حين أتحدث عن الشعر فإنني لا أنظر إليه كنوع أدبي. الشعر هو الوعي بالعالم، طريقة خاصة للاتصال بالواقع. هكذا يصبح الشعر فلسفة ترشد الإنسان طوال حياته. يصبح الفنان خالقًا للجمال الخاص الذي ينتسب للشعر فقط، وقادرًا أن يتبين خطوط التصميم الشعري للوجود، وأن يتخطى قيود المنطق المتماسك وكشف التعقيد وحقيقة الروابط غير المحسوسة وظواهر الحياة المخفية.

هذه الكلمات التي كتبها الروسي «أندريه تاركوفسكي» في كتابه «النحت في الزمن» تجسد رؤيته الذاتية للشعر، والتي يرى على ضوئها في السينما أكثر الأشكال الفنية صدقًا وشعرية.يرى تاركوفسكي أيضًا في الدراما التقليدية، والتي تعتمد على نحو صارم على الحبكة، حتى وإن كانت الحبكة محكمة وموجهة من قبل الشخصيات، أنها تتكئ على تأويل سطحي للحياة، بينما الشعر أقرب إلى الحياة نفسها وأكثر قدرة على استيعاب تعقيداتها من منطق الدراما التقليدية/الكلاسيكية، والتي ظلت لسنوات طويلة الشكل الوحيد الذي يتم من خلاله التعبير عن الصراع الدرامي. الشعر يجعل المشاهد فعالًا أكثر ويصبح مشاركًا في عملية اكتشاف الحياة المعروضة أمامه.


بازوليني وسينما الشعر

يرى الإيطالي «بيير باولو بازوليني» في نصه النظري «سينما الشعر» أن لغة السينما هي جوهريًا لغة الشعر. تاريخيًا تشكل عرف سينمائي بدا كأنه عرف لغة النثر فقط، أو على الأقل لغة النثر القصصي، هذا العرف السردي أجاز مقارنات نقدية عديمة الجدوى بين السينما والمسرح والرواية.

يري بازوليني أيضًا مثل تاركوفسكي أن فقدان الحبكة التقليدية يؤدي إلى غلبة الشعر على النثر، وإن كان بازوليني أقل تعصبًا ضد سينما النثر، فهو يرى أن الكثير من الأفلام رغم اتباعها قواعد سينما الشعر لا تنتج أفلامًا تنتمي لسينما الشعر، بينما قد توجد سينما تعتمد على النثر في الحكي لكنها قادرة على خلق الشعر. فالقصائد السينمائية العظيمة لشابلن، وميزوجوتشي، وبرجمان لم تصور طبقًا لقواعد لغة سينما الشعر، حيث تكمن شعريتها في مكان آخر غير اللغة، فهي شعرية داخلية كتلك التي تجدها في روايات تشيكوف وميلفيل.

تنقسم نظرية بازوليني عن سينما الشعر إلى قسمين رئيسيين، أولهما ما يطلق عليه «الصور الإشارية»، وهي مجموعة من الصور القادمة من عالم الذكريات والأحلام لتشكل لغة يختلط فيها الذاتي والموضوعي، هذا الاختلاط هو لب السينما الشعرية. يرى بازوليني في فيلم «كلب أندلسي» لبونويل أحد علامات سينما الشعر، فلغة الفيلم تمزج بين الذاتية (صور الفيلم مصدرها الحلم، أحلام حقيقية لسلفادور دالي وبونويل)، والموضوعية لأنها تقدم صورًا من الواقع، فالشعري يقف على الحدود بين الذاتي والموضوعي.

ثاني القسمين ما يسميه بازوليني «الخطاب الحر غير المباشر»، وهو ببساطة أن يوجد المؤلف/المخرج شخصية يتغلغل إلى روحها من أجل أن يستخدمها كذريعة للتعبير عن رؤيته الخاصة للعالم. في هذا الخطاب يتنحى المؤلف عن مكانه محملًا شخصياته رؤيته للعالم عبر سرد مرصع باقتباسات كثيرة من لغة الشعر.

لتوضيح ذلك يعود بازوليني إلى فيلم «الصحراء الحمراء» لأنطونيوني، والذي ابتكر انطونيوني ذريعة/شخصية «جوليا» (لعبت دورها الممثلة مونيكا فيتي)، وهي امرأة تعاني من عصاب الاغتراب، ومن خلال عينيها ينظر أنطونيوني للعالم جاعلًا رؤية امرأة مريضة للعالم رؤيته هو، محملًا إياها بهذيانات جمالية. يحتاج أنطونيوني للحالة الذهنية المسيطرة على بطلته من أجل ترسيخ حريته وتشكيل العالم حسب رؤيته. بذلك يتماثل الخطاب الحر غير المباشر، مع لقطة وجهة النظر الذاتية. يضرب بازوليني مثالًا آخر لذلك في فيلم «مصاص الدماء» لكارل دراير، حيث نرى العالم كما تراه جثة، وكما يمكن أن تراه إذا أرقدت في تابوت.

يختتم بازوليني نظريته بالكلام عن دور الكاميرا في خلق لغة السينما الشعرية، حيث يرى أن من شروط الشعرية في السينما «أن تجعل الكاميرا تشعر»، عكس السينما الكلاسيكية التي كانت تجتهد لإخفاء مشاعر الكاميرا للإبقاء على حالة الإيهام التي يستغرق فيها المشاهد. بينما تميل السينما الحديثة لكسر الإيهام باستخدام الكاميرا المحمولة باليد أو تقنيات مثل الاهتزاز، والتقريب والتبعيد وتغيير العدسات. هذا الإحساس بالحضور الدائم للكاميرا هو أحد عناصر لغة الشعر في السينما، تجعل المشاهد أكثر فعالية ومشاركًا في خلق العمل الفني وليس مجرد مشاهد سلبي.

هذه المقدمة تمثل بكثير من التبسيط رؤية اثنين من رواد ومنظري السينما الشعرية، وبالتأكيد ستجد اختلافًا بين رؤيتهما ورؤية مخرجين آخرين لها، كجودار أو كيارستمي مثلًا. تحت عنوان سينما الشعر سنرصد الشعر في السينما، نسمي الشاعر ونعنون قصيدته السينمائية.


فيلم «باترسون»: جارموش وأيام الشاعر السبعة

يرى بازوليني أن فقدان الحبكة التقليدية يؤدي إلى غلبة الشعر على النثر، وأن الكثير من الأفلام رغم اتباعها قواعد سينما الشعر لا تنتج أفلامًا تنتمي لسينما الشعر

سنحاول خلال هذه المساحة أن نرصد عناصر الشعرية السينمائية في فيلم «باترسون»للمخرج الأمريكي «جيم جارموش»، والصادر في 2016، والذي يرصد فيه جارموش سبعة أيام في حياة سائق حافلة نقل عام يدعى باترسون (آدم درايفر) يعيش مع زوجته لورا (غلشيفته فرهاني) في مدينة تحمل أيضًا اسم باترسون في ولاية نيو جيرسي.

باترسون يكتب الشعر في دفتر سري في استراحة الغداء، في الدقائق القليلة قبل الشروع في قيادة الحافلة، في الطرقات أو أمام شلال جبلي يعتير من معالم المدينة. لا شيء يحدث في فيلم (باترسون)، فهو يخلو من الحبكة كبقية أفلام جارموش. يتجنب جارموش كل حدث درامي محتمل ويطفئ كل انفعال.

في المرات القليلة التي بدا فيها الانفعال زائدًا عن الحد المسموح به عند جارموش فإنه يقلب الأمر إلى سخرية باردة، مثل مشهد البار حين ينفعل أحد رواد البار والمنفصل حديثًا عن صديقته، فإن البارمان يخبره في سخرية «يا إلهي ينبغي أن تكون ممثلًا» فيجيبه: «أنا ممثل». ليبدأ باترسون في الضحك. هناك أيضًا بعد تعطل الحافلة التي يقودها باترسون لعطل كهربائي تخبره لورا والبارمان في قلق «كان يمكن أن ينفجر،أن يتحول إلى كرة من النار»، يضحك باترسون لأن ذلك لا يمكن أبدًا أن يحدث في فيلم لجارموش.

يقسم جارموش فيلمه إلى سبعة فصول، كل فصل يمثل يومًا في حياة باترسون. كأن جارموش بهذا التقسيم يقاوم سريان السرد الخطي، وكأن هذا الأسبوع دائرة زمنية ستتكرر إلى الأبد في حياة شاعر باترسون. فيلم باترسون قائم على التكرار. والتكرار ليس العادة، فالعادة لا تشكل أبدًا تكرارًا حقيقيًا. يتساءلالفيلسوف الفرنسي «جيل دلوز» كيف يمكن أن تصادف تكرارًا في الوجود لا يكون مجرد تشابهات؟

يرى دولوز أن ما يتكرر حقًا هو ما لا يمكن استبداله، ما هو فريد فليس بوسعك استبدال توأم حقيقي أو استبدال نفسك. التكرار الحقيقي هو أن تكرر ما تريد لا ما هو مفروض عليك، وهذه الحياة الروتينية البسيطة هي ما يريده باترسون، إنها تسمح لخياله أن يتحرر لأن كل شيء معد سلفًا. إنه يسير في الشوارع كالنائم مستكملًا كتابة قصائده لأنه يحفظ المدينة عن ظهر قلب أو لأنه هو المدينة.

يتجنب جارموش كل حدث درامي محتمل ويطفئ كل انفعال. وفي المرات القليلة التي بدا فيها الانفعال زائدًا عن الحد المسموح به فإنه يقلب الأمر إلى سخرية باردة

التكرار يجعلك تنفتح على واقع أعمق وأكثر شاعرية. ينتزع التكرار في كل مرة شيئًا جديدًا؛ لأن من ينتزع هي الروح التي تتأمل. في لغة العلم يمكنك استبدال مفردة بأخرى، بينما في لغة الشعر لا يمكنك ذلك؛ فليس في وسع الكلمات سوى أن تتكرر للأبد، كأنه ليس هناك كلمات أخرى. مثل سطر شعري من أغنية قديمة اعتاد الجد أن يغنيها لباترسون في صغره «أو تفضل أن تكون سمكة؟» والذي يظل وحده يتردد في ذاكرة باترسون وكأن بقية الأغنية لم توجد أبدًا.

يشمل التكرار أيضًا سلسلة من التوائم يصادفها باترسون في شوارع المدينة أثناء سيره أو قيادته للحافلة. أول ظهور للتوائم كان في حلم لورا، إذ تحكي حلمها بإنجاب توأم لباترسون، في المشهد التالي يرى باترسون في طريقه إلى العمل عجوزين توأمين أمام أحد المصانع القديمة، بعد أن يتجاوزهما باترسون يعيد النظر إليهما كأنما يريد أن يتأكد من وجودهما حقيقة. نحن هنا أمام صور وجدت طريقها من الحلم إلى الواقع بما يتقاطع مع تعريف بازوليني للصور الإشارية التي يكون مصدرها الحلم.

يصادف باترسون أثناء عودته من العمل طفلة تكتب الشعر في دفتر سري، تقرأ له قصيدة من دفترها بعنوان «شلال» (القصيدة كتبها جارموش نفسه) يعود باترسون إلى بيته في المشهد التالي، ليجد زوجته تعلق على الحائط إطارًا يحتوي منظرًا طبيعيًا لشلال، ثم تخبره أنها قرأت أن الشاعر بترارك كان يكتب قصائده أيضًا في دفتر سري لمحبوبته لورا. هنا يبدو الفيلم فضاءً مفتوحًا على الحلم والشعر معًا.

يجد جارموش في شخصية باترسون ذريعة لتقديم رؤيته الخاصة للعالم. جارموش مثل باترسون يرى العالم بعيني شاعر ينفي عن نفسه دائمًا مهنة الشعر، شاعر يعمل كسائق حافلة ويكتب الشعر على الهامش مثل شاعره المفضل «وليام كارلوس وليامز» الذي ظل طيلة حياته يعمل طبيبًا ويكتب الشعر على هامش عمله كطبيب، والذي شكلت قصيدته الملحمية المعنونة «باترسون» إلهامًا لجارموش بعمل فيلمه عن رجل يحمل اسم مدينته، هو مجازها أو هي مجازه.

شاعر يجد إلهامه الشعري فيما هو عادي ويومي. يكتب قصيدة في علبة ثقاب ماركة «أوهايوبلو تب» أو في حب زوجته لورا. يستعيد جارموش أيضًا خلال الفيلم روابطه العاطفية مع شعراء مدرسة نيويورك (فرانك أو هارا، وجون أشبري، ووالاس ستيفنز، ورون بادجيت الذي كتب قصائد هذا الفيلم) والذين اعتبرهم دومًا كآباء روحيين. نقاد جارموش رأوا في سينماه امتدادًا سينمائيًا لهذه المدرسة الشعرية، والذي يتضمن المانيفستو الخاص به؛

لا تأخذ العالم على محمل الجد، أنت لا تكتب من أجل العالم، اكتب من أجل شخص آخر، اكتب رسالة حب لامرأة تحبها، اكتب خطابًا شعريًا لرجل تعرفه.

نجد هذه المبادئ الشعرية حاضرة دومًا في سينما جارموش. فجارموش هو شاعر الهامش، شاعر الأشياء خافتة البريق، شاعر العادي وشاعر الزمن الميت (الزمن الذي يخلو من دراما أو حدث) اللحظات التي يمررها جارموش في فيلمه هي اللحظات التي يقصيها غيره من المخرجين في غرفة المونتاج لأنها زائدة. في فيلم هوليودي سنجد البطل يسرع في اتجاه هدف محدد، بينما سينما جارموش هي سينما الهائمين على وجوههم دون هدف، لأن شعار جارموش في الحياة «إنك لن تضيع إذا كنت تجهل الجهة التي تقصدها».