في «أصحاب ولا أعز» كل المشاكل جنسية. مراهقة متمردة تود ممارسة الجنس مع صديقها، زوجات وأزواج يعانون الملل الجنسي، أزواج يخونون زوجاتهم وزوجات يخن أزواجهن، شخص مثلي يعيش علاقة معقدة مع صديقه ويعاني إقصاء اجتماعياً بسبب مثليته. المشاكل ليست جنسية فحسب، بل هي محض جنسية. الجنس هنا يقدم معزولاً عن كافة مشاكل حياتنا الأخرى، بينما في الواقع، الجنس ليس شيئاً نمارسه خارج حياتنا، بل هو جزء من تلك الحياة بكافة أبعادها. ظروفنا المهنية، طبقاتنا الاجتماعية، همومنا السياسية، وكل ما قد يخطر على بالك.

مثلاً، يجري هذا الفيلم في لبنان. مجتمع يعاني مشكلة تاريخية ممتدة في صلب تكوينه هي الانقسام الطائفي. صحيح أنه مجتمع ربما يكون في بعض مناطقه وفئاته أكثر تحرراً من غيره من المجتمعات العربية، لكن ذلك لا يعني أن المسألة الطائفية تغيب في العلاقات العاطفية/الجنسية بين أبنائه. أبطال الفيلم لا ينتمون إلى كل ذلك، هم أفراد متجردون من كل تلك الانتماءات الاجتماعية وما تؤثر به على حياة أصحابها. لا أثر حتى لأزمة اقتصادية تعصف بهذا البلد منذ سنوات وتطحن سكانه على اختلاف شرائحهم (ربما باستثناء شريحة محدودة جداً على رأسه) في حياة أبطال الفيلم «الجنسية».

ينتمي «أصحاب ولا أعز» إلى نمط درامي وسينمائي آخذ في الانتشار، مؤخراً، يتركز حول نمط حياة الطبقة أو الطبقات الاجتماعية الأعلى. لا يمكن فصل انتشار هذا النوع الفني عن تحبيذه من قبل السلطات الإنتاجية (أصبحت السلطات العربية مؤخراً هي المنتج المباشر الأساسي في صناعة الفن العربي)، فهو نوع آمن، لا يتعرض غالباً لمشكلات اجتماعية يمثل عرضها نقداً ضمنياً للسلطة، وهو كذلك مناسب استهلاكياً للتسلية السريعة لفئات غير مهمومة اجتماعية (في مراجعتها للفيلم على الموقع هنا، وصفت كاتبة الفيلم دفاعاً عنه بأنه فيلم «مسلٍّ»، وهو وصف ذو دلالة مهمة عندما يوصف به عمل فني منفرداً عن أي أوصاف فنية أخرى).

الفيلم كذلك امتداد لخطاب تقدمي/تحرري معروف تقدمه «نتفليكس» وله سمات محددة، فهو أولاً يتمركز حول الحريات الجنسية والجندرية، ثم يلي ذلك بعض التيمات التقدمية الجديدة كالتشجيع على الذهاب إلى المعالج النفسي وحتى نقد التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي. وهو ثانياً يطرح تلك الحريات في معزل عن أي قضايا اجتماعية أخرى، فتلك الحياة الجنسية لا تتقاطع مع القمع السياسي أو الظروف الاقتصادية أو طبيعة الحياة المهنية للشخصيات. هي تقدمية آمنة سياسياً، وهو تحرر محصور اجتماعياً في الفئات القادرة على دفع ثمنه.

«نتفليكس» لا تدع لك خياراً سوى الباكيدج التقدمي: «خذه أو دعه»، فالأمر لك. «الأمر لك»، هذه هي النغمة التي يرددها مثقفون عرب تقدميون، بعضهم ينسب نفسه إلى اليسار. «إنها منصة مدفوعة تملك إذا شئت أن تلغي اشتراكك فيها، فما الذي يزعجك؟» عبارة لا يمكن لليبرالي واعٍ بآليات السوق أن يقولها فضلاً عن أن تخرج من يساري يفترض أن خصمه هو سلطة رأس المال القائمة على تعاقد «حر» بين العامل والرأسمالي. «نتفليكس» ليست خياراً حراً، إنها اليوم أهم منصة إنتاج سينمائي ودرامي حول العالم. إنها تفرض وصولها على المستهلك بقدر ما تفرض نفسها على صناعة العمل الفني نفسه وتحديد ملامحه.

ما يضاعف تلك السطوة لـ«نتفليكس» بالتأكيد هو هيمنة السلطويات العربية في السنوات الأخيرة على الإنتاج والتسويق الفني، وهي تقدم خطاباً أقل تحرراً من «نتفليكس» بالتأكيد لكنه في الواقع يلتقي مع السمات العامة لخطابها كما حددناه سابقاً.

شتيمة الجمهور

اعتدنا، مؤخراً، موجات السخط الجماهيري على هذا النوع الفني الآخذ في الانتشار، وهو سخط مفهوم من قبل مجتمعات محافظة (وكل المجتمعات في الواقع محافظة بمعنى ما)، وهي موجات سرعان ما تلتقطها السلطات الشعبوية العاجزة عن بناء قواعدها الشعبية سياسياً واقتصادياً فتستعيض عن ذلك بأشكال من الديماجوجية السهلة من هذا النوع. يشعر المثقف أحياناً بالحرج أمام تلك الهجمة السلطوية فيضطر إلى الدفاع عن أعمال فنية قد لا يكون مقتنعاً بها (ليس من السهل في كل مرة أن يميز المدافع في غمرة معركة ساخنة بين موقفه المبدأي المنحاز لحرية التعبير وموقفه النقدي تجاه العمل الفني موضوع المعركة).

ما ينبغي الالتفات إليه هنا هو أن هذه الأعمال الفنية وصناعها ليسوا هم الطرف الأضعف في المعركة كما يجري تصويرهم، بل هم طرف يملك سلطة لا تقل عن قوة السلطة المحافظة، بل ربما تتفوق سلطتهم على المدى البعيد. «نتفليكس» ليست المنتج المستقل الضعيف الذي يجري خنقه، بل هي منصة قادرة على الحضور وفرض نفسها رغم أنف أي مسئول أو سياسي محتال في بلداننا يحاول كسب نقطة عليها في معركة شعبوية.

ينساق كثير من المثقفين أبعد من ذلك إلى شتيمة الجمهور التي أصبحت إحدى الموضات الثقافية، مؤخراً، في عكس لاتجاه قديم نحو تقديس الجمهور كذلك من قبل المثقفين. لم يعد من حق الجمهور أن يشعر حتى بالضيق الثقافي تجاه أي عمل فني، وإلا فإن عليه أن يواجه الابتزاز الجاهز بلوائح الجرائم الأكثر غرابة التي على الجمهور أن يخرس بعدها عن نقد أي شيء لا يعجبه. لا يذكّر هذا الابتزاز الرخيص من قبل المثقفين للجمهور سوى بسياسة الابتزاز التي تمارسها الأجهزة الأمنية ضد النشطاء السياسيين عندما تحاول إسقاطهم عبر كشف أسرار حياتهم الخاصة التي قد تتضمن بالفعل أخطاء يقعون فيها كما يقع أي بشر في الأخطاء. (لا يحدث ذلك في بلداننا فحسب، ففي الولايات المتحدة، إحدى قلاع التقدمية، كانت تفاصيل الحياة الخاصة والجنسية الحقيقية والزائفة للنائبة التقدمية ألكساندريا أوكازيو كورتيز موضوعاً للهجوم اليميني عليها بغرض إسقاطها شعبيا).

عندما يبالغ المثقف في إيمانه بالجمهور فإنه في الحقيقة يلغي دوره ويعرض نفسه للخذلان، لكنه عندما يهاجم هذا الجمهور ويتعالى عليه فهو كذلك يقطع صلته به، ويدعه فريسة سهلة أمام أكثر التيارات تطرفاً واحتيالاً. المثقف لا يمكن أن يكون عدواً للمجتمع كما لا يمكن بالتأكيد أن يكون ذيلاً له.

إن مهمة العمل الفني بالتأكيد ليست إرضاء الجمهور، بل إن استفزاز الجمهور قد يكون ضريبة لا بد منها لكي يقدم الفنان نقده الاجتماعي أو قيمه التحررية. لكن ليست مهمة الفنان أو الناقد أو المثقف بعد ذلك أن يشتم هذا الجمهور وأن يتهمه بالرجعية إذا اعترض عليه، بل عليه أن يواجه ذلك بشجاعة الدفاع عن قيمه من دون لف أو دوران. إذا كان الجمهور ينزعج من المثلية الجنسية، فإن مهمة الفنان ليست أن يعاير الجمهور المنزعج بالتحرش والاغتصاب المنتشرين في أوساطه، بل مهمته أن يشرح موقفه وقيمه للجمهور دونما استعلاء.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.