كوهين في توصيل معلومات لتل أبيب، حققت نصرًا كبيرًا لإسرائيل، ففي الثامن من مارس/آذار 1962، ضربت وحدات سورية قوارب إسرائيلية في بحيرة طبريا، وكان كوهين أول من زود الجانب الإسرائيلي بأنباء تفيد بأن الهجمات على الحدود محتملة وذلك بعد ملاحظته لحركة دائمة للمعدات العسكرية يجرى نقلها على طريق دمشق-القنيطرة في اتجاه مرتفعات الجولان، مما دفع بتل أبيب لزيادة الاستعدادات، وقصفت القوات الإسرائيلية مواقع السوريين في «عين غيف».

كما سجلت إذاعة تل أبيب نصرًا إعلاميًا على العرب بإذاعة أدق تفاصيل انقلاب المعتدلين في الجيش الذين ربحوا المعركة على الناصريين، بعد إفادات عميلها في سوريا، ومنذ ذلك الوقت سطع نجم حزب البعث العربي، وقرر إيلي الانضمام إليه، ولم تمض أسابيع قليلة حتى دخل الحزب، بل سرعان ما رُقي إلى مرتبة القيادة القطرية وعضو في لجنة الدفاع.

يؤكد الكتاب أن انقلاب 8 مارس/آذار، يمثل نقطة تحول في مهمة إيلي كعميل، حيث أسفر عن تشكيل حكومة برئاسة صلاح البيطار الرجل الثاني في حزب البعث، واختيار أمين الحافظ وزير الداخلية، وأسندت رئاسة الأركان إلى زياد الحريري، فاستقرت بذلك علاقته مع قيادة الحزب، وحصل إيلي خلالها على معلومات ثمينة من أعمال المجلس الوطني لقيادة الثورة، ولما فشلت وحدة سوريا مع مصر برئاسة جمال عبدالناصر الذي رفض قيام دولة كونفدرالية مع سيادة الدولة السورية، قام البعث بالحد من صلاحيات «الحريري» لكونه أبدى تعاطفًا مع الناصريين، وعُيّن بدلًا منه «الحافظ» والذي تربطه صداقة مع إيلي منذ أن كانا في بوينس أيريس.

ولمع نجم إيلي في الحزب حتى أصبح ضيفًا دائمًا في بيت الحافظ، واستعان الأخير بكوهين لإرجاع «البيطار» إلى رئاسة الوزراء للحد من التوترات التي حامت حول حكومته، وكان انشقاقًا حدث في وقت سابق، بين المعتدلين من جماعة «البيطار» مع التقدميين العسكريين من جماعة «حافظ»، وأُبعد على إثرها البيطار مع جميع اليمينيين عن مراكزهم، وفي عام 1964 استعانت السلطات بكوهين لتهدئة غضب التجار في حماة جراء انتهاج الحكومة نهجًا اشتراكيًا.

وكانت المراكز الأمامية على طول الحدود الجنوبية مع إسرائيل محرمةً على المدنيين دخولها، لكن عام 1963 استطاع كوهين بمعاونة «سليم حاطوم» رئيس الحرس في الأركان العامة، القيام برحلات تفقدية إلى خطوط القتال بما له من نفوذ في الحزب، ووصلوا إلى حدود القنيطرة وحصل على امتياز يُمنح للزوار من الرتب العالية، ليشرع في القيام برحلات إلى القواعد العسكرية، وحصل على إذن بتفقد التحصينات وتصويرها، كما تلقى آخر التعليمات عن الخطط الدفاعية.

وصل نفوذ كوهين إلى حد أن يترك منزله الخاص، لكبار الشخصيات العسكرية والحزبية يستخدمونه لشئون خاصة، وعقدوا به اجتماعات كانت تُنقل لتل أبيب عبر أجهزة التنصت، كما استعان إيلي بالفتيات اللاتي أسرهنّ بجاذبيته ونفوذه؛ لذا أقدمنّ على إمداده بنسخ من الرسائل التي كتبها رؤساؤهنّ، وتعزّز نفوذه أكثر حال قيامه بمهمة خاصة لحزب البعث في أمريكا الجنوبية، حيث عمل على فتح إذاعة لدمشق هناك تبث برنامجًا يوميًا.


على مشنقة المرجة: نهاية ساحر الجواسيس

تعلن المحكمة أن المتهم إيلي شاؤول كوهين من تل أبيب، مُدان بارتكاب جريمة التجسس؛ ولذلك حكمت المحكمة عليه بالموت شنقاً.

بصوت هادئ متعمد التوقف قليلًا بين قراءة السطور، تلا العقيد «صلاح الضللي»، رئيس المحكمة العسكرية الخاصة هذا الحكم، الذي وُقّع بتاريخ الأول من مايو/آيار 1965، مُسدلًا الستار عن «ساحر الجواسيس» كما وصفته عدة صحف، لكن كيف تم إلقاء القبض عليه، علامة استفهام يجيب عنها الكتاب.

في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1964 وقع حادث «تل دان»، ونجحت عملية الردع الجوية لسلاح الطيران الإسرائيلي في توجيه ضربات دقيقة وغارات ناجحة، جعل المكتب الثاني يكثف نشاطه للكشف عن المتسبب في تسريب معلومات عسكرية بهذه الدرجة من الأهمية، وفي أوائل 1965 استطاعت محطة اقتفاء الآثار الصوتية بالقرب من دمشق أن تلتقط إشارات غير مُرخصة، وبمساعدة الاتحاد السوفيتي، الذي زوّد السلطات السورية بجهاز جديد لالتقاط الإشارات شديد الحساسية، تم الكشف عن العميل كامل أمين ثابت.

وألحق كتاب «الجاسوسية الإسرائيلية» رواية أخرى، تشير إلى أن الموظفين في وزارة الداخلية بالقاهرة يقولون إن آثار ثابت اُلتقطت عام 1964، حين تعرف أحد ضباط الأمن على وجه مألوف، وبعد التحريات تبين أن العضو الرسمي في الحزب كان من سكان الإسكندرية وأوقف ثلاث مرات بتهمة القيام بأعمال تخريبية.

وعلى الصعيد الإسرائيلي، عملت تل أبيب على سبر كامل للمجتمع الدولي، على المستويين الرسمي والشعبي، فتم الاتصال بنيافة الكاردينال سيكونيا رئيس حكومة الفاتيكان للتدخل، وبهيئة الأمم المتحدة وسفراء الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وحصل الإسرائيليون على مساندة رجال الأعمال الفرنسيين والقوى الاشتراكية وقادة الكاثوليك بأوروبا، أما غولدا مائير وزيرة الخارجية الإسرائيلية، أرسلت لكافة البعثات الدبلوماسية ثلاث كلمات قاطعة: «أنقذوا إيلي كوهين».

90 ثانية فقط استغرقت عملية الإعدام في ساحة المرجة بقلب دمشق، كانت كفيلة بتغييب كوهين، بعد أن أفنى حياة امتدت أربعة عقود في أعمال الجاسوسية الإسرائيلية انتهت على حبال المشنقة، تاركةً بلدًا يتخبط تحت وطأة الانقلابات، ليتعاقب من ألقوا به إلى هذا المصير، على ذات المنصة التي حوكم عليها، ويُودعوا غياهب السجون؛ مما دفع القاهرة لشن حملة على البعثيين، حيث قال مذيع صوت العرب:

وماذا بقى في سوريا من أسرار لم تنكشف بعد أن افتضح كل شيء عن طريق إيلي كوهين.