القاعدة الأولى الحاكمة في التربية: «إعداد الطفل لتعلم كل ما يتفاعل معه أو ما يحتمل أن يحتك به، تأثيرًا وتأثرًا، الآن وفي المستقبل القريب»، فمثلاً هل أعلم الطفل كيف يقود العربة؟ لا بالطبع لأنه ليس مطلوبًا منه قيادة العربة في سنه الآن، بل مطلوب منه فهم ما هي العربة وما وظيفتها وكيف يفتح الباب ويربط حزام الأمان ويغلق مفتاح أمان الباب وينزل النافذة وأن العربة لو توقفت بشكل مفاجئ ستسبب اندفاعًا، وأن ارتطامها به أثناء مسيرها يسبب له ضررا، لذا نعلم الطفل كل ما قد يحتك به، لكن ليس علينا تعليمه مستويات «ناقل السرعة» لأنه لن يستخدمه في المستقبل القريب.

هذا مثال بسيط يُمكِّنك من القياس على ما يحتاج الطفل تعلمه، وما لا يحتاجه.

إذن الطفل في سنه الصغير -قبل بدء السنة السابعة سن دخول المدرسة- عليه أن يتعلم كل ما سيتفاعل معه: أعضاء جسده ووظائفها، حال الطقس والسماء وأسماء ما فيها ووظائفها، كل الأجهزة والأدوات المنزلية المحيطة الذي فهوي حاجة لتعلمها. إطعام نفسه وسُقْيها دون الحاجة للغير، ارتداء ملابسه، الكلام سمعًا وتحدثًا، فن التفكير وتجريد الأشياء إلى أساسياتها الأولى للوصول لمعانيها وحلول مشاكلها (المنطق). المشاعر وكيف يعبر عنها ويسيطر عليها قدر ما يتفق مع عُمرِه. الألوان والأشكال والهيئات والحيوانات، كذا أن يعرف الحياة؛ دورتها من النبات حتى الحيوان، الطبيعة وكيف تبقى كل هذه الكائنات الحية على قيد الحياة دون تدخل من أحد؟ الطعام، العناصر الغذائية، وسائل الطهي، المكونات الأساسية وطعم ورائحة كل منها. الوظائف من حوله، أصوات الحروف والنطق الصحيح وتميز الحروف ومكونات الجمل سماعيًا، المفردات ومعانيها والمتشابه بينهم والمتضاد و…، تعلم لغة ثانية، تعلم الجمع والطرح الملموس لا المجرد الذي على الورق، إذا أعطيت البائع 5 جنيهات ليأخذ نصيبه منها ثلاثة جنيهات ونصف، كم يتبقى لك؟ لكن لا حاجة لـ «5-3.5=1.5» لن يفيده أن يعرف رسم الخمسة وعلامات الضرب والقسمة والطرح الآن. الحقوق والواجبات، ما له وما عليه وما يجب ألا يُطالب به وما يجب ألا يتخلى عنه، العَيب والمسموح.

في كل ما سبق لم نذكر القراءة ولا الكتابة، فلماذا أضيع وقت تعلم الأساسيات الفطرية التي تبني الأساس العقلي والإدراك البيئي اللذين يشكلان وعي الطفل بالحياة طوال حياته؟ لأتعلم ما لا يجب علي أن أعلمه للطفل في هذا السن؟ نعم. عدم أهمية تعليم القراءة والكتابة، بل وضررها على الطفل في حال تعلمها في سن صغير (قبل السابعة) هو ما تحذر منه درزينة من الكيانات العلمية الموثوقة وما يتجه له العالم بأسره في هذه الآونة، وما نصحت به النظريات المؤسسة في التعليم.

كيف نفعل ذلك؟ سنعرف الآن.


الطبيعيات

إن سقطتَ في الماء غرقتَ، إن سقطت من علو مرتفع ستصاب بالأضرار، نحن نتنفس الهواء، الشمس تمدنا بالحرارة وهي ميزان الفصول، السحاب يسقط الأمطار، اللهب يَحرق، هذا ساخن وذلك بارد، العكر والصافي والنظيف والوسخ والصلب والطري والخشن والناعم والحاد. السماء والأرض والطين والرمل والصخر والشجر والمزروعات والثمر وكيف يتكون كل منها. الحشرات والطيور والحيوانات واختلافات البشر، وهذا ذراع وذاك إصبع وقدم وما يمدنا بالدماء اسمه قلب، والرئة هي المسئولة عن التنفس و… و… وفي كل تفصيلة من هذه حياة كاملة، يعطى للطفل منها قدر شغفه وحاجته للمعرفة.


فن الكلام

1. تأسيس الطفل بمخزون كبير من الكلمات ومعانيها وطرق التعبير عما بداخله بأبلغ الجمل الممكنة، فالكلام هو جسر البشر لتمرير المفاهيم والمشاعر لبعضهم، وعلى هذا الجسر أن يكون صلبًا متينًا يسمح للطفل بنقل أفكاره ومشاعره للغير، وتلقي ما يرسله له الغير بسهولة ويسر.

وأفضل سبل ذلك القراءة الدورية للطفل، العديد من كتب الأطفال في كل المجالات في كل الأماكن، علينا أن نقرأ للطفل الكتب، المصورة والعادية، وإدخال الخيال وكيف نوصّفه بما يبعر عن حالته، قراءة القرآن والشعر والأدب البسيط والجمل البلاغية.

2. الحديث كثيرًا للطفل، حديث جاد كأنك تحادث شخصًا ناضجًا، فقط اجعل وصفك مباشرًا ومنطقك بسيطًا قريبًا لعقل الطفل.

3. تعلم الإنصات قبل الحديث، وعدم المشاركة فيما لا يخصه من نقاشات إلا بإذن، وحينما يؤذن له، عليه أن يتحدث بشكل كامل ويفرد وجه نظره كاملة وأن يتعلم كيف يدافع عنها وأن يحصل على فرصته كاملة في كل نقاش هو طرف فيه، وأن يستخدم جملاً واضحة مستقيمة.

4. التفكير قبل التحدث، تجميع عناصر الحديث قبل البدء بتنظيم الأفكار، وما يفوت منه أثناء الكلام، لا ضرر في الصمت بين الجمل، لتجميع شتات فكره، السكتات والحديث الهادئ أفضل من (ممممم – أأأأأأ) التي تصدر من الصغار نتيجة تدافع الأفكار وهروب الكلمات وضيق المفردات.

5. الاتجاه بالجسد والنظر للمتكلم، سواء كان يستمع له أو يتحدث معه.

6. التدريب على التخلي عن علامات التوتر، كاللعب المفرط بالأصابع أو هز القدمين أو التململ وكثرة الحركة.

7. فيما يخصه ولا يخص غيره، يحق للطفل رفض النقاش متى شاء، فلا يجب أن يسمح دائمًا باستظراف من حوله في كل ما يخصه.

8. الطفل فرد مستقل، لم ينمُ بعد بشكل كامل نعم، لكنه في الطريق لذلك، أنت شعلته في هذه الرحلة، فعليك أن ترشده بالضوء لا أن تجبره على الطريق. لذلك على طفلك أن «يختار» ويكون حرًا بما لا يهدد سلامته.


الشخصية

1. الثقة بالنفس، أهم ركن في حياة الفرد، لا تأتي إلا بحرب ضارية في كل الأصعدة، سيخوضها الطفل في حياته ومع كل من حوله، لذا يجب أن يتدرب جيدًا عبر تربية وتأهيل صعبين جدًا من والديه.

فقبولهما المساواة في التفكير، وفهمما أنه لا يجب على صغيرهما أن (اسمع الكلام) في المطلق، بل عليه أن يقتنع أولاً قبل أن ينفذ، فـ «اسمع الكلام» لا تساعد أبدًا في خلق طفل ذي شخصية قوية، بل طفل منقاد تابع يسمع الكلام!

2. الطفل إنسان مثله مثلك، يشعر ويتألم ويرغب ويرفض، ربما يأتي شعوره سريعًا متدافعًا -كما يتميز الأطفال- لكنه لا يعني أنه لا يشعر، لذا عليك أن تحكي له ظروف وملابسات ما تريده فعله، مثلاً لو كنت ذاهبًا لمكان ما ورفض الطفل الذهاب له، عليك الاستماع لأسبابه، لا تنكره ولا تنكر عليه هذا الحق، فهو إنسان مثلك يملك رغبات مثلك، فلا تقم بمحوه ليتماهى فيك، حافظ على مساعدته في تكوين شخصية لنفسه، فأنتم شخصان ولستما شخصًا واحدًا.

3. حدود الطفل الشخصية يملكها الطفل، خضوعها لتحكمه أمر أساسي، جسده ومساحته الشخصية ملك ليس على أي غريب أن يتخطاها تحت أي بند، ولا حتى المزاح، هذه قيمة جميلة عليه أن يتعلمها، لكن لا يمكنك غرسها مثلاً عن طريق أبوين يضرب أحدهما الطفل!

4. التفكير: لكل فعل دافع ونتيجة، علينا البحث عن الدافع قبل الإقدام، ومعرفة النتيجة لتحمل تبعاتها، فهناك أمور جيدة وأمور سيئة، وأمور غير واضحة تحتاج لكثير من التفكير، في أي من هذين الموقعين يقع تصنيف كل ما نفعل؟ على الطفل أن يتعلم كيف يتعرف على ذلك بنفسه.

5. التفهم المتبادل: احتمالية الخطأ حادثة من الإنسان، والخطأ معيار مؤسس في التجربة لا تستقيم بدونه، على طفلك أن يعذرك في ذلك وعليك أن تعذره أنت أيضًا.


المقبول وغير المقبول

المسموح به والعيب، إن أراد الطفل خلع سترة يرتديها لأن الجو أصبح حارًا، هذا حق وأمر عادي نوافقه، لكن ماذا إذا أراد خلع السترة وما يرتديه تحتها ليمشي عاري الجذع لأن الجو حار، هل نسمح له؟

الفعل الأول يماثل الثاني، تخفيف الملابس بسبب الحر، إلا أن الفعل الأول مسموح به والثاني مرفوض. عقل الطفل المنطقي سيسأل لماذا، وعلينا تهيئة الجواب المقنع له.

الجسد أمر خاص لا يجب إظهاره على العيان، هناك كود (قوانين جمعية) في كل مكان علينا الالتزام بها: لا يمكن أن أرتدي البدلة على الشاطئ لألعب في الرمال وأنزل البحر، ولا يمكن أن أرتدي ملابس البحر في الأوبرا، فلماذا هذا وذاك والملبسان مسموح بهما والمكانان كذلك؟ (التقاليد أو الكود) هذه هي الفلسفة التي على الأهل البدء في تعريفها للطفل منذ الصغر.

بمنوال آخر، المسموح والممنوع، الخاص والعام، فمثلاً عملية الإخراج في الحمام ليست عيبًا، نحن لا نفعل (عيبًا) في الحمام فما نفعله يفعله كل البشر، لكنه أمر (خاص) بكل فرد على حدة، لذا برغم أنه فعل مشترك بين كل البشر، إلا أننا لا نفعله أمام بعضنا، لا خجل في الأمر، فقط الخصوصية، التربية الجنسية ستفرض نفسها هنا، جسد الفتاة ليس عيبًا وليس فيه ما يدعو للخجل أو الخوف، هو فقط أمر خاص بها. هذه المفاهيم وكيفية توصيلها للطفل رويدًا بصورة صحية -ليس دفعة واحدة، بل كل في مرحلته العمرية بقدر الحاجة- هي وظيفة الأبوين في حياتهما مع الطفل.


مراحل ومستويات ومعارف ومنطق وعلوم كاملة تتاح أجزاء منها للطفل ليطّلع على بصيص من (الكون) بواسطة عين سحرية هي أنت، فعليك أن تعرف ما يجب على هذه العين إظهاره وما يعد إظهاره مضيعة للوقت.