السينما ليست مجرد وسيط تعبيري، إنها شكل من أشكال الحياة. تحقيق الأفلام هو حياتي الثانية. أحب كلمات «ويليام فوكنر» التي تقول بأن العالم مخلوق من أجل أن يكون رواية، في حالتي أود أن أصدق أن العالم مخلوق ليصير فيلمًا.
المخرج اليوناني ثيو أنجيلوبولوس.

في مطلع القرن العشرين كانت السينما حينئذ فنًا وليدًا، كتب الشاعر أبولينير أن مملكة شاعر المستقبل ستكون في السينما، وأعلن متحمسًا للفن الجديد أن القرن العشرين سيكون قرن السينما. في هذه المساحة نكتب عن أحد شعراء مملكة السينما، والتي تكتنز سينماه بالعديد من العناصر الشعرية، وهو اليوناني «ثيو أنجيلوبولوس» عبر تحليل فيلمه «Eternity and a Day» والحاصل على الجائزة الكبرى من مهرجان كان (1998).


الأبدية ويوم واحد: غربة الشاعر ومنفاه

في «Eternity and a Day» يرصد أنجيلوبولوس اليوم الأخير في حياة شاعره المفضل «ألكسندر» (برونو جانز). يتذكر الشاعر حياته الماضية التي أمضاها في عزلة عن العالم وعن الذين أحبوه من أجل الكتابة. يحاول ألكسندر أن يتصالح مع ماضيه ومع غده المجهول قبل دخوله المستشفى في اليوم التالي مصابًا بمرض عضال قد يودي بحياته.

يقضي الشاعر يومه الأخير متجولًا في شوارع مدينته تيسالونيكي. ينشغل عن استعدادات علاجه بمساعدة طفل لاجئ من ألبانيا صادفه أثناء تجواله في شوارع المدينة يجدد من خلال علاقته به صلته التي انقطعت عن العالم، ويكشف في روحه عن إمكانات جديدة للحب، مثلما يترك أعماله الشعرية غير منجزة منشغلًا باستكمال قصيدة كتبها شاعر من القرن التاسع عشر يدعى «سولومون».

عاش سولومون في إيطاليا غريبًا عن اليونان، يعذبه الحنين إليها، حالمًا كل ليلة بوجه أمه التي لا تزال هناك وحين علم بقيام ثورة في اليونان قرر العودة، لكنه حين عاد عاش غربة أكبر هي غربة اللغة. أراد أن يغني للثورة في بلاده لكنه كان غريبًا عن لغته الأم، لذا كان يتجول في شوارع مدينته يشتري من الناس الكلمات التي يسمعها للمرة الأولى كأنما يضمد بهذه الكلمات نزيف غربته.

يتناص هذا المعنى مع قصيدة لكافافيس، أحد الشعراء الذين تأثر بهم أنجيلوبولوس، بعنوان «معاناة شاعر»:

جرح من طعنة سكين رهيب لا طاقة لي على احتماله. إليك أهرع أيها الشعر يا من تعرف ما يداوي قد يكون لديك من الخيال والكلمات ما يذهب آلامي.

هذا ما يفعله ألكسندر أيضًا. يشتري من الطفل ثلاث كلمات يضيء بها غربته ومنفاه الداخلي. في المرات الثلاث التي يظهر فيها سولومون يجمعه أنجيلوبولوس مع ألكسندر في نفس الكادر ورغم ما يفصلهما من الزمن يجمعهما قدر واحد، قدر الشاعر على هذه الأرض، قدر الغربة والمنفى. في المرة الأولى التي يجمعهما معًا تتحرك كاميرا أنجيلوبولوس ببطء مبتعدة عن ألكسندر الذي يحكي للطفل حكاية الشاعر الذي يشتري الكلمات لتلتقي بسولومون في الطرف الآخر للكادر، كأن أنجيلوبولوس بهذه الحركة يزرع نفسه، بينهما مثل عناق حميم كثالث الشقيقين ووارث قدرهما.

هناك سؤال معلق في فضاء أنجيلوبولوس السينمائي ينتقل من فيلم لآخر دون جواب: كم من التخوم على أن أعبر قبل أن أصل إلى وطني؟ يظهر السؤال لأول مرة في فيلمه «The Suspended Step of the Stork»، ويتكرر ثانية في فيلمه «Ulysses’ Gaze»، وهنا في «Eternity and a Day». قرب النهاية يزور ألكسندر الأم في مشفاها ليهذي أمامها في مونولوج طويل يحمل صدى سؤاله القديم: «لماذا يا أمي؟ لماذا علي أن أعيش طيلة حياتي في منفى؟ لماذا فقط أشعر أنني في بيتي حين أتحدث لغتي الخاصة؟».


عناصر اللغة الشعرية في Eternity and a Day

الفيلم يجب أن يكون قبل أي شيء آخر حدثًا شعريًا، وإلا فلن يكون له وجود. أنا لا أحاكي الواقع بل أخلق رؤيتي الخاصة، السؤال الذي أطرحه على نفسي طيلة الوقت هو كيف أستطيع أن أحول تجاربي الشخصية إلى شعر. في أفلامي ثمة إحالات إلى واقع تاريخي ومعاصر، لكني أحاول أن أعرض ذلك عبر وجهة نظر شعرية.

باختيار أنجيلوبولوس الشعر مهنة لبطله فإنه يمد بذلك أولى صلات فيلمه نحو تخوم الشعر. يفتتح أنجيلوبولوس فيلمه بلقطة طويلة تستغرق زمن التترات لمنزل على الشاطئ، حيث نسمع على شريط الصوت، صوت الأمواج وحوار طفلين عن مدينة قديمة ابتلعها البحر، وعن الزمن الذي يشبه طفلًا يلعب النرد على الشاطئ. يلي ذلك مشهد للطفل ألكسندر وهو يتسلل فجرًا من بيته ليسبح في البحر مع صديقيه على أمل أن يشاهدوا المدينة القديمة لحظة ظهورها على سطح البحر.

يقطع إلى الخادمة توقظ ألكسندر النائم في كرسيه والذي يستيقظ هاذيًا «أجد مذاق الملح، طعم البحر في فمي»، وكأن ملح البحر المحلوم به في مشهدي البداية قد تسرب إلى فم الحالم عند اليقظة إيذانًا بدخول عناصر من الحلم إلى الواقع. تتأرجح صور أنجيلوبولوس في Eternity and a Dayبين الحلم والذاكرة. يقول أنجيلوبولوس:

يتقاطع ذلك مع وجهة نظر بازوليني عن «الصورة الإشارية»، والتي تنبع من الأحلام والذكريات بوصفها خزانًا رئيسيًا للصورة الشعرية. يتخذ أنجيلوبولوس من شخصية ألكسندر ذريعة لتقديم رؤيته الخاصة للعالم، وهي رؤية شعرية في جوهرها. يحتاج أنجيلوبولوس للحالة الذهنية المسيطرة على شاعره، وهي حالة مرتبكة ومشوشة وهذيانية، من أجل حريته الأسلوبية، حيث تتلاشي الحدود بين ما هو واقعي وما هو متخيل، بين الحلم والواقع والذكريات، فضاء فيلمي مفتوح بلا حدود.

تحت الأسلوب المتولد بفعل الحالة الذهنية للشخصية الرئيسية يوجد مستوى للعالم كما يراه شاعر يحتضر. مصدر آخر من مصادر الشعر يتمثل في خطابات «آنا» (إيزابيل رينو) المكتوبة بوجدان وطموح شعري يسعى لتثبيت لحظاتها القليلة مع ألكسندر. تعمل خطابات آنا كأجنحة بيضاء تحمل ألكسندر إلى عالم ذكرياتهما معًا.


مدخل نظري جديد لقراءة شعرية أنجيلوبولوس

لدي إحساس بأننا على الدوام نغرف من خزان ذكرياتنا وأحلامنا. أعتقد أن منبع كل ما نفعله يوجد هناك.

في كتابه «شعرية السينما» يكتب المخرج التشيلياني «راؤول رويز» منتقدًا ما أسماه «نظرية الصراع المركزي The Central Conflict Theory»، والتي تشير إلى نوع من البناء الدرامي تأسس عبر السرد الهوليودي كنموذج للسرد السينمائي إذ تترتب كل عناصر القصة حول صراع مركزي، وحيث كل ما لا يغذي هذا الصراع يتم إقصاؤه من السرد. هذا النمط السردي يرغمنا على إقصاء كل القصص التي لا تفضي إلى صراع أو مجابهة، والتخلي عن كل اللحظات أو الأحداث التي لا تتطلب غير اللامبالاة أو الفضول غير المتحيز مثل منظر طبيعي، أو عاصفة بعيدة، أو عشاء مع أصدقاء. يرى رويز في هذه المشاهد الخالية من الفعل خامة الشعر السينمائي، ويري في هذه اللحظات لحظات شعرية أصيلة.

ينعدم التوتر الدرامي في مشهدية أنجيلوبولوس، فهو ينفي ما يعتبره دراميًا أو مهمًا لتطور السرد خارج الشاشة. مشاهد أنجيلوبولوس مشاهد سكونية وصامتة تدفع بالمشاهد نحو التأمل وسبر غور اللحظة وأن يجلب تداعياته الخاصة إلى فضاء الفيلم. يرى نقاد أنجيلوبولوس أن الزمن هو وسيطه الشعري، حيث تطفو شخصياته بين كوادر الزمن وعكس جاذبية السرد الذي يفتقر إلى حبكة/بؤرة درامية مركزية.

يتسلح أنجيلوبولوس ضد ما أسماه رويز «الصراع المركزي» باختيار شخصية هشة وسلبية تفتقد الإرادة وتتصف بالفضول غير المتحيز ويضعها في بؤرة فيلمه. فألكسندر يتحدث في أحد المشاهد عن جاره الذي يعتبر صلته الوحيدة بالعالم والذي يرد على الموسيقى التي يشغلها ألكسندر بذات الموسيقى. يقول ألكسندر أنه فكر مرة أن يذهب لرؤية هذا الجار لكنه لم يذهب أبعد من هذه الفكرة، وفضل أن يظل هذا الجار مجهولًا بالنسبة له.

يستخدم أنجيلوبولوس دائمًا لقطات طويلة الأمد (Long Takes) تستغرق عدة دقائق دون قطع، ويقول عن ذلك «أتيح للزمن أن يتنفس داخل لقطاتي». هذا يتيح للمشاهد أن يخلق صوره الخاصة أو تأويله الخاص لما هو معروض أمامه. متأثرًا بأوديسا هوميروس، أو مقتبسًا من جورج سفيريس (في البدء كانت الرحلة)، فكل أفلام أنجيلوبولوس تحتوي على رحلة ما.

هنا في Eternity and a Dayرحلة ألكسندر هي رحلة باطنية.بين الحلم والذكريات يتجول شاعر أنجيلوبولوس على التخوم بين الموت والحياة بصحبة ملاك صغير. تنتهي رحلة ألكسندر في مواجهة البحر هاذيًا بالكلمات الثلاث التي اشتراها من الطفل الألباني، ثم صوت الأم الذي يناديه باسمه، صوت واهن كأنما يأتيه من ضفة البحر البعيدة، أو من شاطئ الحياة الآخر.

في فيلمه «Ulysses’ Gaze»تقول إحدى شخصياته لبطل فيلمه: «في البدء خلق الله الرحلة» فيرد عليه بطل أنجيلوبولوس «ثم جاء الشك والحنين». سينما أنجيلوبولوس تكاد تكون صدى لهذا الشطر الشعري الذي يكمل به أنجيلوبولوس شطرًا آخر اقتبسه من شاعره المفضل جورج سفيريس.