هذه هي السادسة من سلسلة رسائل يكتبها ياسين الحاج صالح لزوجته سميرة الخليل، المخطوفة في دوما منذ مساء يوم 9/12/2013، يحاول فيها أن يشرح لها ما جرى في غيابها. نُشرت لأول مرة في «الجمهورية».


شو عملت بغيابك، سمور؟ مثلما في كل شأن آخر، لا أستطيع أن أروي لك أشياء كثيرة، أتركها إلى أن تعودي.

الجديد، غير عمل الكتابة الذي تعرفين وتتوقعين، هو أنه أمكن لي السفر إلى عدد من البلدان الأوروبية. لا أزال بدون جواز سفر يا سمور، ويلزم لكل سفرة مراسلات بين الجهة الداعية وقنصلية البلد ودائرة الهجرة التركية. شيء يعلّ. قضايا السفر بين البلدان صارت شأنًا سياسيًا، وبالأحرى سياديًا، محاطًا بالخطورة والأمن، وبخاصة بالنسبة للسوريين. والقنصليات التي تضطرين لزيارتها من أجل وثيقة السفر تذكر بأفرع الأمن الأسدية. وضعنا في العالم، يا سمور، هو استمرار لوضعنا في «سوريا الأسد».

أظلُّ مع ذلك من قلةٍ محظوظةٍ من السوريين، ممن يمكن لهم السفر بين وقت وآخر، والعودة إلى مستقر. سافرت إلى بلدان أوروبية، وليس إلى أي بلد عربي أو بلدان أخرى إلى اليوم. كنت مدعوًا إلى بلد عربي قبل عام تقريبًا، لكن مخابرات البلد التي وعدت صديقًا حاولَ التوسط في أمر السفرة قالت إنها ترحب بي، لكنها تحب أن تراني حين أزور البلد! دُعيتُ إلى جامعة في بلد عربي آخر، لكن الجماعة كانوا يتوقعون أن أذلل أنا مشكلات عدم امتلاكي لجواز سفر!

السفرات كلها كانت للمشاركة في أنشطة ثقافية وفكرية متصلة بالقضية السورية. وهي اليوم إحدى المسائل العالمية الكبرى أو أكبرها. مسألة تتحدى قواعد التفكير والسياسة والنظام الدولي القائمة، وينظر إلينا نحن المتكلمين عنها بمزيج من التقدير والعداوة والحيرة.

في الوقت نفسه، في بلدنا أكثر من غيره من بلدان العالم اليوم ترين التاريخ عيانًا، ترين الدولة في وحشيتها وتفاهتها ولزومها، وترين الدين في جنونه ودنيويته، وترين العالم في ضيقه واتساعه وفساده. وترين انقلاب الأفراد والمجموعات على أنفسهم وعلى بعضهم. وترين موكبًا من أقنعة من كل نوع: العبودية وعلى وجهها قناع التحرر، والكراهية وعلى وجهها قناع الحب، والطائفية وعلى وجهها حجاب الوطن، والقتل مسميًا نفسه الرحمة، والكذب متكلمًا بلسان الصدق، والأنانية منتحلة شخصية الغيرية والتضحية، والسفاهة وهي تزعم لنفسها الإنصاف. يكاد كل ما ترين وتسمعين يكون عكس ما يدعي. لولا أن القلب مثقل بغيابك لكان التأمل في هذا العالم ينقلب ويتقلب مصدر متعة فكرية، ولكان حظًا خاصًا، رغم الكارثة العامة، العيش في زمن تاريخي كهذا. أظن أن الصراعات الكبرى تحرض التفكير في التاريخ والمصائر البشرية، ونحن في وضع كهذا اليوم يا سمور. ليتك بقربي.

والجديد في الكتابة أني أكتب عنكم أنتم الأربعة، عن رزان، وعنك أنت خاصة. الكتابة عنك ليست مجرد موضوع جديد في شغلي يا سمور، هي ما تعطي روحًا كل شغلي الآخر. أنت لست قضيتي يا سمور، أنت هويتي. والكتابة عنك علاج لنفسي كذلك، يا سمور.

عندي، مثل كتير من اللاجئين السوريين، «عقدة الناجي»، الشعور بالذنب الذي يتملّك من نجا من محنة لم ينج منها غيره. في موقع الجمهورية (تذكرينه طبعًا، لا يزال يعمل، وأكتب فيه أساسًا) عبّر كاتب شاب عن هذه العقدة التي يُحتمل أنه لم يسبق أن سمع بها بعبارة مكثفة وجميلة جدًا:الإصابة بالسلامة! «الإصابة بالسلامة» مضاعفة في حالتي. إذ إني سلمتُ هذه المرة بينما لم يسلم كثيرون، عددهم لا يزال في تزايد؛ ولكن خصوصًا لأنك أنت لم تكوني بين الناجين. وهو ما أتحمل مسئوليته وحدي، وما هدّني أكثر من أي شيء آخر يا سمور. هو أيضًا ما عملتُ على مقاومته بالشغل، وما كان الأصدقاء، ولدى كل منهم عقدة الناجي بدرجة ما، عونًا عظيمًا فيه. وحتى أصدقاؤنا الأتراك لديهم درجة من هذا الشعور حفزتهم على التضامن ومشاركتنا أنشطة متنوعة، ثقافية واحتجاجية. وكان عونهم عظيمًا طوال الوقت.

ما حاولت مقاومته خلال ما يقترب من أربع سنوات، يا سمور، هو الاستسلام لهذه الإصابة بالسلامة. أظن أن لها أثرين مخربين على الأقل. الأول أنها قد تدفع الناجي إلى وقف الزمن عند وقت «نجاته»، أي خروجه من البلد في حالتنا، وتاليًا عدم تبين تغير الأوضاع وشروط الصراع وضرورة إصلاح الأدوات كي نستطيع الاستمرار في كفاحنا والحفاظ على موقع تحرري فيه. أظن أني أعرف أمثلة لناجين من جولة صراعنا الأقدم لا يكفون عن خوض حرب سابقة لم يخوضوها وقت كان يجب خوضها، ولكن بعد أن تغير كل شيء، فلا يكون لخوضهم لها المعنى ذاته، ولا يكون لهم الموقع التحرري ذاته. يعطون انطباعًا بالقدم والأثرية، مصير أرجو أن أستطيع تجنبه يا سمور.

الأثر الثاني لعقدة الناجي هو توقف القدرة على القتال في الشروط الجديدة للجوء، واستهلاك الطاقة في التشكي والتذمر، أو في لوم النفس والغير. أحاول أن أقاوم الشعور بالذنب المتولد عن الإصابة بالسلامة كي أستطيع أن أستمر في القتال يا سمور. أظن أن أكثر ما يدمر القدرة على القتال هو الوقوع في أسر الشعور بالذنب، الذي هو الحالة النفسية الأقل ملاءمة كي نستطيع أن نكون عونًا لمن لم يصابوا بما أصبنا به من سلامة، أو من حالهم أسوأ من حالنا. ليس الأمر سهلًا، أعرف ذلك بالتجربة يا سمور، هو أقرب إلى اشتباك دائم، يتجدد كل يوم، ولا نكسب المعركة فيه أبدًا، لكن يمكن أن نستمر في خوضها.

وربما يساعد على التوجه في هذا الوضع الذي لا يطاق يا سمور أني كنت يومًا في وضع غير الناجي، أقصد في السجن، بينما كان رفاقٌ وأصدقاءٌ لي مصابين بالسلامة. وقتها أنت أيضًا كنت في وضع مماثل، ولا ريب أن أصدقاءً لك ورفاقًا تملكهم شعور مماثل. ماذا كنا نأمل ممن نجوا وقت كنا مع معظم رفاقنا في السجن؟ هل كنا نريد أن يستمروا في القتال الذي أُخرجنا نحن منه؟ ليس في كل حال، فقط بقدر مستطاعهم وبحسب تقديرهم للظروف. هل كنا نريد أن يستسلموا للشعور بالذنب ولوم أنفسهم على إصابتهم بالسلامة، فلا يتحررون منها إلا بأن يُسجنوا معنا؟ أبدًا. أعتقد أن ما كنا نأمله منهم أن يصونوا أنفسهم، ويصونوا في أنفسهم وفي سلوكهم قضيتنا. في سجون حافظ الأسد كنا نأمل من أصدقائنا أن يصونوا كرامتهم، وكرامتنا.

وهذا ما أحاول القيام به يا سمور. ليس صون كرامتك فقط، وليس فقط صون كرامة قضيتنا، وكرامتي الشخصية، ولكن أيضًا الاستمرار في القتال بأدوات ربما تختلف قليلًا عما قبل، لكنها تختلف كي نستطيع حماية قضيتنا بصورة أفضل.

ليس في هذا ما يرضي في وضع مثل وضعنا، أنت وأنا، يا سمور: أنت مغيبة داخل حدود ضيقة مظلمة، وأنا مرمي بعيدًا خارج الحدود. ولست أكتفي به. بينما أعمل على المساهمة في بناء أدوات أكفأ وموقع أنسب لاستمرارنا في القتال بعد أن خسرنا جولة الثورة، أحاول فعل شيء يتصل بقضيتك مباشرة طوال الوقت. لم يتحقق اختراق إلى اليوم يا سمور، لكني مستمر في طرق الباب، وآمل أن يمكن حتى كسره في يوم قريب لتحريرك، وتحرير رزان ووائل وناظم.

وقبل هذا كله وبعده، مستمر في القتال لأنك تحتاجين إليَّ، وأحتاج إلى نفسي، قويًا وقت عودتك.

بانتظارك، وفقط ديري بالك على حالك، أرجوكِ.

بوسات يا قلبي

ياسين