بين ليلة وضحاها تحمل طفلك من البيت إلى مكان أكبر من استيعابه، المدرسة. هل تلتفت حين تمر على التساؤلات اليومية للمجموعات الإلكترونية عن السن الأنسب لدخول أطفالهم المدرسة؟ ساحة كبيرة للنقاشات التي تستند إلى تجارب علمية حول السن المناسبة لتعلم القراءة والكتابة، الكثير من المقالات المترجمة والعربية التي تتناول إشكالية دخول المدرسة في سن مبكرة وأسفل تلك المقالات تعبيرات مثل «هيا بنا نلعب»، «هيا بنا نتواصل»، «الطفولة أكبر من ورقة وقلم» وكأنها إشارة تحمل مفارقة حول التوجه الذي يرفضه الآن معظم خبراء التربية في العالم: “التعليم الأكاديمي المُبكر للطفل”.


هل طفلك جاهز لتعلم القراءة أو الكتابة؟

التعليم مبكرًا هو الفكرة التي طرحها وأجاد التعبير عنها «جيلين دومان GELENN DOMAN» وعرفت باسمه، وتعتمد على تعلم الطفل منذ شهوره الأولى، وبعد سنوات من تطبيقها انتُقدت تلك الفكرة وكتبت الكثير من المقالات عنها مثل مقالة «فيكى غليموكى Vickie Glembocki» في عدد 2009 من مجلة الآباء بعنوان «جاهز للقراءة؟» قدم خلالها الكاتب في مساحة بسيطة نسبيًا، التحيز والارتباك ونقص المعرفة التي تحيط بقضية تعليم الأطفال القراءة في سن مبكرة.

وأشار إلى قول «ليليان كانز» أن تعلم الأطفال القراءة في وقت مبكر جدًا يجعل من الصعوبة تطوير حب القراءة فيما بعد لديه، كما يرى ديفيد الكايند في كتابه «الطفل المستعجل.. النمو السريع والمبكر» أن الآباء للأسف ما زالوا يخضعون لضغوط أكثر من أي وقت مضى لحشر أوقات أطفالهم في برامج رياضية منتظمة ونشاطات أخرى قد تكون غير ملائمة لأعمارهم.

في مجلة «علم النفس اليوم PSYCHOLOGY TODAY» كتب أيضًا ديفيد الكايند David Alicand في مقال بعنوان: «ما عليك أن تعرفه» أن الكتب الأكثر ذكاء تشير إلى أن دفع الطفل لتعلم الكلمات والأرقام والألوان والأشكال في وقت مبكر جدًا، يجبر الطفل على استخدام عمليات التفكير الأقل في المستوى المطلوب بدلًا من تطويرها، وشبَّهها بخدعة المهر في السيرك فالحيل التي يتعلمها لا تكن في صالحه دومًا، وأضاف أن الضغط على الطفل لتعلم المعلومات يرسل رسالة مفادها أنه يحتاج إلى أداء للحصول على قبول الوالدين بدلا من التركيز في بناء مهاراته العاطفية التي يعدها أهم في تلك الفترة.


جريمة

كيف هو حال الدول التي تعتلي مكانًا مرموقًا في العالم في التعليم وكيف تفعل ذلك؟

تشير البيانات إلى أن تلك الدول ومنها سنغافورة وفنلندا وهونج كونج وسويسرا وألمانيا يبدأ الطفل مرحلة التعليم الإلزامي بالمدرسة في عمر يتوسط السادسة والسابعة، وعلى الرغم من أن تحسين نظم التعليم هو ظاهرة عالمية، فالعالم لم يتطرق بعد لفكرة تأخير سن دخول المدرسة.

يُذكر أن جميع الأطفال الفنلنديين يبدأ تعليمهم الأساسي في سن السابعة، وتدوم المدرسة الابتدائية لمدة ست سنوات، وهي المدرسة التي تُعرَّف في موسوعات خبراء التعليم بفنلندا: «مسألة فلسفية وممارسة تربوية»، كما يستقبل النظام الفرنسي المرحلة الابتدائية في عمر ست سنوات ويعد ضمن قانون فرنسا لحقوق الطفل ألا يبدأ تعليمه قبل هذه السن وما غير ذلك يعد جريمة.


مقاس واحد للجميع

الكثير من التساؤلات تطرحها الفكرة منها هل الدراسة هي اقتطاع من حق الطفل في اكتشاف محيطه وبيئته الفطرية؟ هل إعطاء المهام المرتبطة بالتعليم في سن مبكرة تؤثر بالسلب عليه وعلى حماسه للعملية التعليمية وإبداعه ونشاطه وتفاعله الإيجابى؟

يجيب د. سعيد المصري رئيس قسم علم الاجتماع بجامعة القاهرة وأستاذ الأنثربولوجي فيقول:

حيث توجد فكرة الاحتجاز الجسدي لفترة من الوقت وروتين التواجد مرورًا بالطابور والفصل المدرسي والتوقيتات داخل المنشأة فيرى ذلك مؤثرًا على وعي الطفل وحريته. أما عن السن المناسبة فيرى «المصري» أنه يحتاج إلى دراسة أكبر وفقًا للمجتمعات واختلافاتها ولا يمكنه التحديد بدقة عن أيهما أنسب، بدء الدراسة في السادسة أم السابعة؟، وقال: «التعلم أهم من التعليم في حياة البشر» فالتعلم وفقًا لتعريفه قائم على جهد ذاتي مرتبط باللعب وتكوين مهارات في نطاق من الحرية والبراح، ورفض أيضًا فكرة «مقاس واحد للجميع» فيما يخص التعليم وفقًا لاختلاف المهارات بين الأطفال وهو مايحتاج إلى «تعليم مرن».


كثير جدًا باكر جدًا

مقال نشر لديفيد وايتبيرد الخبير الإنجليزي في كلية التربية ردًا على حملة «كثير جدًا باكر جدًا» في 2015 والتي دعا لها البعض لتغيير سن التعليم الرسمي في المدارس، وكان أحد الموقعين صاحب المقال قال إن الحكومة البريطانية عليها أن تأخذ بتوصيات الحملة على محمل الجد، وعدد عددًا من الأدلة المؤكدة لنجاح فكرة تأخر سن المدرسة.

يذكر أن الأطفال في إنجلترا تبدأ سن التعليم في الرابعة كما هو الحال في كثير من الدول ومنها دول عربية، ولكن الرسالة التي وقعها 130 خبيرا في التعليم بإنجلترا، جاءت بتوصية نشرت في «ديلي تلجراف”» 11 سبتمبر 2013 أوصت ببدء التعليم في سن السابعة، تمشيًا مع الدول الأوروبية التي لديها مستويات أفضل في التحصيل الدراسي ورفاهية الطفل، وفقًا لها تم الإعلان عن الحملة السابق ذكرها.

الأدلة التي ساقها «ديفيد» في مقاله كانت عددًا من الدراسات الأنثروبولوجية والنفسية والعصبية والتعليمية ودراسات علم النفس التطوري، وهو ماعرفته فرنسا مبكرًا منذ 11 عامًا وحظرت تعليم الرضع المعروف بـ«جيلين دومان».، وفي إطار الأبحاث التعليمية، أشار مقال ديفيد لعدد من الدراسات الطولية حول مدى تقدم النتائج الأكاديمية والحافز والسلامة النفسية لدى الأطفال الذين انخرطوا في برامج ما قبل المدرسة بشكل قائم على اللعب الذي يقوده الطفل، وقد أوضحت دراسة واحدة بعينها أجريت على ثلاثة آلاف طفل في مختلف أنحاء إنجلترا، بتمويل من إدراة التعليم نفسها، وأكدت النتائج أن الأطفال الذين قضوا فترات طويلة عالية الجودة تعتمد على اللعب قبل انخراطهم في المدرسة، تمتعوا بميزات وأفضليات وذلك عند مقارنتهم بأطفال آخرين لم تسنح لهم تلك الفرصة.

كما قارنت الدراسات في نيوزلاند مجموعات أطفال بدأوا دراستهم النظامية في أعمار الخامسة والسابعة، وأوضحت نتائجهم أن التقديم المبكر لمناهج التعليم النظامية ليس لها أي دور في تحسين مهارات القراءة عند الأطفال، بل وقد تكون لها آثار مدمرة، وفي عمر 11 عامًا لم تسجل أي اختلافات في مستوى إمكانية القراءة بين المجموعتين، في حين أظهر الأطفال الذين بدؤوا دراستهم في عمر الخامسة موقفًا أقل إيجابية تجاه القراءة، وفهم أضعف للنصوص مقارنة بزملائهم الذين بدأوا في سن أكبر.


أوروبا رأتها سنواتٍ حاسمةً

لابد من التفرقة بين التعليم النظامي والتعلُّم على مدار حياة البشر، فتعلم الطفل لا ينتهي وهو تلقائي ولا يتوقف ومرتبط بالحياة الطبيعية للطفل، لكن يؤخذ على نظام التعليم النظامي بشكله الحديث بعض المآخذ منها فكرة «السُلطة» وقسوة التعامل مع الطفل انطلاقًا منها.

في 15 فبراير 2011 قدمت المفوضية الأوروبية (جدول أعمال للاتحاد الأوروبي لحقوق الطفل)،ورقة اعترفت خلالها بأهمية توفير التنمية المناسبة لاحتياجات الطفل بما في ذلك اللعب، وخلصت الوثيقة إلى ما يلي: «التزام متجدد من جميع الجهات الفاعلة لضرورة تحقيق الحياة في عالم يمكن الأطفال من أن يعيشوا في أمان، ويلعبون ويتعلمون ويسمح لهم بفرص تطوير إمكانياتهم كاملة، وإتاحة فرص أفضل للتعليم»..

وفي مايو 2011،اعتمد البرلمان الأوروبي قراراً بشأن التعلم في السنوات الأولى، حيث أشار إلى أن السنوات الأولى من الطفولة حاسمة بالنسبة للأطفال فـ «بالإضافة إلى التعليم، جميع الأطفال لديهم الحق في الراحة،الترفيه واللعب».

وأعقب ذلك مجلس الاتحاد الأوروبي في مايو 2011 بالاتفاق على وجوب اتخاذ تدابير لتعزيز البرامج والمناهج المناسبة من الناحية التنموية، والتي تعزز اكتساب المهارات المعرفية وحتى غير المعرفية، مع الاعتراف بأهمية اللعب، وهو نشاط حاسم للتعلم في السنوات الأولى، وهو مايدعم فكرة أهمية تأخير تلقى المعلومات للطفل فى عمر أربع سنوات.

«أينكا Enka» فى مجلة «الطفل وأنا child and me» قدمت مقالاً بعنوان «هل نظرية الكلمة الكاملة -Whole Word Method- ضارة لتنمية الاطفال؟» أكدت خلال المقال أن تدريس الكلمات للأطفال في سن مبكرة ضار، وأن الوالدين عليهما فهم أن مصير الطفل في أيديهم وأن ذلك أمر ليس بسهل، وتحدثت عن أساليب التدريس التقليدية، مشيرة إلى فكرة حظر تعليم الطفل مبكرًا في المدارس الفرنسية، لضرر ذلك عليه، وأن الأهم هو فقط التحفيز المبكر للطفل، وأنه تم منع التدريس بالكلمات للأطفال منذ 2006، سواء مدارس عامة أو خاصة.


ما سبق ينبه لأهمية إعادة التفكير في سن دخول المدرسة، وهو ما تم بالفعل في كثير من المجتمعات التي تقدمت في العملية التعليمية، وفقًا للكثير من الأدلة والتي آخِرها ما قاله خبراء تربية في كندا: «إن الأطفال الأكبر سنًا يحصلون على انتباه أكبر وبالتالي يكون التحصيل بشكل أكبر إضافة لأهمية فكرة خلق شخصية قيادية واعتبار المعادلة «لعبة حياة وعلم» أكثر منها مجرد تحصيل لمواد معرفية»، بينما اعتبرت ألمانيا التبكير في إدخال المعلومات لمخ الطفل يؤثر على أعصابه التي لم تنضج بعد.