بطرحه للكتاب غير التخييلي «33: عن الفقد والرهاب»، يواجه «مينا ناجي» تحديين أساسيين؛ الأول ثقافي-اجتماعي، ويتمثل في محاولته للتعافي، عبر البوح والكتابة، من آلام فقد الأم، ومن المعاناة مع الأجورافوبيا (رهاب الأماكن البعيدة المزدحمة غير المألوفة). يُقدِم مينا على هذه المغامرة، وهو المنتمي إلى ثقافة مصرية وعربية، ما زالت تنظر بعين الريبة للمريض النفسي، على الرغم من حدوث تطور نسبي كبير في هذا الأمر مقارنةً بمراحل تاريخية أسبق.

أمَّا التحدي الثاني فهو تحدٍ خطابي، يتعلق بتنظيم المادة الخام التي تشكَّل منها الكتاب؛ فنحن بإزاء زحام من نصوص أدبية وغير أدبية، وتحليلات نفسية واجتماعية وسياسية، والأهم أننا بإزاء تجربة قائمة على تسجيل نشاط الأصوات الداخلية بالعقل؛ هذا الركام من المشاعر والانطباعات التي تحتاج إلى تنظيم فكري وجمالي، مما يُحرِّض القارئ على أن يسأل سؤالًا مشروعًا: هل قال مينا كل شيء؟ وإذا كانت الإجابة بالقطع «لا»، فما الذي أثبته، وما الذي حذفه؟ وما الذي كان ينبغي عليه أن يثبته أو يحذفه؟ وما المبدأ التنظيمي الذي على أساسه تتحدد إجابة السؤال السابق؟

سؤال الجمالي في غير التخييلي

يأخذنا التأمل السابق في التحديات التي واجهت مينا ناجي إلى التساؤل حول الجمهور المستهدف من طرح هذا الكتاب بالسوق: على مَنْ يراهن الكاتب؟

ربما بعد عصف ذهني سريع، يمكننا التمييز بين ثلاث شرائح محتملة من الجمهور المستهدف:

  1. جمهور مينا ناجي، الذي يعرفه معرفة شخصية، ومِن ثَمَّ يهتم بالاقتراب الحميم منه بدرجة أكبر على المستوى الإنساني. لكنه جمهور محدود، لا يمكن أن يكون محل الرهان الأساسي عند طرح الكتاب.
  2. الجمهور الطامح إلى تحصيل معرفة نفسية «متخصصة» عن الرهاب، لكن في تقديري أنه سيُصاب بدرجة ما من الإحباط؛ فهذا النوع من المعرفة مطروح في جزء أصغر من الكتاب، والصورة التي يرسمها مينا لنفسه ليست صورة «مريض» بالمعنى الشائع، يمكن الإفادة إكلينيكيًّا مما «يسجِّله» من أعراض، بل صورة المثقف النخبوي الذي يتسامَى بالمشاعر التي يولِّدها المرض، ويمنحها أبعادًا جمالية وغير جمالية، تتجاوز بعدها النفسي المحدود.
  3. جمهور الكتابة الأدبية، وإن كانت غير تخييلية في هذه الحالة؛ ذلك الجمهور الذي يعرف، أو يمكن أن يعرف بيسر، أن مينا ناجي شاعر وروائي. هو جمهور أكبر، يأمل في الظفر بمتعة جمالية، وفي تحصيل معرفة شبيهة بالمعرفة التي نخرج بها بعد قراءة النصوص الأدبية: أن تعيش حيوات أخرى بخلاف حياتك، فتزداد حياتك المعيشة ثراءً بتجارب عاشها آخرون؛ أن ترى هؤلاء من الداخل بوصفهم ذواتًا لديها سردية مترابطة عن نفسها وعن العالم، تُعينك – ربما – على المزيد من فهم نفسك أنت بالأساس.

وإذا افترضت أن تحليلي للجمهور المستهدف صحيحٌ، فإني أظن – وبعض الظن إثم، وبعضه من حسن الفطن أيضًا – أن مينا ناجي يسعى إلى استثمار الإمكانية الجمالية الكامنة في التحدي حلًّا لهذا التحدي!

يستثمر مينا صيغة البوح التي تُبنى عليها المذكرات، والتي تنقل حركة الفكر الداخلي، على ما فيها من تنوع شديد على كل المستويات، قد يصل إلى الفوضى – يستثمرها في تحقيق متعة جمالية منشودة لجمهور قادم بالأساس من منطقة الأدب.

يراهن مينا جماليًّا، تحديدًا في الجزء الأول والأكبر من الكتاب (الجنة هي المكان الذي فيه ماما)، على تحقيق شيء أشبه بـ «الفُرجة» المسرحية، من خلال السعي الذي لا يتوقف لتحقيق الإدهاش، في وسط هذه الغابة من التدفق العاطفي الأسيان.

كيف يتحقق الإدهاش في «33: عن الفقد والرهاب»؟

كلمة السر دومًا هي المغايرة، أو للدقة المغايرة التي تأتي بعد اطمئنان لمسلك أسلوبي مستقر. يحدث هذا مثلًا على مستوى النوعيات اللغوية؛ فالفصحى المستعملة في الكتاب أدبية نخبوية، تجسد «اللغة العالية» بتعبير المتخصصين في علم اللغة الاجتماعي، لكننا فجأة نصطدم بالعامية المنحطة كما في النص القصير جدًّا: «شلوت الزمن في محاشم الكينونة» (ص29)، أو تفاجئنا العامية القاهرية في نسختها البين-شخصية، كما في نص أوضح وأطول يمتد عبر صفحتين تقريبًا، هو خطاب موجه للأم بتاريخ 29 يناير/كانون الثاني يفتتحه بقوله: «وحشاني يا ماما. بلا سلامات بلا بتاع إحنا من إمتى كان بينا سلامات…» (ص67).

وقد أتاحت إفادة الجزء الأول من صيغة المذكرات الفرصة لتوظيف نصوص متباينة نوعيًّا، لكنها تشترك جميعًا في القصر النسبي، فلم يكن حضور النصوص الشعرية مفاجئًا، لا سيما ومينا نفسه شاعر. وقد عزَّز التنقل المستمر بين قالبي الشعر والنثر حالة الإدهاش والفرجة المشار إليها آنفًا، مع الوضع في الاعتبار أن الشعر لم يحضر فحسب في تلك النصوص الموزعة على السطور توزيعًا غير متكافئ كما جرت العادة وفقًا لأعراف الكتابة الشعرية، بل حضر، بدرجة أعلى من الإدهاش أحيانًا، في تلك النصوص السردية التي تستعير من الشعر لغته المفارِقة، كما في قوله على سبيل المثال: «وكلما جاءت فكرة موتها، أو هدَّدت هي به، أغضب بشدة وأخفي توتري، وأشير على نفسي بأنها بصحة جيدة، وستعيش أعوامًا مقبلة، أعوامًا لن تحدث الآن قط»، حيث الربط الإسنادي غير المألوف بين «الأعوام» و«تحدث».

غير أن الصيغة الأبرز لحضور الشعر في النثر كان في تلك النصوص المبنية على مفارقة أشبه بما يُطلق عليه الشعراء عادةً، تأسيًا بفنون الطرب «القفلة الحرَّاقة»؛ تلك المفارقات التي لا يمكن ردها إلى عالم واقعي محتمل، ولا يمكن استيعابها جماليًّا إلا بأن تحيل اللغة على ذاتها.

يكتب مينا: «خاطرة: آخذ الفيتامينات والمكملات الغذائية لأتعذب بشكل أفضل» (ص43). واللعبة الجمالية التي يتقنها مينا ناجي هي أن تأتي هذه المفارقات في نهاية النصوص بعد أن تعزَّزت حالة الاطمئنان لدى القارئ للغة نثرية تحليلية تحيل على العالم. في نهاية نص يحمل تاريخ الجمعة 3 إبريل، يتأمل فيه مينا في علاقته بالأم كمُخلِّص نجح في إنقاذها يومًا من حريق، مُتغلبًا على هواجس عجزه المحتمل نتيجة لتمكن الفزع، نقرأ: «اليوم مرت سبعة أشهر على رحيل ماما، والأغرب أني لست قلقًا عليها من الوباء، ولا نجلس نتعارك من الزهق» (ص 80).

وبصفته روائيًّا متمرسًا، يُجيد مينا لعبة التبديل بين الأصوات السردية، ليس بهدف الإدهاش المقصود لذاته، بل بالتوازي الدال جماليًّا مع تنوع في المناظير التي يرصد منها تجربة الفقد، وهو تنويع يتناغم بدوره مع تباين المراحل عبر رحلة التعافي؛ فبينما يسيطر السارد المتأمل الذي يصف انطباعاته حول الحدث، مستخدمًا ضمير المتكلم (الغنائي حينًا، والموضوعي حينًا)، تنزاح لغة السرد قليلًا، ويصعد ضمير جماعة المتكلمين على خشبة المسرح واقفًا في مقام الحكمة: «لأننا حين نفقد شخصًا، نفقد معه النظرة التي ينظر بها إلينا، أي الموقع الذي ينظر منه إلينا ويحدد موقعنا» (ص63).

لكن في الصفحة التالية مباشرةً يحضر صوت السارد بضمير الغائب راويًا عن آخر لا نعرفه: «حال تهشَّمت منه مرآة الحمام …» صحيح أن السرد يعود في نهاية النص إلى الذات الغنائية المركزية لتحتل بؤرة المشهد مجددًا: «أرأيتَ؟ مجرد زجاج لعين متناثر …» (ص64)، لكن بعد أن يكون تيار السرد قد تحقق فيه التوازن المطلوب بين التعبير الصادق عن الألم الإنساني من ناحية، والرغبة في تحقيق الإمتاع الجمالي من ناحية أخرى.

كما تقدَّم، ليست المغايرة تجسيدًا لولع بألعاب شكلية، بقدر ما تنسجم ومغايرة في العمق على مستوى المنظور السردي؛ بين زوايا نظر متعددة لحادث مركزي، هو فقد الأم. فهو تارة اختيار محض من الأم: أن تموت صحيحة قبل أن تموت مهترئة أو عبئًا على الآخرين، وتارة أخرى يغدو الفقد نتيجة لخطأ شخص ما: الأخت التي أثقلت كاهل الأم بمشاكلها، أو خطأ مينا نفسه لأنه لم يكن أكثر حسمًا معها في الاهتمام بشئونها الصحية. لكن ليس بوسع القارئ أن يصل إلى رأي قاطع في علة الفقد، ولا يُراد له أن يصل إلى هكذا رأي؛ لأن المقصد الأسمى – فيما أتصور – هو امتلاك بصيرة متسامحة مع هذه التقلبات، التي يمكن لنا جميعًا أن نمر بها في هكذا أحوال.

محاولة اقتناص إيقاع

يغري التعريف بالسلب الناظر في النص الأدبي بالتحرر من أي نزعة شكلانية؛ فعندما نصف كتابًا ما بأنه غير تخييلي فإن هذا التوصيف قد يمنحنا قدرًا من الترفع عن – أو، للدقة، الراحة من – أي محاولة للوصف النوعي؛ فالكتابة غير التخييلية يمكن أن تكون ببساطة الكتابة الخالية من التخييل. لكن هذه الراحة، كأي راحة أخرى، لا تدوم؛ لأن تعذر التوصيف النوعي لا يعني الافتقار لشعرية النوع، لذلك النزوع لخلق شكل ما، أو تشكلات ما، حتى لو حدث ذلك، في كل حالة، ولدى كل كاتب، بطريقة مخصوصة. أظن أن الكتاب ينطوي على محاولة لخلق إيقاع ما؛ لاتباع خطة تنظيمية ما (أكتب هذا بكثير من التبسيط المخل والحذر معًا).

ينقسم الجزء الأول إلى فصلين يتساويان تقريبًا في عدد الصفحات، يغطي أولهما فترة أقصر (شهرين)، ويغطي الثاني فترة أطول بكثير (10 أشهر). تجتاح الفصل الأول نبرة انفعالية عالية، تتجلى في مقاطع قصيرة، تعكس حضورًا مركزيًّا للأنا الغنائية، حيث حضور قوي للشعر، سواء كتشكيل بصري، أو كتشكيل لغوي جوهره المفارقة في نصوص نثرية قصيرة، وتتسلل إلى نهاية هذا الفصل نبرة سردية تحليلية، تهتم نوعًا ما بالتفاصيل.

تبدأ هذه النبرة التحليلية المهتمة بالتفاصيل في الحضور بدرجة أكبر نسبيًّا في الفصل الثاني، ويتوارى مينا وتواجده كموضوع للسرد، ويبدأ في الحضور كسارد متأمل عن «ماما»، ليس باعتبارها موضوعًا للفقد، بل باعتبارها ذاتًا بالمعنى الروائي؛ باعتبارها ملامح شخصية ونفسية متمايزة عن غيرها، نراها في صورتين فوتوغرافيتين، وفي حضور أوضح في الأحلام. لا يعني ذلك أن الشعر يختفي في الفصل الثاني، لكن حضوره يقل نسبيًّا لصالح «نثرية» أوضح، تهيمن بالكامل في الجزء الثاني (الأجورافوبيا والكتابة)، حيث يتجاوز التحليل المتأمل ساحة الأنا الفردية ليشمل السياسي والاجتماعي والطائفي، وتظهر الأنا الغنائية على استحياء، وقد أتمت – أو كادت – رحلة التعافي.

وربما يكون الانتقال من الجزء الأول إلى الثاني مبتورًا، وربما كان الأمر يستحق قدرًا من التمهيد، لا بمعنى تقديم توطئة شارحة للجزء الثاني كما حدث في التمهيد (المفارِق تمامًا لغة ووعيًا في رأيي، لكن هل ثمة بأس في هذا؟!) بل بمعنى خلق ما يشبه المعبر الخطابي بين الجزأين، شيء أشبه بالفترة الانتقالية في عالم السياسة، يمهد لحضور الأخير في تجربة القراءة بدرجة أكبر من السلاسة الفكرية والتعبيرية.

لو لم نتعلم من هذا الكتاب سوى أنه لا خلاص إلا بالخلاص من مفهوم الخلاص نفسه لكفانا ذلك؛ الخلاص من الخلاص المسيحي بصيغته الأنطولوجية؛ حلًّا نهائيًّا أخيرًا مُنتظرًا، يعود بالوجود إلى نقطة الصفر، ويضفي على آلامنا مغزى. يُعلِّمنا مينا أنه لا خلاص إلا بالتحديق في الكارثة، بأعين مفتوحة، وبقلوب شجاعة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.