يجلس ناقد غاضب يرثي زمن الفن الجميل، ويأسى لحال الفن اليوم. أمامه يجلس مغنٍّ شعبي لا يفهم كثيرًا انفعال خصمه ولا يفهم أصلا سبب الخصومة. لا يعبأ المضيف كثيرًا بما يقوله الضيفان، ربما لأن الضيفين لا يقولان ما يمكن أن يعبأ به، لكنه على كل حال مشغول بطرافة المشهد وإثارته.

مشهد تكرر على شاشة القنوات العربية كثيرًا في السنوات الأخيرة التي ظهرت فيها أنماط جديدة في مجالات الفن المختلفة كموسيقى المهرجانات، أثارت الجدل وأعادت طرح السؤال الذي لا ينتهي حول المعيار الذي يمكننا من خلاله التمييز بين ما هو فن وما ليس بفن؟ وهل هنالك فن راقٍ وآخر شعبي؟ وما قيمة الفن؟ هل الرسالة التي يحملها، أم قيمته في جماليته بحد ذاتها؟ أسئلة لم يتوقف البشر عن طرحها يومًا ولم يمل الفلاسفة من تكرار محاولة الجواب عنها.


فنون جميلة وأخرى قبيحة

لنأخذ مثلاً موسيقى المهرجانات. واحد من أشهر الانتقادات التي توجّه إلى موسيقى المهرجانات من قِبَل معارضيها هو افتقارها الذوق الموسيقي السليم، ويدعم هؤلاء وجهات نظرهم باستحضار أنماط الموسيقى والأغاني الكلاسيكية، وأسماء فنانين بعينهم كالسيدة أم كلثوم وعبد الوهاب، ثم تبدأ عملية قياس أغاني المهرجانات على تلك الأنماط الكلاسيكية من الموسيقى، وإبراز الاختلافات العميقة بين ألحان الطرب الشرقي والكلمات المنتقاة بعناية، وتلك الألحان الصاخبة السريعة والكلمات السوقية السهلة التي أحيانًا تكون بلا معنى واضح.

في كتابه الشهير «رسالة في الطبيعة البشرية»، حاول الفيلسوف الإسكتلندي هيوم البحث عن معيار الذائقة، ومن أجل التوصل إلى ذلك المعيار، يبحث هيوم عن ماهية «الجميل»، فيقول هيوم إن الجميل ليس خاصية مباشرة للموضوعات يمكن التعرف عليها بمجرد التعرف على حيثيات الموضوع، وذلك لأن الحكم المتعلق بالجمال يعود إلى دوافع عاطفية شعورية أكثر منها أساسات عقلية.

بعبارة أخرى، إن الإنسان يقوم بالحكم على شيء ما بالجميل لقدرة ذلك الشيء على إحداث لذة وسعادة وسرور عندما يستقبله، ويتوقع أن تنتقل تلك اللذة للآخرين عند استقبالهم لنفس الموضوع، فيتأتى نتيجة لذلك الحكم بالجمال.

في المقابل، يرفض الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في كتابه «نقد ملكة الحكم» الإقرار بأن معيار الذائقة هو مجرد معيار مبني على استحسان فردي. يُرجع كانط الحكم بالجمال إلى أكثر من مجرد التجربة الحسية التي يشعر من خلالها مُستقبِل الفن باللذة، فيقول إن جميع البشر يشتركون في الملكات الذهنية نفسها التي تبدأ من ملكة المخيلة التي تعطي للعقل الأفكار، وملكة الفهم التي تحاول التنسيق بين تلك الأفكار. من خلال الملكة الأولى، وهي ملكة المخيلة، يتسنى للإنسان أن يختبر اللذة قبل أن يجربها بشكل فعلي من خلال الفن. لذلك يفترض كانط أنه يجب أيضًا على الفن أن يجتاز اختبار الذائقة التي يتفق عليها عامة البشر، حتى يصل إلى وصفه بـ «الجميل».

بحسب الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو، فإن التذوق الفني له تضمينات سياسية واجتماعية بشكل مباشر. فاستنادًا إلى استطلاعات أُجريت في فرنسا في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين[1]، استنتج بورديو أن الذائقة الفنية ليست تفضيلات شخصية فقط تنشأ بشكل مستقل وبمعزل عن مكانة الفرد داخل مجتمعه؛ لكنها مرتبطة بشكل كبير بالطبقة التي ينتمي إليها الفرد. فالذوق الفني البرجوازي يتم تلقينه للإنسان في مرحلة الطفولة وليست هبة طبيعية كما يظن البرجوازيون، وكذلك الفن الشعبي هو وليد بيئته وثقافته.

بورتريه لعالم الاجتماع الفرنسي «بيير بورديو»، رسمه «تييري إيرمان»

لاحظ بورديو أيضًا أنه يمكن التفريق بسهولة بين الطبقات من خلال الفن الذي تفضله كل طبقة، فبينما تفضّل الطبقة العاملة الفن الذي يركّز أكثر على المضمون، تستحسن الطبقة البرجوازية الفنون التي تبرز الشكل. ومن هنا يقول بروديو إن الفن يصبح ليس مجرد وسيلة للتعبير بل ينتقل إلى أداة للسيطرة، فالطبقة العليا تحرم الطبقات الأخرى من أدوات صناعة الذوق الرفيع لتبقى هي من يُنتج الفنون بما يتلاءم مع نمط حياتها[2].


هل هناك شيء اسمه «الفن الهادف»؟

من الانتقادات التي توجّه إلى الفنون التجارية أنها لا تقدم مضمونًا هادفًا ولا تحمل رسالة إلى المشاهد أو المجتمع، وأحيانًا تذهب الانتقادات بعيدًا حد اتهام أعمال فنية بنشر قيم هدّامة والدعوة إلى الفجور، وهذا في نظر المنتقدين يحيل بين العمل وبين وصفه بـ «الفني».

يؤيد الأديب الروسي الكبير ليف تولستوي في كتابه «ما هو الفن؟» ذلك الاتجاه، فيقول تولستوي إن من العوامل الأساسية لتقييم الفن ما يتضمنه العمل من معايير أخلاقية ودينية. إن المعيار الأخلاقي هو ضرورة لقيمة الفن عند تولستوي، حيث يزعم أن الفن الجيد يحمل النماذج والقيم الدينية والأخلاقية للعصر والمجتمع الذي ينشأ فيه.

الأديب الروسي ليو تولستوي

على النقيض من ذلك، يقول الناقد الفني البريطاني الشهير كلايف بيل، وهو أحد أرباب المدرسة الشكلانية[3]، في كتابه «الفن»، إنه لا يوجد معيار للحكم على قيمة الفن سوى الشكل فقط، أي جودة العمل الفني بناءً على المعايير المتعارف عليها لنوعية الفن والقابلة للتقييم الفني دون الرجوع إلى مضمون العمل من النواحي الأخلاقية. ويؤيد أيضًا الروائي الإنجليزي أوسكار وايلد وجهة النظر تلك بقوله:

يتفق الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل مع تلك الرؤية ولكن من منطلقٍ مختلف، وربما من واقع رؤية أعمق. ففي كتابه «في الحرية»، يدافع ميل عن حرية التعبير في الفن دون التقيد بمعايير أخلاقية محددة، ولكن ليس من منطلق الدفاع عن حرية الرأي والتعبير.

إن ميل يقيم حجته هنا على مبدأ «المنفعة العامة»، فيرى أن السماح بوجود تلك الأشكال من الفن التي قد تتنافى مع ما هو متفق عليه في مجتمع ما من معايير أخلاقية هو في الواقع أكثر إفادة للمجتمع من الرقابة على الفن وحصره داخل أنماط معينة.

فبحسب ميل، إن المعرفة الحقيقية لا تأتي من خلال اعتناق الفكرة بشكل عقائدي، ولكن من خلال إعادة النظر في الأفكار التي يعتقد فيها الإنسان، وإعادة النظر تلك لا تأتي إلا من خلال التعرف على أفكار نقيضة، ومن هنا تبدأ عملية التوصل إلى المعرفة الحقيقية.


قيمة الفن

لا يوجد شيء من قبيل الكتاب الأخلاقي أو اللا أخلاقي، فالكتب إما جيدة الكتابة أو سيئة، هذا كل ما في الأمر.

يخبرنا التقليد الفلسفي عن محاولات كثيرة من أجل الإجابة عن ذلك السؤال: ما قيمة الفن؟ رأى أفلاطون أن قيمة الفن تكمن في كونه مصدرًا للمتعة، أما أرسطو فقد عمل على تطوير تلك الرؤية من خلال نظرية «التطهير»، فالفن يطهّر المتلقي من خلال التنفيس عن المشاعر السلبية[4]. في الفلسفة الإنجليزية، تكمن قيمة الفن في «المنفعة العامة» التي تعود على المجتمع منه.

ولكن تظل الرؤية الأكثر ديناميكية واتساقًا مع واقعنا المعاصر هي للفيلسوف الألماني فريدريك هيجل، حيث يرى هيجل أن قيمة الفن لا تتوقف عند مفاهيم الذائقة والحكم الجمالي والاستحسان الفردي بل تتجاوز ذلك وتصل إلى القيم الثقافية، حيث إن الفن عند هيجل هو أُقنوم من الثالوث الذي يمثل روح المعرفة الإنسانية المطلقة برفقة الدين والفلسفة. ولأن الفن يتغير مع تغير النطاق الجغرافي والحقبة التاريخية فإنه لا يمكن أن نفهم الفن بمعزل عن تلك المعطيات، فالفن بحسب هيجل لا يمكن فهمه إلا في إطار سياقاته التاريخية التي يحمل منها روح ثقافتها وخلاصة معرفتها.

وبحسب هيجل، فإن الفن يخبرنا عن طبيعة ثقافة مجتمع ما بشكل ربما أكثر دقة مما يمكن التحصل عليه من خلال كتاب أو صحيفة، فطبيعة الفن التجريدية تزيل تلك الحواجز التي ربما تكون عائقًا أمام محاولات التعبير ونقل أشكال الثقافة[5].

بعد الفيلسوف الألماني كارل ماركس وظهور النقد الماركسي، ارتبط الفن بواقعه الاجتماعي وأسبابه الطبقية بشكل كبير. من أبرز هؤلاء النقاد الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو، فعلى خلاف المقولة الشائعة للماركسية الكلاسيكية التي تقول إن البنية الفوقية للمجتمع أو الأيديولوجيا التي تحوي الفن والفلسفة تعكس البنية التحتية أو القاعدة الاقتصادية للمجتمع دون أن تؤثر فيها.

يرى أدورنو أن البنية الفوقية تؤثر على البنية التحتية بشكل أساسي، وهنا تكمن قيمة الفن. فبحسب أدورنو، ليست قيمة الفن في طاقته التعبيرية أو في نقل التجربة الجمالية، ولكن قيمته الحقيقية هي في الدور الأداتي الذي يلعبه الفن في الارتقاء بوعي المتلقي وجعله على دراية بظروفه السياسية والاجتماعية.

وعلى الرغم من ذلك، يرى أدورنو أنه حتى يتسنى للفن أن يقوم بدوره، عليه أن يكون على مسافة من الساحة العملية، فلا يرجح أدورنو الفن السياسي المؤدلج الذي يدعم رؤية سياسية بعينها، لأنه من خلال ذلك الإعلان عن توجه العمل الفني يصبح الفن مجرد أداة سياسية دعائية ويفقد قدرته على أداء دوره الاجتماعي الحقيقي. وفي ضوء ذلك، يشن أدورنو هجومًا على الفن الشعبي، فيرى أن الفن الشعبي ليس محايدًا على المستوى السياسي، فهو مؤدلج ويظهر على الساحة بصفته سلعة تقلل قدراتنا النقدية وتفقر شعورنا تجاه وضعنا السياسي والاجتماعي[6].

على النقيض من ذلك، يرى الفيلسوف الألماني والتر بنيامين أن الفن الشعبي يحمل قوة مُحررة في داخله، فمن خلال ابتعاد الفن الشعبي عن فنون الطبقة البرجوازية يتسنى له أن يتحرر من التقليد التبجيلي لثقافتهم وبالفنون التي يفضلونها، فيستطيع الحصول على المسافة المناسبة التي تسمح له بنقد تلك التصورات الثقافية[7].

والتر بنيامين (يمين)، وتيودور أدورنو

بالعودة إلى واقعنا المعاصر، يمكننا أن نلاحظ ظلال تلك السياقات على الواقع الآنيّ، موسيقى المهرجانات ولدت من رحم الطبقات الأشد فقرًا في المجتمع المصري التي هي بالضرورة الأعلى أمية والأقل ثقافة؛ تلك الطبقات التي وجدت أن فن الطبقة الوسطى الذي يعبّر عن الحب والسعادة والحياة الرغدة لم يعد يعبر عن واقعهم، فكانت النتيجة هي خلق نموذجهم الخاص من الفن الذي يمثل معاناتهم كطبقة تعاني من التهميش المجتمعي والمؤسسي، ويعبر عن واقعهم الذي يتجلى في الصراع من أجل لقمة العيش والصمود أمام نوائب الدهر.

لا يمكننا أيضًا أن نغفل الدور الذي لعبته تلك الأغاني من أجل السيطرة على تلك الطبقة الاجتماعية كما يخبرنا بيير بورديو، فمن خلال حرمان تلك الطبقة الشعبية من ذائقة الطبقة البرجوزاية في الفن، أصبح بمقدورهم حرمان تلك الطبقة أيضًا من الذائقة في الأمور السياسية والاجتماعية التي تحدد اختياراتهم ومن ثم نمط حياتهم بشكل عام.

ومن هنا يصبح ذلك النمط من الأغنيات ليس مُنتجًا بإرادة الطبقة الشعبية فقط، بل تشتبك في عملية إنتاجه الطبقة البرجوازية أيضًا بسبب الدور الذي يلعبه ذلك النمط من الأغاني في خدمة مصالح تلك الطبقة.

المراجع
  1. تايجر س. روهولت: المفاهيم الأساسية في فلسفة الفن
  2. المصدر السابق
  3. المدرسة الشكلانية هي مدرسة في النقد الفني معنية بتقييم العمل الفني على أساس شكله وصورته الخارجية فقط، دون الرجوع إلى ما يتضمنه من معاني وقيمته الأدبية وسياقاته التاريخية والاجتماعية.
  4. يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2018.
  5. يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2018.
  6. تايجر س. روهولت: مصدر سابق
  7. والتر بنيامين: العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تقنيا