ليس كل الكتّاب سواء، ولا كل القضايا والمواضيع واحدة، والكاتب المحترف وحده القادر على أن يصوغ روايته بطريقةٍ جديدةٍ كل مرة. وإذا كنّا نتحدث عن الشأن الفلسطيني مثلاً، وتناول الأحداث الفلسطينية المعروفة والمعتادة والتي سبق للكثيرين أن يتناولوها ويتحدثوا عنها باستفاضةٍ وتشعب، كما ذكرنا في مقال سابق عن رواية «وارث الشواهد»، فإن الروائي الفلسطيني الكبير «إبراهيم نصر الله» هو أحد أهم الروائيين الذين رسخوا وكتبوا وأفاضوا في شأن القضية الفلسطينية، برواياته ذائعة الصيت شديدة الجمال، التي خاضت في كل مناحي وجوانب فلسطين، تاريخيًا وواقعيًا واجتماعيًا ونفسيًا.

بل إن له في ذلك سلسلة هي من أجمل ما كتب في الأدب الفلسطيني سماها «الملهاة الفلسطينية» تضم وحدها ثماني روايات. ثم سلسلة أخرى هي «الشرفات» ضمّت رؤى مختلفة عن الواقع الفلسطيني والعربي بشكلٍ عام ضمت خمس روايات، والرواية التي بين أيدينا هي السادسة.

وربما لكل ما تقدّم أيضًا لم تأت رواية «حرب الكلب الثانية» رواية تقليدية أو مألوفة، لا في موضوعها، ولا طريقة بنائها، بل ولا حتى في عالمها، حيث ينتقل بنا «إبراهيم نصر الله» في تجربةٍ مختلفةٍ تمامًا عمّا سبق إلى المستقبل، في نصٍ يحمل سمات الرواية «الديستوبيّة» حيث ذلك العالم حالك السواد الذي يحيط بالناس، وحيث يصوّر كيف سيعيش الناس حياتهم وكيف يتعاملون في هذا الإطار المختلف كليةً عمّا نحن فيه الآن.

على هذا النحو تبدأ رواية «حرب الكلب الثانية» بنفي الماضي أصلاً، والإعلان على أن الشعوب أصبحت تدار الآن «في هذا المستقبل» من خلال القلاع، وأنه تم محو كل ما يتعلّق بالماضي لأنهم رأوا أنه لا فائدة منه، وهكذا تمت إعادة برمجة الشعوب على أوضاعٍ جديدة مختلفة كليًا عمّا ألفناه وعرفناه، وفقًا لأحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا من وسائل للقمع وفرض السيطرة.

باع رجلٌ كلبه لرجلٍ آخر بعد أن اتفقا على مبلغ دفع الشاري نصفه، وأبقى النصف الآخر لنهاية الشهر، كما جرت العادة في تلك الأيام، لم يدفع الشاري النصف المتبقي في موعده، فذهب صاحب الكلب وذكَره بالأمر، فوعده أن يدفع نهاية الشهر التالي. لكن ما أغاظ البائع كثيرًا أن كلبه نبح بشدة عليه، وكان على وشك أن يهاجمه! فرأى في ذلك انحيازًا فجًا ليس من صفات الكلاب في شيء… في نهاية الشهر الثاني، ذهب البائع فخرجت امرأة الشاري، التي عملت كثيرًا على كبح جماح الكلب النابح بأن حجزته بإغلاق الباب خلفها، وقالت له إن زوجي في بيت عزاء، وكانت تلك البيوت منتشرة في تلك الأيام فقد كان الناس يموتون فرادى، ولم يكن الموت الجماعي أمرًا معروفًا سوى في مذبحةٍ هنا أو هناك… غضب البائع وأدرك أنه لن يستطيع الحصول على النصف الآخر.. استدار البائع مبتعدًا وقبل أن يخطو ست خطوات سقطت كتلة ملتهبة من السماء بين كتفيه وراحت تنهشه، استطاع الكلب القفز من الأسوار، مات البائع. ..حمل أهل القتيل قتيلهم وذهبوا بأسلحتهم إلى دار العزاء، وهناك نادى أحدهم الشاري، خرج، فقتلوه، وحين ثار أقاربه أطلقوا النار صوبهم، فاشتعلت المعركة، وتعارك البقيّة فاتسعت!

هكذا وبطريقة هزلية وبمواقف عابرة كانت «حرب الكلب الأولى»، وهكذا تندلع الحروب بين الناس دومًا ويموت فيها خلق كثير. وإن كانت تلك قصة خيالية مختلقة إلا أنها تستند في الواقع لعدد من الحوادث العربية والعالمية الأكثر هزلية التي تسببت في إشعال ثورات وحروب بين الناس على مدار التاريخ!

من جانب آخر تخوض الرواية في عددٍ من أفكار «الخيال العلمي» التي تصلح كلِ فكرة واحدةٍ منهم لروايةٍ مستقلةٍ بذاتها، إذ نجد في الرواية فكرة «الاستنساخ» من خلال صورة يضعها البطل لزوجته تمكنه من استنساخها في جسم السكرتيرة، بل واستنساخه هو أيضًا لزوجته وظهور «الأشباه» بوفرٍة بعد ذلك وعدد من المفارقات الدرامية والكابوسية التي تحدث بسبب ذلك.

كما نجد فكرة الأفلام التي تحوّلت إلى «رباعية الأبعاد» فأصبح الناس يشاهدون أبطال الفيلم وربما يقومون بعلاقات معهم لأنهم يتخيلون أنهم أمامهم وبإمكانهم أن يضربوهم لو أرادوا مثلاً، هذا بالإضافة إلى الأفكار المتعلقة بالسيطرة والهيمنة على الشعب من خلال فرض شيء واحد على الجميع وعدم وجود أكثر من فكرة ولا اختلاف بين الأشياء العادية «حتى الفواكه والطيور والحيوانات» في تصويرٍ كابوسيٍ للمستقبل وما قد ينتجه توحش الإنسان واستخدامه للتكنولوجيا والعلم في سبيل فرض سيطرته وهيمنته على كل شيء!

عن الرواية يقول إبراهيم نصر الله في تصريحٍ خاص له لــ جريدة الغد الأردنية:

تكمن سعادتي في أنها من الروايات المختلفة داخل تجربتي، فهي الأولى التي أذهب فيها، لتأمل المستقبل في ضوء السنوات السوداء الماضية التي عاشها العالم العربي، ولم يزل يعيشها، وكثير من دول العالم، وفي ضوء ما عاناه الإنسان من إطلاق وحش التطرف والقتل الأعمى .. منذ البداية أدرك أن التعبير عن واقع متشابك جنوني، لا يمكن أن يكون بطريقة تقليدية. ولذا كان لا بد من أن يجتمع في الرواية الخيال العلمي، مع العجائبية والفنتازيا، والواقعية الشرسة، كما أشارت لجنة تحكيم الجائزة المحترمة في بيانها. […] لذا كانت فرصة غير عادية لاكتشاف ذاتي أكثر، وهذا ما لمسته مع قرائها فيما بعد.

تمضي بنا الرواية عبر مساراتها المختلفة، وحكاياتها المتشعبة حتى تقودنا إلى قصة «راشد» ومن حوله بشكل خاص الذي يتم تدجينه وتحويله من مناضل ومعارض قوي ليغدو بعد فترة من ثقة الجهات الأمنية فيه إلى ذراعٍ قوية للضباط ورجال الأمن، بل يبدو أكثر توحشًا منهم، حتى أنه يبالغ في الأفكار والخطط التي يقترحها لفرض القوة والسيطرة على الناس بإنشاء سجون كبرى يعيش الناس فيها كما يعيش المرضى في المستشفيات! ومن المفارقات أنه يسمي مشروعه ذاك «أسرى الأمل» .. إلى غير ذلك من الأفكار، حتى نصل إلى «حرب الكلب الثانية».

هكذا تناقش الرواية، ومن خلال الاستغراق في الحكايات والمواقف والتفاصيل الخاصة بشخصياتها وأبطالها، مآل الإنسانية في ظل سيطرة أنظمة القمع الغاشمة في كل البلاد، وهي إن كانت قد تحررّت من فكرة الدولة، فلم يبد للقارئ أنها تتحدث عن نظام أو دولة بعينها، إلا أنها تبقى مؤطرة داخل العالم العربي بشكل خاص، وما يدور فيه وفي عقلية الحاكمين والمحكومين فيه من طرقٍ للسيطرة واستعداد دائم للاستعباد!

كما تشير من جهةِ أخرى غير بعيدة إلى جوانب مظلمة سوداوية قد يغفل عنها الناس لا سيما في التوسع في استخدام هذه التكنولوجيا، وكيف يبدو الأمر في النهاية أنه ابتعاد الإنسان عن «إنسانيته» في الأصل والأساس، هو الذي يؤدي به إلى كل تلك الصراعات والحروب بدايةً وإلى الدمار الشامل الذي لا شك سيلحق به لو سار على هذه الوتيرة في النهاية.

اقرأ أيضًا: حذاء فيلليني: التحايل على القمع بالألاعيب السردية

استطاع «إبراهيم نصر الله» أن ينقل القارئ عبر فصول رواياته القصيرة، وعبر استخدامه لتقنيات السرد المتصل المنفصل إلى تفاصيل الرواية، كما جاءت الفصول القصيرة المعنونة بعناوين فرعية دافعة للقارئ لكي يتابع التعرّف على أحداث الرواية، أضف إلى ذلك اعتماده في الرواية على الحوار المطوّل بين أبطال الرواية، والذي كان حوارًا ذكيًا وكاشفًا عن نفسيات أصحابه إلى حدٍ بعيد مما أضاف حيويّة للرواية وجعل القارئ شغوفًا بمتابعتها والتعرّف على ما تخبئه كل شخصية من أسرار.

تجدر الإشارة في النهاية إلى أن رواية «حرب الكلب الثانية» وصلت إلى القائمة القصيرة لبوكر هذا العام، بعد أن رشّحت روايتيه «قناديل ملك الجليل»، و«شرفة الهاوية» من قبل في القائمة الطويلة للأعوام 2014،2013 على التوالي.

ومن المتوقع جدًا أن تحوز على جائزة البوكر هذه المرّة ليس فقط لاستحقاق الروائي الكبير «إبراهيم نصر الله» لهذه الجائزة وغيرها، بل لأن الرواية فعلاً تمثّل عملاً أدبيًا فريدًا شديد الجمال والإتقان على ما فيه من سوداوية واستشراف للمستقبل، ولأنه من جهةٍ أخرى لا يضاهيها ولا يقاربها أي من روايات القائمة القصيرة، مع تقديرنا وإعجابنا بعدد منها، لا سيما رواية «زهور تأكلها النار» لأمير تاج السر، و«وارث الشواهد» لوليد الشرفا، وأيضا الحالة «الحرجة للمدعو ك» لعزيز محمد.