هناك من آذى صديقنا، ليس فقط في وجهه،
هو يواجه وقتًا صعبًا في مسامحة الذي أذاه،
هل تعرفون ما معنى كلمة مسامحة؟…
هو قرار نتخذه لنحرر الشخص من مشاعر الغضب التي نمتلكها تجاهه.
من الصعب أحيانًا مسامحة الشخص الذي نحبه.

بعد أن دخل من الباب وخلع سترته ووضعها في قلب الخزانة، وأخرج سترة أخرى صوفية مريحة حمراء، ثم جلس ليخلع حذاءه الكلاسيكي الرسمي ويرتدي حذاءً رياضيًا مريحًا. كل هذا وهو يغني بصوته وبشكل طبيعي وتلقائي جدًا على أنغام بيانو بسيطة وظريفة. «إنه يوم جميل في الحي»ـ عرّفنا على صديقه الصحفي «لويد فوجل» الذي ميّزت وجهه كدمة يبدو أنها قوية وعنيفة، بعدها ألقى علينا المقدمة السابقة الذكر، أخبرنا عن صديقه الغاضب والذي لا يستطيع مسامحة شخص ما، هذا هو «توم هانكس» بأدائه الناعم والهادئ والعذب والنقي، قدم شخصية مقدم برامج الأطفال الأمريكي الشهير «فريد روجرز» في الفيلم الذي أنتج عام 2019 «يوم جميل في الحي». «A Beautiful Day in the neighborhood»

هل تستطيع قول بطل؟

قدم «فريد روجرز» برنامجه «حي السيد روجرز» عام 1968 واستمر حتى عام 2001، تحدث فيه عن كل شيء يخص الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة، عرض كمًا هائلاً من المعلومات، وحاول إيصال عدد من المفاهيم وترسيخ المبادئ وتعريف المشاعر، والتحدث عن كل الأحداث التي تشغل الشارع الأمريكي بطريقة يفهمها الطفل، «روجرز» تكلم عن الموت والحرب والاغتيالات والطلاق والحب والكره والغضب والحزن، لم يترك الطفل حائرًا ولا خائفًا ولا مشتتًا ولا غير مستوعب ما يحدث حوله وما الشيء الذي يتحدث عنه الراشدون، فلقد قال يومًا: «أعتقد أن مشاعر طفل صغير قوية كقوة مشاعرنا كبالغين»، وهذا ما كان يؤمن به فعلاً، كان يعامل الطفل كراشد له احترامه وكيانه وأحقية ذاته في التعلم والمعرفة.

في عام 1998 كُلّف الصحفي «توم جوند» بكتابة مقال عن أسطورة برامج الأطفال «فريد روجرز» في مجلة «اسكوير»، ولكن يبدو أن «توم جوند» لم يعجبه الأمر، ووجد أنه ليس من العدل لصحفي استقصائي مثله أن يذهب ويحاور مقدم برامج أطفال! ولكنه فعل! واستطاع «فريد» أن يوقظ «الأرنب العجوز» من رقاده.

في مقالته «هل تستطيع قول بطل» التي من المفترض أن تكون عن «فريد» لكن «توم» كتبها عن نفسه وحياته في عشرة آلاف كلمة، سرد حكاية عن دمية الأرنب العجوز التي أهدتها إليه والدته، في رحلة مثيرة في الفيلم الذي اقتبس في الأساس من هذه المقالة، نشاهد تحول الصحفي من شخص جامد الملامح والمشاعر مملوء بالغضب والكره وعدم المسامحة، إلى شخص لطيف جدًا، استطاع أن يغفر لوالده كل ما سببه له من ألم، وقد تغلب على غضبه وحوله إلى مشاعر من الحب والمغفرة والدعم والقبول.

غيّر صناع الفيلم من اسم الصحفي الحقيقي «توم جوند» إلى «لويد فوجل»، فخضنا مغامرة تحول «لويد» من شخص إلى آخر، من شخص لا يعترف بألمه ويكتم غضبه ولا يتحدث عن طفولته ولا يطلق ذكرياته خارج نفسه، إلى شخص يستطيع تذكر دميته، يستطيع التعامل مع الطفل القابع داخله.

حقيقة… هذا أصلاً ما كان يفعله السيد «روجرز» في برنامجه، كان يحترم الطفل ومشاعره ويشعره أنه الأهم والأكثر تميزًا كما هو، بكل عيوبه وأخطائه ونواقصه.

السيد روجرز الشرير

يقول «السيد روجرز»:

عندما أنظر إلى الكاميرا أفكر بشخص واحد فقط، ليس شخصًا محددًا ولكن شخص واحد، إنه أمر شخصي جدًا جدًا، فالمسافة بين شاشة التلفاز والذي يشاهد… أرضية أعتبرها شيًئا مقدسًا.. الكثير يحدث هناك.

لقد قدم الحب، الحب فقط هو ما نحتاجه، وهذا ما حاول «هانكس» أن يوصله في الفيلم، لقد كان يتعامل مع كل شخصية كأنها الأهم، كأنها البطل، كأنها الوحيدة، كان شديد الاكتراث بالجميع، شديد الاهتمام وسخيًا في المحبة، لقد أدى شخصية «فريد» ببراعة، تقمصها بشكل مذهل، تستطيع معرفة ذلك بجولة بسيطة في اليوتيوب لترى السيد «فريد» الحقيقي.

يرى «السيد روجرز» أن للطفل حقًا في الحب دون شروط، تستطيع أن ترى ذلك في أغنيته «أحبك كما أنت» فلقد قال: «الأطفال في حاجة لسماع ذلك، لا أعتقد بأن أي أحد قادر على أن يكبر ما لم يُقبل كما هو تمامًا». وأغنيته أيضًا «هذا أنت… الذي أحب».

والكثير من الأغاني والحلقات التي تخبرك أنه يحبك أنت كما أنت، وفخور بك، وأنك تستطيع فعل ما لا يستطيع الآخرون فعله.. «فأنت تجعل كل يوم يومًا مميزًا فقط لأنك أنت.. وأنا أحبك كما أنت».. حقيقة نحتاج نحن الراشدون أيضًا الاستماع لمثل هذه الكلمات، نحتاج إلى شخص يؤمن بنا كما نحن.

كلام جميل، أليس كذلك؟!

ولكن البعض رأى أن «السيد روجرز» شرير!، فهوـ على حد زعمهم يغرس في الطفل استحقاق الحب والاحترام كما هو دون أن يبذل مجهودًا لذلك، أنه أخرج إلى المجتمع الآلاف من المراهقين الأمريكيين الذين يؤمنون بأنهم مميزون وأن على الجميع تقبلهم وحبهم كما هم دون أن يعملوا لينالوا هذا الامتياز!

دانيال هو فريد وفريد هو دانيال

خاض فريد طفولة ليست بسهلة، فقد أصيب بأمراض عديدة جعلته يجلس في البيت فترات طويلة منعزلاً ووحيدًا، كما أنه تعرض لتنمر قاسٍ جعل الجميع يناديه بفريدي السمين، فكان ممتلئًا بالغضب ولكنه لم يستطع أن يعبر عن ذلك حتى لا يقولوا عنه أنه سيئ أو غير مهذب، فقام بالتحدث مع الدمى وقام بالعزف على البيانو.. ثم نضج ليصنع برنامجًا بطله الدمية «دانيال».

مفارقة أخرى أن برنامج «السيد روجرز» قد تعرض أيضًا للتنمر، فهو لطيف جدًا ونقي جدًا ومهذب جدًا مما جعله محط سخرية في البرامج التليفزيونية، ولكنه قابل ذلك بقوة وعدم اكتراث، بل الأدهى أنهم اتهموه بأنه مثلي، فمن غير الطبيعي أن يكون لطيفًا بهذا الشكل إلا إذا كان مثليًا.

في إحدى مقابلات «توم هانكس» تحدث عن موقف له في «بطرسبرج» مسقط رأس «السيد روجرز» وحيث تم تصوير الفيلم، رجل ألقى التحية عليه وما أخبار التصوير وكيف حال شخصية السيد روجرز معك، وأثناء ما كان «هانكس» يدخل المصعد وينغلق الباب، أخبره الرجل بنبرة حازمة وتحذيرية جدًا «نحن هنا نتعامل مع السيد روجرز بمنتهى الجدية».

دقيقة صمت

«السيد روجرز» كان يرى في الصمت والبطء والتمهل والتأمل معجزة، كان يريد أن يعلم ذلك للطفل المحاصر في عالم يقدم نوعًا من برامج الأطفال والرسوم المتحركة المليئة بالسرعة والقتال والمنافسة والمبارزة، ففي إحدى حلقاته حاول أن يقدم مفهوم الدقيقة… فكيف فعل ذلك؟ أحضر ساعة وشغل المؤقت فيها لينتهي عند الستين ثانية، وجلس صامتًا، وطلب من الأطفال الجلوس في منازلهم صامتين، لتمر دقيقة كاملة والجميع قد أدرك تأثير ومفهوم الوقت حقًا!

وهذا ما فعله «توم هانكس» أيضًا في فيلمه، ففي أثناء ما كان يتناول الطعام مع الصحفي الشاب محاولاً النبش عن آلامه، طلب منه أن يصمتا دقيقة كاملة، وقد كان! ستون ثانية من فيلم هوليودي مرت دون حديث أو حركة أو انفعال تكريمًا لروح «السيد روجرز»، ونظرة شخصية جدًا صادرة من «هانكس» تجاه الشخص الجالس خلف شاشة التلفاز. من الجميل أنه أثناء ما كانت هذه الثواني تمر ظهرت زوجة «روجرز» الحقيقية وهي تتناول الطعام مع بعض من أصدقائه الحقيقيين الذين عملوا معه.

«لقد كان يحب توم هانكس كثيرًا… وأظنه لكان سعيدًا لو علم أنه من قام بأداء شخصيته في الفيلم»… هذا ما قالته زوجته في إحدى المقابلات.

الفصل بين الحقيقة والخيال

يحكي «السيد روجرز» عن زيارته لمجموعة من الأطفال في حضانة لأول مرة، وكانت هناك نظرة تحديق وترقب طويلة منهم، ثم قام صبي وتحدث فجأة دون أية مقدمات: «أذن كلبي قد سقطت في آلة الغسيل».. ثم عم الصمت! يقول «روجرز»: «كما لو كان امتحانك سيد روجرز، هل ما زلتَ مرتبطًا بالطفولة؟»

فأجاب على الطفل: «أحيانًا تحدث مثل هذه الأمور للألعاب أليس كذلك؟ تُنزع آذانها، أو تُنزع أرجلها، لكن ذلك لا يحدث لنا مطلقًا، آذاننا لا تخرج من أماكنها، أنوفنا لا تخرج من أماكنها، أذرعنا لا تخرج من أماكنها». كانت عيون الصبي تتسع وتتسع فهتف وكأنه اكتشف شيئًا هامًا للتو «وأرجلنا لا تخرج من أماكنها».

في برنامجه لا تجد «السيد روجرز» في الحي التخيلي، ولا تجد أيًا من الدمى والممثلين مع «السيد روجرز» في غرفته، يفصل بشكل حازم بين الحقيقة والخيال ولا يمزج بينهما، وهذا هو الاختلاف بينه وبين العاملين في برنامج «شارع سمسم» الذي أذيع أول مرة عام 1969. وحين استضافوا «السيد روجرز» في إحدى الحلقات كان الحوار بينه وبين «الطائر الكبير» قائمًا على المفهوم الفاصل بين الحقيقة والخيال، فالأصدقاء يعتقدون أن «الطائر الكبير» يدّعي أنه قابل «السيد روجرز» وأن ذلك ليس حقيقيًا، فيسأله «السيد روجرز»: «هل تراني؟ هل تستطيع لمسي بيدك؟ هل تستطيع شمي بأنفك؟ إذن أنا حقيقي»، ثم طلب منه أن يغمض عينيه ويتخيل شيئًا ما وسأله أيضًا: «هل تستطيع رؤيته بعينيك؟ لمسه بيديك؟ شمه بأنفك؟ إذن فهو غير حقيقي».

هكذا بمنتهى البساطة شرح الفرق بين الحقيقة والخيال للأطفال الغارقين طوال الوقت في المزج بينهما.

استضاف أيضًا «السيد روجرز» «الطائر الكبير» في برنامجه، وطلب منه أن يظهر بشخصية الممثل الحقيقية، ولكنه لم يوافق، فجعله يظهر في الحي التخيلي فقط.

روجرز ورسالته التبشيرية

تخرج «السيد روجرز» من معهد اللاهوت بمرتبة الشرف عام 1962، رسمته هيئة الكنيسة المشيخية في بطرسبرج كاهنا للتلفاز عام 1963. لم يتوقف عن الظهور أمام مسؤولي الكنيسة للمحافظة على رسامته، وكانت تلك طريقة جيدة لنشر تعاليم الكنيسة المشيخية، وانضم أيضًا إلى كلية الدراسات العليا لتنمية الأطفال في جامعة بطرسبرج، فجمع بين شخصه كقس وتخصصه في علوم الأطفال فكانت رسالته المسيحية التبشيرية الوعظية ولكن دون كلمة دينية واحدة! يقول السيد روجرز: «التلفاز لديه الفرصة لبناء مجتمع كامل».

كانت نظريته اللاهوتية تتلخص في «أحب نفسك وأحب جارك»، فدعم الأفريقيين الأمريكيين بتعيينه ممثلاً أسود في دور شرطي وكان ذلك موقفًا ثوريًا لغرابة الأمر حينها.

في عام 2002 قدم له الرئيس الأمريكي «جورج بوش» وسام الحرية الرئاسي. وفي النهاية يؤمن السيد روجرز بمقولته: «ليس علي أن أعتمر قبعة مضحكة أو القفز ضمن حلقة لخلق علاقة مع الطفل».