إذا افترضنا أن هناك رب أسرة لديه عدد من الأبناء منهم من يعمل، ومنهم من لا يعمل (ما زال في التعليم). ومع ارتفاع ديون هذا الأب، قرر أن يُقلل حجم إنفاقه على أفراد أسرته إلى أضيق حدود، وأن يأخذ مبالغ مالية من أبنائه العاملين ليغطي النفقات والديون.

متى ينجح هذا الحل؟

ينجح هذا الحل في حالة أن أفراد الأسرة الذين يعملون يحصلون بالفعل على أجور عالية تسمح بتحمل المبالغ الكبيرة التي سيأخذها رب الأسرة، وعندما يكون عددهم أكبر من الصغار الذين لا يعملون ويحتاجون لإنفاق على الصحة والتعليم. أما إذا كان الحال العكس من ذلك، فسيكون الأجدر برب الأسرة أن يقترض لينفق في استثمار مشروع يسدد من أرباحه الديون ويرفع من مستوى دخله تدريجيًا.


مفهوم التقشف الاقتصادي

التقشف الاقتصادي يشير إلى مجموعة الإجراءات التي تتخذها الدولة لتخفيض عجز الموازنة العامة (عجز الموازنة العامة يعني ارتفاع حجم الإنفاق العام للدولة عن حجم الإيرادات العامة التي تحصل عليها)، وتنقسم إلى إجراءات تهدف إلى خفض الإنفاق العام وأخرى تُعظم الإيرادات العامة للدولة.

تشمل إجراءات تخفيض الإنفاق العام خفض فاتورة أجور موظفي الدولة، وتخفيض عددهم، وتخفيض الاستثمار العام، وتخفيض الدعم الحكومي على السلع والخدمات الأساسية. أما إجراءات تعظيم الإيرادات العامة فتشمل استحداث ضرائب جديدة، وتعديل الشرائح الضريبية الموجودة، ورفع التعريفات الجمركية، ورفع الرسوم على الخدمات العامة، وخصخصة وبيع المنشآت العامة.


دوافع التقشف الاقتصادي

يسوق مؤيدو التقشف الاقتصادي عددًا من الدوافع لاتباع سياسة التقشف، على رأسها تضييق الاقتراض العام؛ أي تخفيض الدين العام، حيث إن الحكومة تلجأ إلى الاقتراض –وبالتالي رفع نسبة الدين العام- لتوفير تمويل يغطي عجز الموازنة، وفي حال أن اتبعت الحكومة سياسة تقشفية، فذلك يعني تخفيض عجز الموازنة وبالتالي تخفيض حاجتها إلى الاقتراض العام.

ويتم الاقتراض العام إما عن طريق إصدار سندات حكومية في أسواق المال، أو عن طريق إصدار سندات دولارية، أو الحصول على قروض من مؤسسات التمويل الدولية.

أما الدافع الثاني فهو دعم التنافسية في الاقتصاد وتعزيز ثقة بيئة الأعمال، وهنا يرى مؤيدو التقشف أن انسحاب الحكومة من الاستثمار ومن طلب رؤوس الأموال من البنوك، يفسح المجال أمام شركات القطاع الخاصة، ويزيح الحكومة من مزاحمته أو منافسته في تقديم السلع والخدمات بالسوق، والاستثمار، وطلب اقتراض رؤوس الأموال من البنوك والمؤسسات التمويلية.

وبشكل مختصر يرى مؤيدو التقشف أنه يُمكَّن القطاع الخاص من قيادة النمو الاقتصادي، ويقود إلى تخفيض عجز الموازنة العامة وتخفيض الدين العام.


متى يجب اتباع التقشف؟

يبرز اتجاهان مختلفان في مسألة توقيت التقشف، الاتجاه الأول وهو اتجاه يتبناه صندوق النقد الدولي –ومن ورائه الولايات المتحدة الأمريكية التي تقدم 17% من تمويل الصندوق- والاتحاد الأوروبي بقيادة ألمانيا، والحكومات أيضًا بطبيعة الحال هي أكبر مؤيد للاتجاه التقشفي، فهو يزيح عنها عبء التمويل وينقله إلى الأفراد. ويرى هذا الاتجاه أن التوقيت المناسب للتقشف هو عند حدوث ركود اقتصادي، أو ارتفاع نسبة الدين العام إلى حدود خطرة، أو ارتفاع عجز الموازنة العامة.

أما الاتجاه الثاني وهو الاتجاه الكينزي –نسبة إلى الاقتصادي الشهير كينز مُنقذ أوروبا من أزمة الركود العالمي في ثلاثينات القرن الماضي- فيرى أن «الطفرة وليس الركود هي أنسب توقيت لتقشف المالية العامة»، بينما يرى أن علاج الركود «هو التوسع في الإنفاق العام والتيسير الكمي».

يرى كينز أنه في حالة الركود الاقتصادي، فإن الحل الأمثل هو «المزيد من الإنتاج»، ولأن القطاع الخاص لن يقدم على الاستثمار نتيجة لارتفاع عدم اليقين وضعف الثقة وضعف عرض رؤوس الأموال؛ هنا يأتي دور الحكومة بأن تضخ نفقات عامة في الاستثمار، والذي سيقود إلى إضافة أصول إنتاجية إلى الاقتصاد، وبالتالي رفع الإنتاج، بمعنى إنتاج مزيد من السلع والخدمات، وهو ما سيدفع الأفراد إلى رفع استهلاكهم، وهو ما يسمى بـ «تنشيط الطلب الكلي»، وبالتالي زيادة النمو الاقتصادي.

باختصار إن كينز يرى آلية الخروج من الركود الاقتصادي هي التوسع في الإنفاق العام، وبالتالي تنشيط الطلب الكلي وهو ما يقود النمو الاقتصادي.

ويرى كينز أنه في حالة الركود الاقتصادي لن يكون الأفراد قادرين على تحمل تداعيات التقشف الاقتصادي، حيث أن الركود يعني تراجعًا في الإنتاجية وتعثر المنشآت المنتجة، وأن التقشف سيقود إلى رفع معدلات التضخم، والبطالة، وانخفاض الأجور.

من ناحية أخرى يقود التقشف إلى تخفيض الاستهلاك العام (المتمثل في إنفاق الحكومة)، وتخفيض الاستهلاك الخاص (حيث تتراجع القدرة الشرائية للمواطنين)، ويتجه الأفراد إلى محاولة الادخار (بدافع الخوف المستقبلي)، وهنا يقول كينز:

على الجانب الآخر يرى كينز أن التقشف يكون فعالاً في حالة الطفرة الاقتصادية، بمعنى أنه في حالة الطفرة الاقتصادية، يستطيع الأفراد تحمل دفع حجم أكبر من الضرائب وتحمل تخفيض الدعم -بسبب أن الأجور مرتفعة- وهنا سوف يقود التقشف إلى وفرة في المالية العامة.

وفي هذا الصدد أظهرت دراسة نشرتها جامعة هارفارد عام بعنوان «النمو في زمن الديون» أن الدول المتقدمة التي عانت من ارتفاع عجز الموازنة العامة عقب الأزمة المالية العالمية، اتجهت إلى التوسع في الإنفاق العام والتيسير الكمي أولاً لتنشيط الطلب الكلي مرة أخرى، ولم تبدأ في التقشف إلا في العام 2010.


نتائج التقشف

يمكننا القول بشكل مختصر إن التقشف الاقتصادي قد يقود إلى نتائج إيجابية على صعيد الاقتصاد الكلي، أبرزها تخفيض عجز الموازنة العامة، وتخفيض الدين العام، وتشجيع للقطاع الخاص -الذي يتوقف على عوامل أخرى بجانب عدم مزاحمة الحكومة- بينما وعلى الجانب الآخر يقود إلى عدد من النتائج السلبية التي تؤثر بشكل مباشر وحاد على مستوى معيشة الأفراد، أهمها ما يلي:

1. ارتفاع تضخم الأسعار:

إن رفع دعم الدولة عن السلع والخدمات الأساسية يؤدي بطبيعة الحال إلى ارتفاع أسعارها، وارتفاع أسعار السلع الأخرى التي تعتمد على السلع المدعومة في تكلفتها. فرفع الدعم عن أسعار الوقود تؤدي إلى ارتفاع أسعار خدمات النقل والمواصلات، وارتفاع أسعار الكهرباء تؤدي إلى ارتفاع تكلفة المصانع وبالتالي ارتفاع أسعار منتجاتها.

2. انخفاض مستوى الأجور الحقيقية:

الأجر الحقيقي هو ناتج قسمة الأجر النقدي على مستوى التضخم، وبارتفاع التضخم يقل الأجر الحقيقي، خاصة وأن الأجر النقدي لا يرتفع بسبب الاتجاه التقشفي، وعليه فإن القدرة الشرائية للأفراد تتراجع، بمعنى قلة حجم السلع والخدمات التي يستطيع أن يشتريها الأفراد.

3. ارتفاع البطالة:

تقود الإجراءات التقشفية إلى تسريح عدد من العمالة داخل القطاع العام، في حين يقود ارتفاع تكلفة الإنتاج (الناتج عن ارتفاع الأسعار) إلى تقليل فرص التوظف داخل القطاع الخاص، لأنه لن يتحمل دفع فاتورة أجور أكبر في ظل ارتفاع تكلفة الإنتاج، وربما يحاول تقليل العمالة لديه.

4. ارتفاع اللامساواة:

أثبت عدة دراسات اقتصادية أن اجراءات التقشف الاقتصادي تضر بشكل مباشر بالطبقة الوسطى، التي لا يمكن أن تنتقل من وظائفها بسهولة، وهم الطبقة الأوسع والأكثر تحملاً، فهم النسبة الأكبر من دافعي الضرائب، في حين يزداد الفقراء فقرًا. بيد أن الحكومات في هذه الحالة تحاول تطوير برامج مالية لدعم الفقراء وتوسيع شبكات الأمان الاجتماعي.

5. تراجع الطلب الكلي:

سبق وأن أوضحنا أهمية الاستهلاك أو الطلب الكلي في دفع النمو الاقتصادي، طبقًا لنظرية كينز، وبطبيعة الحال فإن تراجع القدرة الشرائية للمواطنين بالتوازي مع انخفاض الإنفاق العام للحكومة يقودان إلى تراجع الطلب الكلي، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى الدخول في حالة من الركود الاقتصادي.


أبرز التجارب الدولية

إذا ادخرنا جميعًا معًا يختفي الاستهلاك وهو المحفز للاستثمار.

ساد الاتجاه التقشفي خلال القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، حيث اتخذته ألمانيا عقب هزيمتها في الحرب العالمية الثانية بسبب ضخامة فاتورة التعويضات التي طلبها المنتصرون (ويُذكر هنا أن كينز استقال من الحكومة البريطانية اعتراضًا على فرض ذلك على ألمانيا حيث رآه كارثة اقتصادية وجريمة)، كما اتجهت دول أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط إلى التقشف في التسعينات بضغوط مباشرة من صندوق النقد الدولي، وفور الأزمة المالية العالمية، ومع بداية أزمة اليونان فرض الاتحاد الأوروبي التقشف على عدة دول أبرزهم اليونان وأسبانيا والبرتغال وإيطاليا.

تعد التجربتان البرازيلية والتركية هما أكثر التجارب نجاحًا على مستوى الاقتصاد الكلي، والذي استمر التقشف في كل منهما حوالي ثماني سنوات، وقد اتسع حجم الناتج المحلي الإجمالي والنمو الاقتصادي وصعدتا إلى مجموعة الدولة الصاعدة، ولكن البرازيل عانت من ارتفاع اللامساوة والفقر، كما عادت للدخول في ركود اقتصادي منذ العام 2015، أما تركيا فقد أرفقت إجراءات التقشف الاقتصادي بإجراءات حاسمة في مواجهة الفساد والتحصل على أموال المتلبسين بجرائم فساد مالي، علاوة على محافظتها على دعم الطاقة والتوسع في الإنفاق على الصحة والتعليم.

أما في أوروبا فقد اتسعت الاحتجاجات الشعبية على سياسات التقشف، وعلى شروط الاتحاد الأوروبي، وهو ما قاد الأحزاب اليسارية إلى النجاح في الانتخابات، وبدوره أدى إلى نتيجتين: الأولى هي انحصار التقشف الاقتصادي والتوسع في الإنفاق العام والإنفاق الاجتماعي، وهو ما حقق نتائج إيجابية في عدة تجارب على رأسها البرتغال، والثانية هي تصاعد اتجاه انفصالي يطالب بالخروج من الاتحاد الأوروبي. وحاليًا تتجه دول الشرق الأوسط وعلى رأسهم دول شمال أفريقيا ودول الخليج إلى التقشف الاقتصادي.