«إلى أهل الإسكندرية» كان هذا عنوان الخطبة الشهيرة التي ألقاها الفيلسوف الرواقي «ديوخريسوس» على جموع السكندريين في مسرح المدينة الكبير فترة حكم الإمبراطور تراجان «98-117م»، يُعدِّد فيها محاسن المدينة وروعتها وعمرانها مؤكدًا على شهرتها المدوية بين مدن العالم المتحضر، حاسدًا سكانها على الخير العميم والنعيم المقيم ويتساءل هل السكندريون يستحقون هذه النعمة الدائمة؟

رسم تخيلي لمنارة الإسكندرية
إن مدينتكم هي صرة العالم المتحضر، وأكثر مدنه ازدحامًا بالسكان، تمتلكون زمام البحر أكمله بجمال موانيكم وعظمة أسطولكم، لتسويق البضائع من كل حدب وصوب، حتى صارت بضائع العالم وتجارته بين أيديكم، إنني أمتدح المواني والأماكن وكل شيء آخر إلا أنتم، هلا تفضلتم وأبديتم بعض الجدية والاهتمام لبرهة من الوقت، فأنتم دومًا على حالكم عابثون غير آبهين، لا تعدمون وسيلة للترفية والضحك، بطبعكم ميالون للصخب، ولديكم وفرة من البارعين في هذه الميول، ولكنني أرى فيكم افتقارًا كاملاً إلى الجدية، وأنه على الرغم من احتشادكم هنا آلافًا مؤلفة فإن لديكم من السرعة البديهة ما يجعلكم تترجمون أفكاركم إلى كلمات على وجة السرعة، أفلا أخشى من صياحكم وصفيركم ونكاتكم الفجة، التي ترهبون بها الجميع في كل مكان سواء كانوا ملوكًا أو أمراء [1].

لقد حققت الإسكندرية منذ أمر الإسكندر في أواخر عام 332 ق.م بتأسيسها شهرة عظيمة بين مدن العالم القديم لكونها مركزًا تجاريًا هامًا ولرخائها وازدهارها، وصلتها بالمدن المطلة على البحر المتوسط وبلاد الشرق من ناحية أخرى، وأصبحت مدينة البذخ والثراء بفضل نشاطها التجاري والصناعي فضلاً عن كونها أهم المراكز الثقافية وحاضرة العلم والفن التي أشاعت بعلمها وحضارتها على العالم القديم، وأصبحت محل جذب للأدباء والفلاسفة على مدار عدة قرون خلال العصريين البطلمي والروماني. [2]

فقد اشتملت مكتبة الإسكندرية الأم على آلاف المخطوطات والبرديات العلمية، فإن المؤرخ الروماني «استرابوس» وهو أول من زار مدينة الإسكندرية من المؤرخين الرومان، وفي وقت مبكر من الحكم الروماني لها، وبعد سنوات قليلة من سقوط حكم آخر ملوك البطالمة، وتحديد في عام 25 ق.م، يحدثنا عن ما شاهده بعينه من غزارة ما احتوت عليه مكتبة الإسكندرية من مخطوطات نادرة، وما شاهده من أعداد ضخمة من البرديات تحوي الكتابات العلمية في شتى الفروع، ما شجعه على تأليف كتابه الموسوعي المعنون بـ«الجغرافيا»، ويؤكد «استرابوس» في الجزء السابع عشر من مؤلفه الذي انتهى منه بعد خمس سنوات من حضوره للمدينة، أنه استفاد من المعلومات التي اطلع عليها بمخطوطات «إراتوسثينيس» الرياضي الأهم في القرن الثالث ق.م، والمحفوظه في المكتبة، وكذلك اطلع على خرائط الجغرافي الكبير «هيبارخوس» في القرن الثاتي ق.م، كما استعان ببرديات المكتبة التي حفظت كتابات الفلكي السكندري الشهير «سوسيجينيس» صديق الملكة كليوباترا السابعة الذي أصلح التقويم الروماني المعمول به من 47 ق.م وحتى القرن السادس عشر الميلادي. [3]

رسم تخيلي لمكتبة الإسكندرية

وكذلك مكتبة «السرابيوم» الملحقة بمعبد الإله سرابيس، التي أُنشئت بأمر من بطليموس الأول، وأشرف على جمع مقتنياتها المؤرخ المصري «مانيتون» الذي أرخ لمصر القديمة لأول مرة بتقسمه تاريخها إلى 31 أسرة ملكية ابتدأ بالملك نعرمر منتهيًا بغزو الإسكندر عام 332 ق.م، وهو ما أصبح قاعدة أساسية لعلم الدراسات المصرية القديمة في العصر الحديث، فضلاً عن المجمع العلمي السكندري «الموسيون» الذي احتوى على مؤلفات ضخمة لصفوة من العلماء في جميع التخصصات العلمية، على رأسهم «إقليدس» الرياضي السكندري الذي أنار العالم بمؤلفاته «كتاب العناصر» و«كتاب القانون» وضع من خلالها نظام البدهيات في علم الهندسة الذي ساد حتى القرن 19 الميلادي والتي تعرف اليوم بين الدارسين بـ «الهندسة الإقليدية». [4]

وقد عاشت الإسكندرية وكأنها دولة بجوار مصر، وظلت على مدار قرون عديدة مركزًا للحضارة الإغريقية، لذا اعتبرها المؤرخون الكلاسيكيون مدينة يونانية بنيت على حدود مصر، ولا يزال ذلك هو التصور السائد إلى يومنا في جميع مراكز دراسة التاريخ، فإذا أردنا الحصول على كتاب يتعلق بتاريخ الإسكندرية في أية مكتبة أو متحف في العالم، علينا أن نبحث في القسم اليوناني وليس القسم المصري. [5]

وبانتشار المسيحية أصبحت الإسكندرية واحدة من أهم المراكز المسيحية ومواطن الدفاع عنها، كما غدت مركزًا هامًا للمناظرات الدينية ومكانًا للتعبير عن الحماسة الروحية، ففيها نبتت «الآريوسية» وهي مذهب ديني له تعاليم وعبادات مسيحية تنسب إلى آريوس أحد أهم كهنة الإسكندرية والتي انتشرت بشكل كبير في شمال أفريقيا وأنطاكية منذ القرن الرابع [6]. ومن الإسكندرية انتشرت العقيدة «المونوفيزيتية» وأفكارها حول الطبيعة اللاهوتية الواحدة للمسيح إلى أنحاء الشرق، والمناهضة للعقيدة الأرثوذوكسية القائلة بأن للمسيح طبيعتين، إنسانية كليًا ولاهوتية كليًا، مما أدى إلى أول انفصال للكنائس الشرقية خلال القرن الخامس، ومن الإسكندرية، أيضًا، ظهرت «الديرية» وهي طريقة للتنسك والانعزال في أديرة صحراوية كحركة مقاومة سلبية اتخذها رهبان الأقباط هربًا من اضطهاد أباطرة الدولة الرومانية البيزنطية المختلفين عنهم في المذهب، كما ظلت الإسكندرية في القرن السادس الميلادي موطن الشعراء والأدباء والفلاسفة والعلماء في مختلف الفروع العلمية. [7]

أشار «ديوخريسوس» في خطبته سالفة الذِكر لطبيعة سكان الإسكندرية المشاغبة وعن مدى تهورهم واندفاعهم، وأنه لا يميلون إلى ضبط النفس في التعبير عن فرحهم أو حزنهم، يتمتعون بالهزل واللهو في مشاهدة العروض المسرحية والألعاب الرياضية، وعقب نهايتها ينطلقون بالصفير والصياح، والتهكم اللاذع والسخرية المريرة من كل شيء، وحتى من حكامهم من الملوك البطالمة والأباطرة الرومان. [8]

يأتي ذلك بالرغم من أنه دائمًا ما حرص الملوك البطالمة والأباطرة الرومان على توفير كل وسائل المتعة والتسلية، والإنفاق على تطوير الحمامات والمرافق العامة، امتيازًا حصريًا لسكان الإسكندرية تجنبًا لسخطهم وتمردهم بسبب مزاجهم المتقلب وميلهم إلى العبث والتمرد، ومحاولة لإشباع رغبتهم في اللهو وارتياد المسارح والسيرك والألعاب المتنوعة والجديدة، وسماع الموسيقى والغناء. [9]

وهو ما قد يكشف الوجه السياسي لخطبة «ديوخريسوس» ويفسر تقمصه لدور الواعظ في حديثه للسكندريين مبينًا لهم ضرورة الخلاص من هذه المزاجية والعبث، ناصحًا إياهم أن يلتزموا بالسلوك المنضبط، حرصًا على مصالح مدينتهم وإرضاءً للإمبراطور تراجان الذي اعتلى عرش روما خلال الفترة من 98م إلى 117م، وشدّد «ديوخريسوس» في خطبته للسكندريين على أن الإمبراطور تراجان يشملهم بالعناية، وربما أغراه حسن سلوكهم إلى التفضل بزيارة مدينتهم.

ويبدو جليًا من خطبة «ديوخريسوس» أن طبائع السكندريين المتمردة والمتهكمة كانت شوكة كبير تؤرق عروش الحكام منذ العصر البطلمي، وعلى رأسها حركات الشغب والتمرد عام 58ق.م التي وجهها السكندريون ضد حاكم مصر بطليموس الثاني عشر، المُلقّب بالزمار، والذي أجبرته انتفاضة السكندريين على الفرار إلى روما التي عملت على إعادته لعرشه بالقوة.

ولم يفلح خطاب ديوخريسوس في إنهاء نهج السكندريين في السخرية من الحكام، ولم يطمئن الإمبراطور «تراجان» لرد فعلهم مما جعله يمتنع عن زيارة المدينة.

وبهذا، أصبحت صورة السكندريين المشاغبين دائمي التمرد على حكامهم صورة راسخة لدى فلاسفة وأدباء هذا العصر، وهو ما يظهر بوضوح في كتابات العديد من المؤرخين القدماء وخطابات الأباطرة الرومان. على غرار ما جاء في خطاب الإمبراطور «هادريان» الذي خلف تراجان على عرش الإمبراطورية منذ 117 حتى 138م، والذي تشجع لزيارة مدينة الإسكندرية وأثارت ميولهم الثورية امتعاضه.

من هادريان أغسطس إلى سيرفيانوس قنصل الإسكندرية، بعد التحية لقد تكشف لي أن السكندريين قوم مشاغبون ومخادعون للغاية، ومؤذون إلى أقصى حد، ولكن مدينتهم مرفهة وفيرة الخيرات، ولا يوجد من هو عاطل، آه لو كانت أهل تلك المدينة تتسم بطبائع أفضل، لكانت جديرة بحكم ثروتها وعظمتها تتبوأ المرتبة العليا في الشرق بأسره، لقد أنعمت عليهم بكل فضائل وأسبغت عليهم نعمًا عديدة، حتى عبر الجميع عن امتنانهم في حضوري، وبمجرد أن غادرت المكان تقولون أمورًا كثيرة ضدي وضد ولدي فيروس. [10]

من هم أهل الإسكندرية؟

ولكن علينا بدافع تحري الدقة تحديد مدى صِدق هذا التصور وحجم المبالغة فيه، أن نتساءل أولاً من هم هؤلاء السكندريون؛ إنهم أولئك الإغريق والمتأغرقون الذين تشبعوا بالثقافة الإغريقية من البلدان اليونانية التي فتحها الإسكندر، ثم وفدوا إلى مصر في موجات متلاحقة، في أعقاب فتح الإسكندر لمصر، وسكنوا أحياء المدينة الجديدة، ولو أن الإغريق اعتادوا على الوجود في مصر قبل مجيء جيوش الإسكندر، وألفوا أهلها نتيجة التبادلات التجارية، بالإضافة إلى المفكرين والفلاسفة الإغريق الذين درسوا في المدارس المصرية القديمة، فإن بدايات العصر البطلمي قد شهدت قدوم أعداد كبيرة منهم، نتيجة تشجيع ملوك البطالمة الأوائل وفتح أبواب مصر أمامهم بهدف الاعتماد عليهم في تكوين الجيش والأسطول، وسد حاجتهم من الإداريين والفنيين الإغريق لدعم دولتهم الناشئة. [11]

سيكون من العسير علينا أن نحدد المدن اليونانية التي صدَّرت أبناءها إلى الإسكندرية، فلا نملك إحصائيات كافية تغطي هذا بدقة، ولكن يكفي أن نؤكد أن أكثر من أربعين مدينة يونانية اندفع سكانها بأعداد كبيرة نحو الإسكندرية وفي مقدمتهم الأثينيون والإسبرطيون والمقدونيون، يتقاسمون أحياء المدينة الجديدة فيما بينهم، حتى أن بعض الأحياء قد اقتصرت على قبائل إغريقية بعينها، على غرار الحي الملكي الذي اقتصر على المواطنين الإغريق من رجال الحاشية البطلمية والقادة وكبار الموظفين والتجار. [12]

وإن كان بإمكاننا التحدث في بدايات العصر البطلمي عن مجموعات متباينة من الإغريق احتفظت كل جماعة منها بما أحضروه معهم إلى الإسكندرية من عادات وعبادات كانوا قد ألفوها في بلادهم، فلا شك أن الوقت كان كفيلاً لانصهار تلك الجماعات الإغريقية المتنوعة داخل الإسكندرية مكونة نسيجًا جديدًا يمكننا أن نطلق عليه المواطنين السكندريين، إلا أن المواطنة لم تكن متاحة لجميع السكندريين، بل ظل حق المواطنة قاصرًا على عناصر مختارة بعينها. [13]

رسم تخيلي للحي الملكي في مدينة الإسكندرية

هنا، يُمكننا الحديث عن طبقتين من السكندريين الإغريق؛ السكندريون كاملو المواطنة من القادة وكبار الموظفين، وكذلك المهندسين والأطباء والفنانين الذين تمتعوا بحقوق سياسية كاملة، بما يتضمن حق التصويت في مجلس الشيوخ، الذي يمثل رأس الحياة السياسية في الإسكندرية، والحق في امتلاك الأراضي، إضافة إلى العفو الكامل من الضرائب والخدمات الإلزامية، بعد أن تدون أسماؤهم في سجلات المدينة وفقًا لقبائلهم وأحياء سكنهم، والسكندريون ناقصو المواطنة ممن لم يستكمل قيد عائلاتهم في سجلات الحي، إلا أن ذلك لم ينفِ انتماءهم للشعوب الإغريق، المرشحة دائمًا للحصول على المواطنة الكاملة، ولم يمنعهم من الإحساس الدائم بالتفوق على سكان المدينة من الطوائف الأخرى كالمصريين واليهود. [14]

ولا شك أن السكندريين بجميع طوائفهم وطبقاتهم قد لعبوا الدور الرئيسي في قيام واستمرارية حكم البطالمة، وإدارة شؤونها السياسية والاقتصادية على مدار عدة قرون، كانت فيها مدينة الإسكندرية أحد أهم مركز العالم الثقافية والتجارية، وهو ما قد يبرر سخط السكندريين الشديد أواخر العصر البطلمي على الملوك البطالمة الضعفاء الذين ارتموا في أحضان قادة مدينة روما القوة البحرية الصاعدة، والتي بدأت نواياهم للسيطرة على مصر تنكشف بجلاء، ولم يكن السكندريون بما تأصل في نفوسهم من إحساس بسمو مكانتهم وتفوقهم على شعوب المتوسط، أن يخفوا حنقهم على الرومان، وتعددت المرات التي استقبل السكندريون فيها قادة الرومان وسفراءهم استقبالاً عدائيًا، لا يخفي بغضهم للتدخل الروماني في شئون بلادهم. [15]

فلما انتهى الأمر عام 31 ق.م إلى انتصار القائد أوكتافيوس والإمبراطور فيما بعد على غريمه أنطونيوس وزوجته كليوباترا السابعة آخر ملوك البطالمة في مصر، وأصبحت الإسكندرية مجرد عاصمة لولاية تخضع لحكم الرومان، وبرغم أن الرومان قد أدركوا منذ احتكاكها بالشرق أن الحضارة الإغريقية قد نشرت ألويتها على الإسكندرية، بحيث لم يكن في وسعها سوى الاعتراف بالأوضاع الثقافية والاقتصادية السائدة مع محاولة استغلالها لصالح إدارة مصالحهم السياسية والاقتصادية، ما دفع أوكتافيوس إلى الاعتراف بتفوق العنصر الإغريقي عن غيره في الإسكندرية، وإعفاء المواطنين منهم من ضريبة الرأس والخدمة الإجبارية، إلا أنه حرمهم من إقامة مجلس مدينتهم «مجلس البولي»، وأوصى باستمرار ذلك من بعده، دونًا عن مدن الشرق، وهو الجرح النازف الذي أصاب كبرياء السكندريين على مدار العصر الروماني. [16]

وهو الدافع الأساسي وراء كل هذا السخط والاستياء من الأباطرة الروم وولاتهم، ذلك السخط الذي دفعهم للتجمهر ورشق موكب بترونيوس الوالي الثاني للرومان على مصر بالحجارة، إلا أن محاولات استعادة مجلسهم بالعنف قد استقبلت من الإدارة الرومانية بقمع شديد تسبب في قتل أعداد من السكندريين، بالإضافة لمصادرة ممتلكات معابدهم من الأراضي الزراعية وضمها إلى أراضي الإمبراطورية، فانتهج السكندريون درب السخرية وإطلاق النكات على الأباطرة الرومان وممثليهم. [17]

هكذا ضاق السكندريون بوجود طبقة أرقى منهم تحدد مصيرهم، بعد أن فقدوا عزة الحكم والسيادة بقرار أوكتافيوس والأباطرة من بعده، الاستفادة منهم دون تمكينهم من آمالهم السياسية، ولم يكن السكندريون على استعداد لمسايرة الحكم الروماني والاقتناع بأي امتيازات يمكنهم الحصول عليها في غياب مجلس مدينتهم.

وكان من الطبيعي أن يصب السكندريون نقمتهم على اليهود باعتبارهم صنائع الرومان ودعائم حكمهم، وإن كان عداء السكندريين ضد اليهود في الإسكندرية أقدم من وجود الرومان، فمنذ البداية كان السكندريون ينفرون من اليهود ويضيقون بوجودهم في مدينتهم، باعتبارهم عنصرًا غريبًا ليس على شاكلتهم، وهو ما يظهر بوضوح في أعمالهم الأدبية والمسرحية التي تبرز اليهود كعناصر غير متحضرة، وتصور المجتمع اليهود مجتمعًا منعزلاً ومنفصلاً عن حياة المدينة، وهو ما تضاعف في العهد الروماني، بعدما منح الأباطرة الرومان اليهود الكثير من الامتيازات على حساب السكندريين، وهو ما كان بمثابة صب الزيت على نار علاقات مشتعلة من الأصل. [18]

يهود الإسكندرية

إن تتبع الوجود اليهودي في الإسكندرية من المصادر التاريخية يؤكد وجودًا محدودًا لهم منذ زمن بطليموس الأول الذي سمح بوجود أعداد كبيرة منهم، كانوا مزيجًا من الأسرى والأحرار الذين دفعتهم فرص الثراء التي توفرها المدينة الجديدة التي أصبحت في وقت قصير صاحبة المكانة الأولى في تجارة البحر المتوسط، وبدأت تزداد أعدادهم تدريجيًا حتى أصبحوا عنصرًا أساسيًا يشكل جالية خاصة تسكن الحي الرابع من المدينة، استطاعوا في ظلها مباشرة شعائرهم الدينية في حرية تامة والتمتع بقدر لا بأس به من الاستقلال المالي، دون أي تدخل من جيرانهم أو إكراه من الدولة، وإن كان نفوذ الجالية اليهودية قد تعاظم بشكل كبير في عصر بطليموس السادس 167 ق.م الذي جعل منهم قادة لوحدات عسكرية تشمل اليهود، وسمح لهم بإقامة معبد كبير في مركز المدينة، ما جعل منهم ندًا للسكندريين. [19]

ذلك لا يعني أن يهود الإسكندرية كانوا ينتمون إلى مستوى اجتماعي واحد، إذ يمكننا أن نقسمهم تبعًا لنشاطهم الاقتصادي إلى ثلاث طبقات، هي: الطبقة العليا، وتضم زعماء الجالية من رجال البلاط الملكي وقادة الفرق العسكرية وأصحاب رؤوس الأموال من التجار والمشتغلين بإقراض الأموال، إلى جانب طبقة وسطى، تضم بعض صغار التجار وأصحاب المهن الحرة وطائفة من صغار الموظفين، بالإضافة إلى طبقة دنيا تضم فقراء اليهود في المدينة.

ولا يعني حصول صفوة الجالية اليهودية المقربين من الملوك على المواطنة، أن الطبقة العليا منهم قد حصلت كلها على المواطنة الكاملة، فالمصادر التاريخية تؤكد أن اليهود بكل طبقاتهم قد خضعوا إلى دفع الضرائب نفسها التي فرضت على سائر سكان الإسكندرية دون المواطنين منهم. [20]

ولا شك أن الطبقة العليا منهم قد تأثرت بالحضارة الإغريقية وتعاظم دورها الاقتصادي والاجتماعي، بل واستخدم البعض منهم اللغة الإغريقية في حياته اليومية، إلا أنهم لم ينسوا أنهم يهود أولاً قبل كل شيء وأنهم لا يستطيعون مشاركة السكندريين موائدهم، ولا يمكنهم الاشتراك في الحفلات الصاخبة أيام أعياد الآلهة الإغريقية، ولم يتردد السكندريون في تذكيرهم دائمًا أنهم غرباء عنهم في الجنس والحضارة والدين، مثلما كانوا غرباء من الناحية القانونية، ما دفع اليهود إلى السعي لتحقيق مصالح جاليتهم حتى وإن تعارضت مع رغبة ومصالح السكندريين، لذلك لم يتوانَ اليهود عن التخلي عن أنطونيوس الحليف الروماني للسكندريين والانضمام لأكتافيوس، الذي لم يتأخر عن مكافأتهم بالسماح لهم بتشكيل مجلس خاص يديرون من خلاله معاملاتهم الاقتصادية والدينية وفقًا لقوانينهم الخاصة. [21]

هذه الامتيازات لم تكن لتشبع شعور اليهود بالتميز الاجتماعي، فالتاريخ اليهودي الذي يبالغ في إظهار عطف أوكتافيوس على يهود الإسكندرية يقف صامتًا أمام فرضه ضريبة الرأس عليهم، تلك الضريبة التي نزلت بهم من الناحية القانونية إلى مصاف عامة الشعب من المصريين، ويبدو أن أوكتافيوس نظر لليهود على أنهم أداة يعادل بها قوة السكندريين، مستغلاً التنافس الاقتصادي والفكري بينهما لضمان استمرار حكمه، ذلك التنافس الذي تحول إلى ظاهرة اجتماعية جعل من الإسكندرية الرومانية ساحة صراع اجتماعي. [22]

رومان الإسكندرية

اجتذبت الإسكندرية منذ وقت مبكر عناصر مختلفة من شعوب البحر المتوسط، وخلال العصر البطلمي أصبح مجتمع الإسكندرية القديمة شديد التركيب والاختلاط من عناصر متنوعة من الشرق الفارسي والغرب الأوروبا، وعلى رأسها العنصر الروماني المدني، ولا شك أن أعداد الرومان كانت قليلة مقارنة بأعداد الإغريق الذين جاءوا مع دخول مع الفتح الإسكندر لمصر، لذلك كان الرومان الخُلص غرباء في الإسكندرية ولم يكن لهم تأثير كبير على الحياة الاجتماعية، وإنما ركز أغلبهم على النشاط الاقتصادي، وانضم بعض منهم إلى الوحدات العسكرية البطلمية. [23]

وقد عرف البطالمة منذ البداية نظامًا إداريًا سهل عملية تنظيم العناصر السكانية المتباينة تنظيمًا دقيقًا من خلال مجموعة من الوثائق تُجمع في محاكم المدينة، تقسم هذه الوثائق السكان من غير المواطنين إلى جاليات حسب مواطنهم الأصلية وأعمالهم، فكان الجنود يثبتون أسماءهم ومواطنهم الأصلية والوحدات العسكرية التي ينتمون لها والرتب العسكرية التي يحملونها، وإن كانوا من غير الجنود يثبتون أسماءهم ومواطنهم الأصلية ونوع الحرف التي يؤدونها في المدينة. [24]

وحرص ملوك البطالمة الأواخر بشكل خاص على إرضاء العنصر الروماني بعد أن بدأت روما في فرض سيطرتها على أغلب شرق أوروبا وجزيرة قبرص، فقد سمحوا لهم بتشكيل جاليات متعددة، على أن تضم كل جالية منها عنصرًا مختلفًا ينتمي لسكان أحد المدن التي تخضع لحكم روما، وأصبح لكل منها مركز يلتقي فيها أفرادها، ولم تخضع الإدارة البطلمية تلك العناصر الرومانية المختلفة لقانون موحد بل كان لكل عنصر عاداتهم وقوانينهم التي يخضعون لها، وربما سمح لبعض منهم أن يشرف على إدارة شئونها جاليته كموظفين تابعين للبطالمة، ما أتاح الفرصة أمام الرومان من سكان الإسكندرية أن يحيوا حياتهم الخاصة وتيسير إقامتهم في المدينة دون الحاجة إلى إدماجهم في هيئة المواطنين. [25]

وعندما أصبحت الإسكندرية عاصمة لولاية تخضع لسيطرة روما التي فرض أكتافيوس نفسه إمبراطورًا على عرشها بعد نصره على منافسه أنطونيوس وتدمير أسطول كليوباترا السابعة الطامحة في عرش روما، كان أهم التغيرات التي طرأت على مجتمع المدينة هو وجود عنصر جديد من الرومان يختلف كليًا عن سكانها من الرومان السابقين، وهم من القادة الرومان سواء العسكريين أو المدنيين الذين اعتمد عليهم أكتافيوس في فرض سيطرته على مصر، وقد كونوا بمرور الزمن جالية متميزة من المواطنين الرومان الذين شغلوا المناصب الإدارية والوظائف العسكرية. [26]

بالإضافة إلى رجال الأعمال والتجار الأثرياء الذين حضروا إلى المدينة واستقروا بها بعد ذلك بهدف التمتع بكافة الامتيازات التي حصل عليها المواطنون الرومان في الإسكندرية، والاستفادة بمسارات النشاط التجاري التي أصبحت أكثر ثراءً بعد أن ظهر بالمدينة عناصر جديدة من العرب والأثيوبيين ساعدوا في توصيل سلع الشرق الأقصى إلى أسواق الإسكندرية، كما شجعت الإدارة الرومانية مواطنيها على تملك الأراضي، مما فتح أمامهم فرصًا كبيرة لثراء، وأخذت أعداد الرومان تتزايد في سلك الإدارة وفي المجالات التجارية وتراكمت في أيديهم الأموال، وجعل منهم طبقة متميزة. [27]

وما من شك أن الحامية العسكرية الرومانية كانت أهم مصدر لإحضار العنصر الروماني إلى الإسكندرية، وأصبحت مع الوقت تضم أعدادًا كبيرة من جميع أنحاء الإمبراطورية، وعادة ما كانت تمتد الخدمة في الفرق العسكرية الرومانية إلى خمسة وعشرين عامًا، لذلك لم يكن غريبًا أن يتصل الجنود خارج معسكراتهم بسكان المدينة في مختلف أوجه الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ورغم محاولات القانون الروماني لمنع ذلك. [28]

وكثيرًا ما أقدم الجنود الرومان على إقامة علاقات خاصة مع النساء من أهل المدينة وأنجبوا منهم، والمؤكد أن مثل هذه العلاقات تكونت منها أسرات لها أبناء وعبيد، ودائمًا ما كان القانون الروماني يعترف بهذا الزواج بعد تصريح الجنود من خدمتهم العسكرية، خاصة أن أغلبهم أثروا البقاء بعد إتمام الخدمة العسكرية وقد وجدوا فرصًا عديدة لاستثمار أموالهم في مشروعات تجارية تدر عليهم أرباحًا طائلة، وبالتدريج ارتبطوا بالإسكندرية وأصبحوا الأساس الذي تكونت منه الجالية الرومانية، بل واتخذ بعضهم الطابع الإغريقي. [29]

المصريون في الإسكندرية

لم يكن غريبًا أن الإسكندرية التي امتلكت عوامل الجذب للسكان من الشعوب المختلفة، أن تكون محل أنظار المصريين من السكان المحليين، الذين اندفعوا بأعداد كبيرة فرادى وفي جماعات نحو مدينة الإسكندرية والإقامة بها بشكل دائم أو مؤقت، رغبة في الثراء والتمتع بمحاسن المدينة الجديدة، بل يتضح من الرسائل الأدبية التي حفظتها لنا البرديات والتي سجلها الأديب «أريستياس» في حدود عام 160 ق.م، أن الأمر قد تجاوز مجرد كونه هجرة عادية، إلى ظاهرة تسرب سكان من مدن وأرياف مصر نحو المدينة الجديدة، دفعت الحكام البطالمة سن قوانين تحد من تلك الظاهرة.

«وأهل البلاد من المصريين الذين قدموا إلى الإسكندرية جعلوا حالة الزراعة محزنة حيث أطالوا فترات إقامتهم بالمدينة، ومن هنا فإن الملك اتخذ إجراءات تحد من إقامتهم بها، وأقيمت محاكم الأقاليم كي يمنع سكانها من الذهاب إلى الإسكندرية». [30]

وقد جعل تزايد أعداد المصريين منهم عنصرًا بارزًا من سكان المدينة، لكي يتسع لهم حي كامل عرف بـ«فريزر»، ويؤكد المؤرخ «بولبيوس» الذي كان في الإسكندرية فترة حكم الملك بطليموس الثامن «145-116 ق.م»، أن هذا الحي قد سكنه المصريون والقرويون على حدٍّ سواء، والمقصود بالعنصر المصري مَن سكن الإسكندرية منذ إنشائها وبشكل دائم من المصريين، أما القرويون فهم المصريون من أهل الأقاليم الذين قدموا إلى الإسكندرية لأغراض اقتصادية ودينية متعددة ثم استقروا بها لفترات طويلة. [31]

ولا شك بأن المصريين من سكان الإسكندرية قد حرموا من الحصول على المواطنة، وكثيرًا ما خصصت لهم قوانين دونًا عن الإغريق، كما كان للمواطنين قوانين خاصة بهم يخضعون لها دون غيرهم من الإغريق، فإن هذا القانون الذي سمح لمواطني المدينة بالزواج من الإغريق من غير المواطنين، قد حرم عليهم الزواج من المصريين، في محاولة لحفظ جماعات من العنصر الإغريقي دون الاختلاط بالأهالي من المصريين حتى لا يفنوا فيهم بمرور الزمن. [32]

ومع انتقال الإسكندرية لحكم الرومان لم يكن ليكف المصريون عن الهجرة من الأقاليم نحو الإسكندرية، وتخبرنا البرديات الرومانية عن أعداد كبيرة من المصريين تدفقت نحو الإسكندرية وعلى رأسهم الذين تأهبوا للالتحاق بالخدمة العسكرية في الجيش الروماني، ومن أجل تقديم الأضحيات في معابد الآلهة سواء في أيام الأعياد أو غيرها، وهم العنصر الوحيد من المصريين الذين استثناهم الإمبراطور الروماني «كاراكللا» الذي حكم بين عامين 211-217م، والذي أصدر مرسومًا في عام 215م يأمر فيه بطرد المصريين المقيمين بالإسكندرية وخاصة القرويين الفارين من بلادهم. [33]

علي أي حال فمن المؤكد أن الإصلاحات الإدارية التي تمت في نهاية القرن الثالث على يد الإمبراطور دقلديانوس «284-305م» الذي منح حقوق المواطنة لجميع سكان الإمبراطورية من الأحرار، والتي تبعها إلغاء امتيازات العديد من الجاليات داخل الإمبراطورية وتطبيق اللا مركزية تطبيقًا مطلقًا قضى على امتيازات أغلب السكندريين، إذ أصبح الجميع من الأحرار مواطنين رومانًا يدفعون الضرائب على قدر من السواء. [34]

المراجع
  1. محمد السيد عبد الغني، مجتمع الإسكندرية القديم، ص26، 35
  2. محمد مرسي الشيخ، تاريخ مصر البيزنطية، ص227،226.
  3. محمد السيد عبد الغني، مجتمع الإسكندرية القديم، ص122
  4. أحمد الشنواني، الخالدون من أعلام الفكر، ج1، ص 37.
  5. عبد العزيز سليمان نوار، تاريخ مصر الاجتماعي، ص 76
  6. عبد الباقي السيد عبد الهادي، الآريوسية في مصر البيزنطية خلال القرنين الرابع والخامس الميلاديين، ص 14
  7. رأفت عبد الحميد، الفكر المصري في العصر المسيحي، ص 242، 259
  8. محمد السيد عبد الغني، مجتمع الإسكندرية القديم، ص16
  9. محمد مرسي الشيخ، تاريخ مصر البيزنطية، ص231.
  10. محمد السيد عبد الغني، مجتمع الإسكندرية القديم، ص 19، 38، 40
  11. عبد العزيز سليمان نوار، تاريخ مصر الاجتماعي، ص57
  12. مصطفي العبادي، مجتمع الإسكندرية في العصر البطلمي، ص41.
  13. زبيدة عطا، قبطي في عصر مسيحي، ص89.
  14. حسين الشيخ، العصر الهللينستي، ص88.
  15. محمد السيد عبد الغني، مجتمع الإسكندرية القديم، ص 20
  16. عبد العزيز سليمان نوار، تاريخ مصر الاجتماعي، ص72.
  17. محمد السيد عبد الغني، مجتمع الإسكندرية القديم، ص21
  18. مصطفي كمال عبد العليم، اليهود في مصر في عصري البطالمة والرومان، ص145، 146.
  19. حسين الشيخ:العصر الهللينسي، ص88، 89.
  20. مصطفي كمال عبد العليم، اليهود في مصر في عصري البطالمة والرومان، ص120.
  21. محمد السيد عبد الغني، مجتمع الإسكندرية القديم، ص 23
  22. مصطفي كمال عبد العليم، اليهود في مصر في عصري البطالمة والرومان، ص255
  23. أمال الروبى، مظاهر الحياة فى مصر فى العصر الرومانى، ص31
  24. مصطفى العبادى، مجتمع الإسكندرية فى العصر البطلمى، ص35
  25. حسين الشيخ، العصر الهللينستى، ص 89
  26. أبو اليسر فرح، تاريخ مصر فى عصرى البطالمة والرومان، ص118، 220
  27. عبد العزيز سليمان نوار، تاريخ مصر الإجتماعى، ص66 ، 67
  28. آمال الروبى، مظاهر الحياة فى مصر فى العصر الرومانى، ص 16
  29. مصطفى العبادى، مصر من الإسكندر الأكبر حتى الفتح العربى، ص 33، 205
  30. محمد السيد عبد الغني، مجتمع الإسكندرية القديم، ص136
  31. محمد السيد عبد الغني، مجتمع الإسكندرية القديم، ص137
  32. زبيدة عطا، قبطي في عصر مسيحي،ص89.
  33. محمد السيد عبد الغني، مجتمع الإسكندرية القديم، ص145
  34. مصطفي العبادي:مصر من الاسكندر الأكبر حتي الفتح العربي، ص211.