يبدو أن اعتصام طلبة الجامعة الأمريكية ضد رفع مصاريف الجامعة قد انتهى أو قارب على الانتهاء غير محسوس به أو مأسوف عليه. فباستثناء عدد محدود من البوستات على مواقع التواصل الاجتماعي، وصور متناثرة على بعض المواقع الإخبارية ومقابلات محدودة على بعض القنوات الفضائية، يكاد لا يكون هناك أي اهتمام بالاعتصام ومطالبه ومساراته.


خلفيات الاعتصام

بدأت المسألة حينما قررت إدارة الجامعة الأمريكية، بعد صدور قرارات تعويم الجنيه المصري في أوائل نوفمبر ٢٠١٦، رفع مصاريف الجامعة والتي يتم تسديد جزء منها بالدولار الأمريكي، هذه الزيادة المفاجئة/ المتوقعة اعتبرت بمثابة عبء جديد وغير مفهوم على قطاع في داخل المجتمع المصري لم يُنظر إليه مسبقًا على أنه من الفئات التي يمكن أن تعاني نتيجة ارتفاع سعر الدولار.

هذه الزيادة المفاجئة/ المتوقعة اعتبرت بمثابة عبء جديد على قطاع لم يُنظر إليه مسبقًا على أنه من الفئات التي يمكن أن تعاني نتيجة ارتفاع سعر الدولار

قوبل قرار الزيادة بالرفض من جانب عدد من الطلاب والطالبات الذين سرعان ما بدأوا في تنظيم أنفسهم وتوجيه مطالبهم إلى إدارة الجامعة والتي على رأسها رفض الزيادة. وقوبلت هذه المطالب بالرفض وقدمت تنازلاً وحيدًا يتعلق باستكمال دفع مصروفات الفصل الدراسي الأول وفق أسعار الدولار القديمة، مع تطبيق الزيادة بدءًا من الفصل الدراسي الثاني.

اعتبرت الجامعة أن عدم قدرة أي من الطلبة والطالبات على دفع هذه المصروفات الجديدة هو أمر يخصهم بالكامل؛ ومن ثم يمكنهم الانسحاب من الجامعة والتحويل إلى أي مؤسسة تعليمية أخرى يستطيعون تحمل مصروفاتها.

شهدت الأيام الأولى للاعتصام زخمًا معقولاً من الطلاب وتضامنًا جزئيًا من بعض أعضاء هيئة التدريس الذين قرر بعضهم إلغاء الفصول الدراسية أو نقلها إلى مقر الاعتصام في الساحة الرئيسية في الجامعة، وامتلأت ساحة الجامعة الرئيسية باللافتات التي تدعو مجتمع الجامعة للتضامن مع مطالب الطلاب، ومناقشة عدالة اعتراضاتهم على رفع المصروفات في مواجهة ما اعتبروه انهيارًا في مستوى الخدمات التعليمية المقدمة وغيرها من القضايا.

وقابلت إدارة الجامعة هذه المظاهر بالتجاهل والإصرار على عدم الاستجابة لها، في نفس الوقت الذي قامت فيه بإرسال رسائل إلكترونية إلى الطلاب وأعضاء هيئة التدريس وأهالي الطلاب تدين فيها «الإضراب» و«تعطيل العملية التعليمية»، وتؤكد على أهمية حضور المحاضرات وعقد الامتحانات في موعدها المقرر دون أي تأخير.

واتهمت إدارة الجامعة الطلاب والطالبات المعتصمين والمعتصمات بقائمة اتهامات معتادة من بينها اتهامهم بالتخريب وأنهم من مدمني المخدرات، …إلى آخر القائمة المعروفة. وقابل الطلاب هذه الاتهامات بالسخرية المتوقعة والإصرار على مطالبهم، مع محاولة إقناع مزيد من الطلاب والأساتذة بالانضمام إلى الاعتصام والحركة المطلبية ككل.

لم يزد هذا الزخم ولم يستمر كما كان مرجوًا، ولم يتمكن الطلاب من تعبئة أكبر سواء في داخل مجتمع الجامعة أو في خارجها، وهو الأمر الذي سنحاول في المساحة المتاحة تلمس الأسباب المختلفة له.


الطبقة ومطالب الاعتصام

يبدو أنه ساد شعور عام بأن شكاوى طلاب الجامعة الأمريكية من ارتفاع المصروفات هو أمر غير حيوي وغير هام في ظل ارتفاع رقعة الفقر والفقراء في مصر، خاصة بعد قرار البنك المركزي بتعويم الجنيه المصري. بل ويمكن القول إنه قد ساد بشكل عام موقف عدائي أو غير مهتم من الاعتصام ومطالبه، وهو الأمر الذي لا يمكن فهمه دون إدراك البعد الطبقي، وهو الأمر الذي ينقلنا لسؤال مبدئي ومبادئي أولي: «هل يحق للأغنياء الاعتراض والتظاهر دفاعًا عن مصالحهم؟».

ساد بشكل عام موقف عدائي أو غير مهتم من الاعتصام ومطالبه، وهو الأمر الذي ينقلنا لسؤال: «هل يحق للأغنياء الاعتراض والتظاهر دفاعًا عن مصالحهم؟».

في الوقت الذي قد يعتقد البعض أنه سؤال سخيف وساذج والإجابة بالقطع نعم، يبدو أن هناك قطاعات معتبرة في المجتمع المصري تحتاج أن تفكر طويلاً قبل أن تجيب، ويمكن أن نتوقع أن تكون إجابتهم بلا. فالأغنياء يمتلكون كل شيء ويتحكمون في كل شيء، وأي مساحة إضافية للتعبير والاعتراض لن تكون إلا بمزيد من الظلم للمهمشين والفقراء والمستبعدين من التمثيل في المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي المصمم بشكل يخدم مصالح الأغنياء بشكل كامل.

واقعنا العربي والمصري يفترض قبولاً لهذه الفرضيات بشكل معين، لكن هذا القبول يغفل حقيقة هامة كشف عنها هذا الاعتصام؛ فثراء بعض الأفراد لا يعني بالضرورة قدرتهم على التأثير على المشهد السياسي أو الاقتصادي. فمن الواضح أن القدرة على هذا التأثير محفوظة لتحالف معين بين أهل الثروة وأهل السياسة، وهذا التحالف محدود وإقصائي حتى في دوائر الأغنياء لصالح عائلات بعينها تزاوجت فيها السلطة بالثروة.

من ناحية أخرى فهناك أعداد كبيرة من طلاب وطالبات الجامعة الأمريكية والجامعات الخاصة المصرية بشكل عام، ينتمون إلى أسر من الشرائح العليا من الطبقة الوسطى والتي بحكم تعريفها وواقعها وتحالفاتها غير منشغلة بالتأثير على صانع القرار السياسي أو الاجتماعي، وإنما منشغلة بشكل أكبر بتأمين معاشها في العمل لدى الشركات الدولية أو العمل في دول الخليج.

هذه الأسر اتخذت قرارها بتعليم أولادها في جامعات خاصة؛ نتيجة انهيار الخدمات التعليمية الحكومية وضعف القدرة التنافسية لخريجيها، ومن ثمّ يبدو غريبًا وغير مفهوم الرغبة في معاقبة هذه الأسر وعدم التعاطف معها في وجه أزمة حقيقية تواجه مستقبل أولادها. هل يمكن فهم هذا العداء في ضوء صراع الطبقات الذي تحدّث عنه ماركس واليسار بشكل عام، أم أن هذا الصراع الطبقي يفترض أولاً وعيًا بالانتماء الطبقي والمصالح المرتبطة به، ووعيًا بالطبقات الأخرى وبطبيعة الصراع الناتج عن هذا، وهو الأمر الغائب بشكل يكاد يكون كاملاً؟

واقع التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المصرية في السنوات الخمس الماضية يكشف لنا عن تفسخ طبقي لا عن وعي طبقي، فالطبقة الوسطى التقليدية تكاد تكون انتهت وتقطعت أشكال العلاقات والتفاعلات بين شرائحها المختلفة.

وفي الوقت الذي مثلت فيه يناير ٢٠١١ لحظة استثنائية للطبقة الوسطى لاستعادة هويتها ووعيها ودورها الريادي في المجتمع، إلا أنه سرعان ما ارتد أفرادها إلى خياراتهم الفردية وتفضيلاتهم الشخصية والتي كانت واحدة، من أسباب كثيرة، في انتكاس حالة الأمل والرغبة في التغيير. وعبّر هذا التفسخ عن نفسه في حالة التعاطف / عدم التعاطف مع الاعتصام والذي كان من الممكن أن يكون فرصة جديدة للطبقة الوسطى لصياغة رؤى ومطالب مشروعة يقع في جوهرها مسئولية الدولة عن التعليم وجودته والرقابة على المؤسسات التعليمية المختلفة.


التعليم خدمة أم سلعة عامة

السؤال الثاني الهام الذي كشف عنه الاعتصام هو: هل التعليم خدمة أم سلعة عامة؟، وهل العلاقة بين الطالب والجامعة هي محض علاقة تبادل مصروفات دراسية مقابل خدمة تعليمية، أم أن الأمر أكبر من هذا؟. في مناقشة مع أحد الزملاء حول الاعتصام والجوانب المختلفة المرتبطة به، طرحت هذه المسألة للنقاش.

فما يبدو من طريقة تعامل إدارة الجامعة مع الأزمة يكشف عن نظرة للتعليم على أنه مجرد خدمة تقدمها الجامعة وتتلقى مقابلها سعرًا معينًا، وفي حال عجز البعض عن دفع هذا السعر، فالحل سهل؛ فليبحثوا عن مقدم آخر للخدمة يقدمها بأسعار أكثر مناسبة لظروفهم. هذا الطرح هو في حقيقة الأمر جزء من فلسفة يمينية ليبرالية تحكم كيانات سياسية واقتصادية وتعليمية بشكل متزايد، ولا ترى في التعليم حقًا وإنما مجرد خدمة.

لا يمكن فهم عجز الاعتصام عن تحقيق حد أدنى من التعاطف معه بدون فهم عجز المعنيين بالأمر (طلبة وأساتذة ومهتمين بقضايا التعليم والحقوق) عن تطوير خطاب يواجه هذه المسألة في جوهرها، ويناقش جوانبها المختلفة ويطرح تصورات مخالفة ومختلفة حول الحق في التعليم ومسئولية الدولة والمجتمع عن ضمان هذا الحق وتقديمه بشكل مناسب.

قد يبدو هذا النقاش رفاهية في ظل مسائل أكثر إلحاحًا؛ كالفقر، أو العنف في الشارع، أو حتى قضايا الحريات والحقوق. ولكن أعتقد أن لا يمكن فصل أي من هذه القضايا عن سؤال التعليم، فكلها وغيرها من المسائل الملحة على أجندة الأسر المصرية بمختلف انتماءاتها الطبقية والتعليمية والسياسية، هي جزء من كل يُعنى بالأساس برؤية كل من المجتمع والدولة لطبيعة العلاقة بينهم وطبيعة الحقوق والواجبات في القرن الواحد والعشرين.


الخروج كبديل طبقي

لا يمكن فهم عجز الاعتصام عن تحقيق حد أدنى من التعاطف معه بدون فهم عجز المعنيين بالأمر عن تطوير خطاب يواجه هذه المسألة في جوهرها

يدرك كثيرون أن الطبقة الوسطى وخاصة الشرائح العليا منها (وهم الشريحة الأكبر في طلاب الجامعة الأمريكية المعترضين على قرار رفع المصروفات) لن يعدموا بدائل حال انسدت آفاق العيش والمستقبل في مصر المحروسة.

فهم المتعلمون (حتى ولو بجودة متوسطة)، والمتحدثون لغات أجنبية (حتى ولو بلكنة غير سليمة)، والمالكون لأدوات التواصل الحديثة (حتى ولو البنية التحتية لخدمات الإنترنت سيئة)، والمتواصلون مع العالم الخارجي (بحكم العمل أو البيئة الاجتماعية أو كليهما) بما يجعلهم المرشحين الأوائل للهجرة خارج البلاد طالما لم يجدوا فرصًا واستيعابًا في داخل وطنهم الأم.

فشل الاعتصام ورفع المصروفات لن يكون نهاية العالم لأي من الطلاب وأسرهم، ولكنه علامة فارقة في علاقة مجتمع بأفراده، وفي علاقة دولة بمؤسساتها.

فالمجتمع الجامعي الأوسع (طلاب الجامعات المصرية والأجنبية بشكل عام والأساتذة والمهتمون بقضايا التعليم)، والمجتمع الحقوقي، والعاملون في مجتمع الإعلام أهدروا فرصة كان من الممكن تطويرها بشكل مطلبي وحقوقي يساهم في تقوية المجتمع في مواجهة دولة ومؤسسات تتغول كل يوم.