شنت يعقوب، أقصى الشمال الغربي لإسبانيا، صيف ٣٨٧هـ.. على صهوة جواده المزين كالعروس ليلة الحناء، أخذ المنصور بن أبي عامر، ينظر في كبرياء إلى طابور ممتد من الأسرى الإسبان، يسوقهم جنوده عبر أبواب مدينة الإسبان المقدسة التي وطأتها خيله، لأول مرة منذ الوجود الإسلامي بالأندلس قبل 300 عام. كان الأسرى يحملون التحف النادرة التي اصطفاها المنتصرون من الكنيسة العظمى بشنت يعقوب، ومن العمائر الضخمة التي ازدانت بها العاصمة الدينية لإسبانيا النصرانية. سرت أخبار الغزوة كالصاعقة في أعصاب أوروبا المسيحية. فهي المرة الأولى التي يقتحم فيها جيشٌ إسلامي، الشمالَ الإسباني القصيّ. عادت هواجس فناء الوجود المسيحي بالجزيرة، منذرة باقي القارة بأن أيام احتلال المسلمين جنوبَ فرنسا التي انقطعت بهزيمتهم الشهيرة في بلاط الشهداء 114هـ = 732 م، قد تتصل مجددًا.

لم يتصور أحد – لا في أروع أحلام النصاري، ولا في أفجع كوابيس المسلمين – أن منحنى الأندلس الصاعد للذروة، ستخطفهُ طيورُ الاستبداد، وتهوي به ريح الفتنة العارمة في مكانٍ سحيق بعد ١٢ عامًا فقط.


بين الناصر والمنصور

لم تنقطعْ الحروب بين نصارى الشمال ومسلمي وسط وجنوب الأندلس منذ الفتح، خاصة بعد قيام دولة أندلسية مركزية قوية عام 138هـ، بزعامة صقر قريش عبد الرحمن الداخل. ورغم قوة دولة الأمويين الأندلسية، تحسَّن وضع النصارى، وسيطرتهم على أراضي الشمال تدريجيًا، نتيجة لتكرر صراعات السلطة، ولركون الأندلسيين كثيرًا إلى الدَّعَة في ظلال الأندلس الوارفة.

إلا أن القرن الرابع الهجري كان الأشد وطأة على دويلات الشمال النصرانية. فقد نجح عبد الرحمن الناصر الأموي 300-350هـ في لمّ شَعَث الدولة التي عصفت بها الصراعات السياسية والحروب الأهلية 60 عامًا قبله. وانصرف بعدها إلى العمران وتحصين الثغور، ودفع جيوشه إلى الشمال مرغِمًا دويلاته على قبول السلام بشروطه.

بلغت الأندلس الذروة في عهد الناصر، حضاريًا واقتصاديًا وثقافيًا. فدعا لنفسه برسم الخلافة، مستغلًا التردي الصارخ لخلافة العباسيين المشرقية التي سحقت دولة أجداده الأمويين. واستمرت الأندلس على نفس المنوال في عهد الحكم بن الناصر ٣٥٠-٣٦٦هـ، وأضاف إليها – بشغفه بالعلم – المكتبة الأموية الشهيرة التي ضمت مئات آلاف المخطوطات.

لكن دائمًا ما يكون للتوريث رأي آخر في منعطفات التاريخ. تقف الأمة عاجزة ومترقبة أمام المائدة الخضراء، وهو حجر النرد. فإن منحها ما تريد مرة، يصعُب أن يلحقها بثانية، فمابالك بثالثة أو رابعة! كان طالع الأندلس حسَنًا بين عبد الله جد الناصر وخليفته، ثم بين الناصر والمستنصر، ثم كان له رأي آخر بين المستنصر وولي عهده الطفل هشام المؤيد.

فقد برزت المطامع الكامنة لمراكز القوى التي قبضت على خيوطهم يد الناصر والمستنصر القوية. واندفع الجميع في صراعٍ محموم على الفراغ حول الخليفة الطفل (بسط د.عبد الله عنان في موسوعته الفريدة عن تاريخ الأندلس، دقائق هذا الصراع ابتداء من صـ ٥١٧ بكتاب الخلافة الأموية والدولة العامرية).

سدد الضربةَ الأولى الفتيان الصقالبة، وهم العبيد الأوروبيين الذين استكثر منهم الناصر – جريًا على سنة الداخل – في حرسه الخاص، لضمانه ولائهم، بدلًا من أصحاب العصبيات العربية أو البربرية ومطامعهم. واعتُبروا زينة الدولة، وعنوان فخامتها. كان الصقالبة يعرفون نقمة الكثيرين من صعودهم السريع وثرائهم الفاحش وتطاول بعضهم على العامة وبعض الخاصة، فحاولوا صرف الخلافة إلى المغيرة أخي الحكم ليحكموا من خلاله. فأغلقوا أبواب القصر على الحكم الميت، واستدعوا المغيرة للبيعة.

أعلم الفتيان الحاجبَ المصحفي شيخ الموالي،بما دبَّروا. تظاهر بموافقتهم، ثم دبر مع حلفائه تحركًا مضادًا في نفس الليلة، وقتلوا المغيرة في بيته! ثم دخلوا القصر، وبايعوا هشامًا.ضيّق الحزب المنتصر على الصقالبة، ونكبوهم بعد أشهر. وبرزت شخصية استثنائية هو محمد بن أبي عامر، الذي قاد عملية المغيرة. وكان الحكم اعترافًا بمواهبه المتعددة، قد ولاه نصف الوزارات تقريبًا ! .. وأخطرها الشرطة العليا، وصك العملة.

أوسع ابن أبي عامر الصقالبةَ قتلًا وسجنًا وتشريدًا بمحاكماتٍ استثنائية عاجلة لقادتهم، اتهمتهم بمحاولة الانقلاب، وبالاستيلاء على أموال الدولة والرعية. ثم استصفى بعضهم لخدمته، ليتقوى بهم في قادم الأيام. تألق نجم ابن أبي عامر على حساب المصحفي البخيل المتردد.

وكان في صف ابن أبي عامر الجارية صُبح أم الخليفة الصغير، وكان الناظر على أموالها وابنها منذ عهد الحكم. أطال المؤرخون كثيرًا في وصف قصة حب بينهما. توسّطت صبح لرجلها لدى قائد جيش الثغور غالب الناصري ليزوجه ابنته. وكان غالب ينافس المصحفي على رياسة الموالي. أضاف ابن أبي عامر لرصيده لدى العامة عندما قاد الجيش ليصد غارات النصاري التي استغلت الاضطراب، ووصلت أحواز قرطبة – جنوب الأندلس – تسبي وتقتل. واستغل الرجل انتصاراته المدوية، فعزل ابن المصحفي من ولاية قرطبة، ثم نكب أباه وقومَه بعد فترة وجيزة، وسط تأييد الكثيرين من العامة والخاصة، وتولى الحجابة والوصاية.


الزهراء والزاهرة

تمثال الحاجب المنصور في قلعة النسور، الأندلس

أراد الناصر عنوانًا لمجد عصره، فكانت الزهراء. استمرّ إنشاء مدينته الملكية سنواتٍ، لتضمَّ قصوره، وحشمه، وخدمه، ودواوين الحكم. فجاءت آية في البذخ والنظام، وحُقَّ لقرطبة أن تتيهَ بها على الدنيا.لم يدُر بخَلَدِ أحدٍ أن تتوارى الزهراء سريعًا خلف حُجُب التاريخ بعد نصف قرنٍ. سيكون ذلك على يد الكاتب الطموح الجالس على بوابتها يُدَبِّج الكتب البليغة لأصحاب الحاجات، لقاء دنانيرَ يتقوى بها على نفقات طلبه للعلم في جامع قرطبة…. كان الكاتب هو محمد بن أبي عامر، ونعود إليه الآن وقد أصبح الحاجب المنصور .. حاكم الأندلس الفعلي.

باسم الحفاظ على حياة الخليفة من المؤامرات، حجبَهُ المنصور في الزهراء، ثم أبعده تدريجيًا عن شئون الحكم، فتفاقمت الوحشة بينه وبين أم الخليفة، فبدأت تُؤلب عليه من بقي من رجال الدولة الأقوياء، غضبًا لخليفتهم منزوع الصلاحيات لأول مرة في تاريخ الأندلس.

أطاح الرجل بخصومه بلا رحمة. فبدأ بصهره غالب الناصري، ثم ابن حمدون قائد الفرسان المغاربة الذين أعانوا المنصور ضد الصقالبة والمصحفيين والناصري! ثم صادر أموال الخليفة وأمه، وأحكمَ عزلهما بالزهراء، وأجبر هشامًا أن يعلن تنازله عن صلاحياته له، ليتفرغ للعبادة!

أصبحت الزهراء التي كانت محط الأنظار، وقبلة سفراء العالم، متنزهًا لجواري الخليفة! فعلى هامش الصراع – بل في قلبه – كان المنصور يختطُّ لزمنه عاصمةً إدارية جديدة خارج قرطبة، على طراز الزهراء، ونقل إلبها دواوين الحكم، وأنشأ بها قصورًا باذخة، وأسماها الزاهرة، لتناطح غريمتها اسمًا ورسمًا. أنجزت الزاهرة في عامين، وانتقل المنصور إليها ٣٧٠هـ بعد إحاطتها بسورٍ حصين. ورُتِّب لحراستها مئات من خاصة الجند المغاربة ومرتزقة النصارى، والصقالبة الموثوق بهم.

تنافس رجال العهد الجديد وأثرياء الناس ثم أواسطهم، على امتلاك البساتين والقصور في الزاهرة وجوارها، حتى اتصلت ضواحيها بضواحي قرطبة. ومن العجائب – كما يذكر د. عنان صـ ٥٣٥ – اختلاف الباحثين في تفاصيل موقع الزاهرة. إذ لم تعثر الأبحاث الأثرية على أطلالها بعكس الزهراء. وكأنها مُحيَت من وجه الأرض محوًا.


لكل شيءٍ إذا ما تمَّ .. شنجول!

يا زاهرة الحُسن، لقد حَسُنَ مرآك، وعبُقَ ثراك، وراق منظرك، وفاق مخبرُك .. فياليتْ شعري من الذي يهدمك!
خاطرة للمنصور بن أبي عامر أسرََها لبعض خاصته (المراكشي، البيان المغرب، 3/ـ65)

فرض المنصور كلمته على الأندلس والمغرب من قلب زاهرته ٢٢ عامًا، وكالت جيوشه الضربات لدويلات الشمال، وحظيت دولته بما لم تحظَ به دولة أندلسيةٌ من أنصبة الجغرافيا والجيوش والعمران، لكنه كان طاغيةً مستبدًا، تعدّ شرطته على الناس أنفاسهم، ويعتبر كل شخصٍ قوي مشروعَ متمرد لابد من القضاء عليه. فكانت هذه بذور الكارثة اللاحقة.

تسلطن عبد الملك بعد وفاة أبيه المنصور ٣٩٢هـ، وأبقى على توازنات والده، فلم يتلقب بالخلافة، وتركها لهشام المؤيد، وقبض على المقاليد بقوة، وحاول مواصلة ما بدأه أبوه عمرانًا وغزوًا، فنجح في ملء فراغ المنصور نسبيًا. ومات عبد الملك فجأة ٣٩٩هـ، وخلَفَه طبقًا لوصية أبيهما، أخوه عبد الرحمن الملقب بشنجول – تعريب اسم سانشو الإسباني، إذ كان يشبه أمه الإسبانية – الذي حامت حوله الشبهات في وفاة أخيه المفاجئة.

وهكذا عاد حجر نرد التوريث ليضرب الأندلس مجددًا، لكن بالقاضية هذه المرة. كان شنجول لا يمتلك من مزايا أبيه سوى الطموح. لكنه كان طماعًا أهوج بلا مقدرة.بعد أسابيع قليلة من حجابته، أرغم شنجول هشامَ المؤيد على تنصيبه وليًا للعهد بعده. وكانت تلك هي القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة للأندلسيين. فلقرنين ونصف، لم يعرف الناس قيادة شرعية سوى الأمويين، وكانوا يحترمون كونهم من قريش، وإنجازاتهم، خاصة الداخل والناصر والحكم.

قبِل الناس انقلاب المنصور رغبًا ورهبًا، لقوته، ولتحضيره الجيد الذي جمع بينَ السرعة والتروّي، ولانتصاراته المدوية على عدوهم، ولحفاظه على الحد الأدنى من الخلافة. أما شنجول، فكان متهورًا، متكبرًا، عجولًا، منصرفًا للذاته.

بدأت سُحب الثورة تتكثف في قرطبة خلال الأشهر الثلاثة الأولى لحجابة شنجول، يتزعمُها سرًّا شاب أموي هو محمد بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر، والذي تلقَّب بالمهدي فيما بعد. وكان يؤيده أكثر الأمويين ومواليهم والبيوتات العربية الذين قمعهم العامريون. وكان من أكبر مموليه، الذلفاء، أرملة المنصور أم عبد الملك، التي كانت تتهم شنجول بدس السم لابنها.

خرج شنجول للغزو جريًا على عادة أبيه وأخيه، رغم نصح قادته بخطورة الوضع بالعاصمة. فما كاد جيشه يعبر الحدود، حتى وثب المهدي بقرطبة، ومعه آلاف مؤلفة من العامة. استولى الثوار على الأماكن الحيوية بسرعة البرق، وقتلوا الوالي وصلبوه. ثم اندفعوا نحو هدف واحد بمنتهى الحماسة والحقد؛ الزاهرة، عنوان الحكم العامري.

قاد حصار الثوار للزاهرة أحد أبناء المغيرة، الذي قتله المنصور لتآمره مع الصقالبة ليلة وفاة أخيه الحكم. لم تستطع الحامية المدافعة سوى يومٍ واحد، فسلمَّت بالأمان لهم وللنساء. نُهبت الزاهرة حتى لم يبقَ فيها ما يصلح للنهب. لم يكتفِ الثوار بذلك، وإنما قاموا – بأمر المهدي – بعملية تدمير هستيرية للزاهرة، تركتها قاعًا صفصفًا بعد أن حُكمت منها الأندلس 30 عامًا زاهرة.

صُدم شنجول للأنباء المفزعة، وانفض عنه أكثر معاونيه، وكبير فتيان أبيه. وما كاد يصل بالجيش مشارفَ قرطبة، حتى انفضَّ أغلب الجند عنه. قبض عليه الثوار مختبئًا في دير خارج قرطبة، وقتلوه بعد فشل محاولته للانتحار. وطيفَ بجثته أرجاء العاصمة.لم يكن المهدي يختلف كثيرًا عن شنجول في المواهب، فلم تستقر الأمور طويلًا، ودخلت قرطبة وسائرَ الأندلس، في فتنة ضارية 23 عامًا، دارت رحاها على الجميع، ووثب كثيرون خلالها على العرش، ولم تنتهِ حتى دخلت الأندلس عصر الطوائف الذميم، والذي أصبحت فيها الدولة الواحدة، 22 دويلة متخاصمة.