عادت الرواية السوريّة إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر بعد أن غابت عنها لعامين متتاليين، رغم غزارة الإنتاج الأدبي في سوريا، حتى وإن ظل يدور حول قضيّة واحدة، هي التي تفرض نفسها على الدوام في الآونة الأخيرة، مأساة الحرب السورية، وما فعلته وتفعله في الناس من دمار وضياعٍ وخراب، ويبقى العهد في كل عملٍ جديد على التناول المختلف، والطرح المغاير للسائد.

في روايتها تقدّم «ديمة ونوّس» تجربة سرديّة مختلفة تقوم على أساس تصوير نفسيات الأفراد وأبطال روايتها؛ «الخائفون» الصادرة مؤخرًا عن دار الآداب، والمرشّحة على القائمة القصيرة لبوكر هذا العام. تبدأ الرواية من عيادة الطبيب النفسي «كميل» على لسان البطلة الراوية التي تكشف لنا عالم الرواية، وتحكي عن عائلتها الصغيرة والكبيرة، أبيها الذي تعلَّقت به وبوجوده في حياتها، وأخيها الذي كان معارضًا للحكومة السورية وانتهى أمره إلى الاختفاء، ثم حبيبها «نسيم» الطبيب ثم الكاتب والروائي الذي رحل وتركها، وتكتشف أثناء غيابه أنه استغل حكاياتها ليكتب روايته الأخيرة التي لم تتم فصولها.

لعل أول ما سيلفت انتباه القارئ في «الخائفون» أن ثمة إصرارًا من الكاتبة على الدخول في نفسيّة بطلتها، والتعبير عنها بشكل واضح قد يصل إلى حد المبالغة في الوصف، الراوية هنا البطلة سُليمى هي التي تحكي الحكاية ومن خلالها نتعرّف على الشخصيات، ومن خلالها يتشكّل العالم، لا مجال لأصوات أخرى كي تعبّر عن نفسها، بل إنه حتى الحيلة الروائية الوحيدة التي استندت إليها الكاتبة والتي تمثّلت في «أوراق نسيم» التي يفترض أنها مسوّدة لروايةٍ أخيرة، كانت أيضًا على لسان امرأةٍ أخرى، تتقاطع في السرد والحكايات مع البطلة، حتى ليقع القارئ في ورطة أي صوتٍ يتحدث وأي الأصوات يختلف عن الآخر، هل ثمة فروق في الشخصيات بين «سلمى» التي يحكي عنها «نسيم» وبين البطلة التي تعرض فصولاً من حكايتها.

اعتقدت دائمًا أن الأزمات تجعلنا أقوى وأكثر قدرة على تحمل المصائب الصغيرة ألم نتعايش مع مشاهد الموت ألا تكفي السنوات الخمس لإزاحة الخوف من يومي؟ في الواقع هي لم تزحه ولم تستبدله بمخاوف أخرى بل راكمت فوقه مخاوف جديدة حتى بات دماغي معملاً لإفراز كل أنواع الخوف والقلق والهلع والوحشة وضيق التنفس واضطراب نبضات القلب وكل ما من شأنه العبث بطمأنينة عابرة لا تزورني إلا في الليل مع انقضاء يوم جديد، أخاف فأفكر في الخوف وإذا فكرت بالخوف أخاف ربما يكون الخوف هو الشعور الوحيد الذي يصعب توطين الروح عليه، يصعب التعايش معه أو التصالح، يعشش في الداخل ولا علاقة لشيء خارج الجسد والروح به .

اتسعت دائرة الرواية لتشمل أحداثًا سوريّة أخرى مهمة، وإن جاءت بشكلٍ عارض، فلم تقتصر على أحداث الثورة والحرب السورية، بل على ما سبقها حيث يأتي ذكر «مذبحة حماة» وما ارتكبه فيها نظام الأسد من جرائم، سيكون من الطبيعي والمتوقّع بعد ذلك أن يأتي الحديث عن القمع والوحشيّة التي تتعامل بها السلطة مع أفرادها، ويأتي الحديث أيضًا عن الطائفية ومشكلاتها، وعن تعامل الأفراد مع بعضهم والنعرات الطائفية التي ظهرت فجأة بمجرد اندلاع الحروب والمواجهات المسلحة، وذلك الإنسان الذي كشف عن توحشه فأصبح عدوًا فجأة وعلى استعدادٍ لأن يقتل الآخر ليعيش!

اقرأ أيضًا:«عمتِ صباحًا أيتها الحرب»: توثيق الحرب السورية روائيًا

لا شك وسط هذه الأجواء سيأتي الحب عابرًا مشكوكًا في أصله وحقيقته، مبتورًا لا يستقيم عوده، تبحث البطلة فيه عن والدها الغائب الذي ترفض الاعتراف بموته، ويبحث فيه نسيم عن حكايةٍ أخرى يكمل بها حكايات روايته التي ضاعت تفاصيلها منه، بل يبدو مع الرواية وكأن لا شيء يصلح للحياة، حتى الكتابة لم تعد صالحة.

توقعت أن يكتب نسيم عن الثورة. لن يستطيع إكمال روايته من دون الخوض في بعض تفاصيلها. أذكر كيف تجادلنا حول عدم قدرته على الكتابة. نسيم ظن أن ما حدث عطّل خياله. يقول إن الكتابة عن ثورةٍ لم تحصل أمر ممكن. أمّا الكتابة عن ثورةٍ تحصل أمام أعيننا وفي حيّز أحاسيسنا كلها فهو أمرٌ صعبٌ للغاية. ثم إن تجاهل ما يحدث والكتابة عن موضوع لا علاقة به بما نعيش ليس سوى محاولة بائسة للانفصال عن الواقع.

بالإضافة إلى ذلك كلّه غرقت الرواية بين حكاية سلمى، وسليمى في عدد من تفاصيل ما يمكن تسميته «بحكايات الجدات»، فتذكر في أجزاءٍ منها سيرة جدة البطلة، وعماتها، وخالتها، من فيهم تزوج ومن صاهر، وكيف كانوا يتعاملون ويتنابزون بينهم، وكيف يتعامل أبناء كل أسرة على أسس مختلفة عن عائلة الآخرين، كل ذلك لكي تصف حالة البطلة التي رأت نفسها وحيدة وغريبة عن تلك العائلة منذ فترة طويلة، وأنه لم يكن لها أحدٌ غير والدها الذي غيبه الموت.

ولكن المشكلة أن تلك الحكايات الفرعية قد تسرّب إلى القارئ بعض الملل، ربما لأنها لم تأتِ وفق نسيج الرواية نفسه، وإنما جاءت على شكل شذراتٍ تتذكرها البطلة بين الحين والآخر، ممّا يحولها إلى تفاصيل لا تضيف إلى الرواية شيئًا، بل تعمل على تشتيت القارئ وإضعاف تركيزه على حكاية الرواية الأصلية.

هكذا نسجت ديمة ونوّس في رواية «الخائفون» صورة نفسية مركزة للمأساة السورية وما يعتمل بسببها في نفسيات أبطالها أو شخصياتها، الذين يتحوّلون جميعًا إلى مرضى نفسيين غير قادرين على مواجهة ذلك الوحش الهائل المفزع الذي يجثم على صدورهم جميعًا، وحش الحرب التي لم تبقِ أخضر ولا يابسًا، بل حتى من بقي منهم وحيدًا لم يعد يأمن على نفسه من سيطرة هواجسه وذكرياته التي يستحيل أن يتخلّص منها.

تجدر الإشارة إلى أن «ديمة ونوّس» إعلامية سورية وهي ابنة الكاتب المسرحي السوري الكبير «سعد الله ونوّس»، تكتب الرواية والقصّة القصيرة، تقدم برنامج «من هناك» على قناة «الأورينت». رواية «الخائفون» هي الرواية الثانية لها، وأول عمل تصل به إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية.