فرانك ويلزيك، حاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2004 لعمله على نظرية القوة الشديدة.

7 يناير 2016 | موقع “كوانتم مجازين”

(1)

يبدو القليل من الحقائق التجريبية واضحة وشائعة فيما يتعلق بالتمييز بين الماضي والمستقبل. حيث نتذكر الماضي، ونتوقع المستقبل. وإن أدرت فيلمًا بالعكس، لا يبدو واقعيًا. لذلك نفترض أن هناك سهمًا للزمن، يتجه من الماضي إلى المستقبل.

قد نتوقع تضمين حقيقة أساسية كوجود سهم للزمن ضمن القوانين الأساسية للفيزياء. ولكن العكس هو الصحيح. إن تمكنت من تصوير فيلم لتجربة دون ذرية، ستجد أنه عند تشغيله بالعكس، تبدو النسخة المعكوسة واقعية تمامًا. أو بشكل أدق، تبدو القوانين الأساسية للفيزياء –فيما عدا بعض الاستثناءات الضئيلة، والتي سنناقشها لاحقًا– قابلة للتطبيق سواء مع اتجاه سهم الزمن أو عكسه. وفي القوانين الأساسية، يمكن عكس سهم الزمن.

من الناحية المنطقية، يمكن للتحول الذي يعكس اتجاه الزمن أن يغير القوانين الأساسية. ويشير الاعتقاد السائد إلى وجوب حدوث ذلك. ولكن بشكل عملي، لا يحدث ذلك. يستخدم الفيزيائيون اختزالًا ملائمًا –والذي يطلق عليه أيضًا “لغة اصطلاحية”– لوصف هذه الحقيقة. يطلقون على التحول الذي يعكس اتجاه سهم الزمن “عكس الزمن”، وتختصر بالإنجليزية إلى T. ويشيرون إلى الحقيقية (التقريبية) القائلة بأن T لا يغير القوانين الأساسية بـ”ثباتية عكس الزمن” أو “تناظرية عكس الزمن”.

تخالف التجربة الحياتية اليومية ثباتية عكس الزمن، بينما توافقها القوانين الأساسية. فيثير ذلك الاختلاف الصارخ أسئلة صعبة. كيف ينجح العالم الفعلي، الذي تحترم قوانينه الأساسية تناظرية عكس الزمن، في أن يبدو غير متطابق؟ هل من الممكن في يوم من الأيام أن نواجه كائنات لها تدفق زمني معاكس – كائنات تنمو لتصبح أصغر بينما ننمو لنصبح أكبر؟ هل يمكننا، عبر عملية فيزيائية ما، أن نلتف حول السهم الزمني لأجسادنا؟

تعتبر الأسئلة السابقة عظيمة، وآمل أن أكتب عنها في مقال آخر في المستقبل (الماضي). ولكنني أريد هنا أن أركز على سؤال تكميلي. يطرح ذلك السؤال عندما نبدأ من الطرف الآخر لحقائق الخبرات الشائعة. من هذا المنظور يقول السؤال: لماذا يجب أن تمتلك القوانين الأساسية تلك الاحتمالية الغريبة والمثيرة للإشكال، التي نطلق عليها “ثباتية عكس الزمن”؟

تعتبر الإجابة التي نطرحها اليوم أعمق وأكثر تقدمًا بشكل لا يمكن مقارنته بنظيرتها التي أمكن تقديمها منذ 50 عامًا. فإدراكنا اليوم ينبع من تفاعل رائع بين الاكتشافات التجريبية والتحليلات النظرية، والتي حصدت عدة جوائز نوبل. ومع ذلك، فإن إجابتنا لا تزال تحوي ثغرة خطيرة. وكما سأوضح، قد يؤدي إغلاق تلك الثغرة بنا إلى مكافأة غير متوقعة، وهي، تعريف “المادة المظلمة” الكونية.


(2)

بدأ التاريخ الحديث لثباتية عكس الزمن عام 1956. خلال ذلك العام، طرح العالمان تي دي لي وسي إن يانج أسئلة حول خاصية مختلفة، ولكنها مرتبطة بالقوانين الفيزيائية، والتي إلى ذلك الحين كانت تعتبر من المسلمات. لم يهتم لي ويانج بعكس الزمن في حد ذاته، بل بتناظريته المكانية، أي، تحول التكافؤ، ويشار إليه بالحرف P. فحينما ينطوي عكس الزمن على مشاهدة الأفلام بالعكس زمنيًا، يعني التكافؤ مشاهدتها عبر مرآة. وتمثل ثباتية التكافؤ فرضية أن تلك الأحداث التي تراها في الأفلام المعكوسة تتبع نفس قوانين الأحداث الأصلية. وطرح العالمان الأدلة الظرفية في مواجهة تلك الفرضية، واقترحا تجارب حاسمة لاختبارها. وخلال أشهر قليلة، أثبتت التجارب أن ثباتية التكافؤ تفشل في عدة ظروف. حيث يستمر الثبات التكافؤي خلال التفاعلات المتعلقة بالجاذبية والموجات الكهرومغناطيسية القوية، ولكن بشكل عام يفشل فيما يطلق عليه التفاعلات الضعيفة.

حفزت تلك التطورات الهامة المتعلقة بـ(عدم) ثباتية التكافؤ الفيزيائيينَ للتشكيك في ثباتية التكافؤ، وهو افتراض مشابه اعتبروه سابقًا من المسلمات. ولكن فرضية ثبات عكس الزمن صمدت أمام الفحص الدقيق لسنوات عديدة. ولم يحدث أول كسر لثباتية عكس الزمن إلا في عام 1964 على يد مجموعة تحت إشراف العالمين جايمس كورنين وفالنتاين فيتش، حيث اكتشفت المجموعة تأثيرًا ضئيلًا وغريبًا في تفتت ميزونات K.


(3)

أثبتت في أعقاب ذلك رؤية جوني ميتشل، القائلة بأنك “لا تدرك ما لديك حتى تفقده”.

فإن ظللنا نسأل، كالأطفال الصغار، “لماذا؟”، قد نحصل على إجابات أعمق لوهلة، ولكن في النهاية سنصطدم بالقاع، عندما نتوصل إلى حقيقة لا يمكننا تفسيرها بشكل أبسط. عند تلك النقطة، لا بد أن نضع حدًا، أي بشكل فعلي، أن نعلن انتصارًا. ولكن إن اكتشفنا لاحقًا استثناءات للحقيقة التي افترضناها، لن تكفينا هذه الإجابة. بل سيتعين علينا أن نستمر بالبحث.

فطالما كانت ثباتية عكس الزمن حقيقة عالمية، لم يكن من الواضح أن سؤالنا المائل مفيدًا. فلماذا كان الكون ثابتًا عكس زمنيٍّ؟ في الحقيقة لم تتوفر إجابة على هذا السؤال. ولكن بعد كورنين وفيتش، لم يمكن تجاهل غموض ثباتية عكس الزمن.

ناضل العديد من علماء الفيزياء النظرية في سبيل حل التحدي المحير المتعلق بفهم كيف يمكن لثباتية عكس الزمن أن تكون دقيقة للغاية، رغم كونها غير صحيحة تمامًا. وهنا كانت أعمال العالمان ماكوتو كوباياشي وتوشيهيدي ماسكاوا حاسمة. ففي العام 1973، اقترحا أن الثباتية التقريبية لعكس الزمن تكون نتيجة عرضية لمبادئ أخرى أكثر عمقًا.

كان التوقيت مناسبًا. فقبل فترة ليست بالطويلة، ظهرت الخطوط العريضة للنموذج القياسي لفيزياء الجسيمات، وظهر معها مستوى جديد من الوضوح بشأن التفاعلات الأساسية. وبحلول العام 1973، ظهر إطار عمل نظري قوي، وناجح تجريبيًا، قائم على بعض “المبادئ المقدسة”. تلك المبادئ هي النسبية، ميكانيكا الكم، والقاعدة الرياضية للتوحد، ويطلق عليهم “مقياس التناظر”.

اتضح أنه من الصعب للغاية حمل جميع تلك الأفكار على التعاون. فمعًا، تقيد تلك القواعد احتمالات التفاعلات الأساسية.

طرح كوباياشي وماسكاوا، في نصوص قليلة مختصرة، أمرين. أولًا، أظهرا أنه في حال قُيدت الفيزياء بالجسيمات المعروفة في حينها (للمتخصصين: إن توافرت عائلتين فقط من الكواركات واللبتونات)، فإن جميع التفاعلات التي تسمح بها المبادئ المقدسة ستلتزم أيضًا بثباتية عكس الزمن. وإن لم يحقق كورنين وفيتش هذا الاكتشاف أبدًا، لكانت تلك النتيجة لتصبح انتصارًا غير مشوب. ولكنهما توصلا إليها، لذلك تقدم كوباياشي وماسكاوا خطوة إلى الأمام. فقد أظهرا أنه إن قدم أحدهم مجموعة محددة من الجسيمات الجديدة (عائلة ثالثة)، فإن تلك الجسيمات تستحضر تفاعلات جديدة تؤدي إلى كسر ضئيل لثباتية عكس الزمن. وهو ما يبدو، ظاهريًا، موفيًا للمطلوب.

خلال السنوات التالية، أثبتت قطعتهما العبقرية من العمل البحثي النظري بشكل تام. حيث تم رصد الجسيمات الجديدة التي استدلا على وجودها، وتكشفت تفاعلاتها على النحو الذي أقره كوباياشي وماسكاوا.

قبل إنهاء هذا الجزء، أود أن أضيف خاتمة فلسفية. هل المبادئ المقدسة مقدسة بالفعل؟ بالتأكيد لا. فإن كانت التجارب تجبر العلماء على تعديل تلك المبادئ، فإنهم سيعدلونها في النهاية. ولكن حاليًا، تبدو المبادئ المقدسة جيدة للغاية. وكان من المثمر بالفعل اتخاذ تلك المبادئ على نحو جاد.


(4)

حتى الآن، رويت قصة الانتصار. ولكن سؤالنا المائل، وهو أحد الألغاز الأكثر إثارة للانتباه حول كيفية عمل العالم، قد حصل على إجابة عميقة، جميلة، ومثمرة.

ولكن يبدو أن هناك مشكلة.

فبعد سنوات من عمل كوباياشي وماسكاوا، اكتشف العالم جيرارد هوفت ثغرة في شرحهما لثباتية عكس الزمن. تسمح المبادئ المقدسة بنوع إضافي من التفاعل. يبدو التفاعل الجديد المحتمل خفيًا للغاية، ومثل اكتشاف هوفت مفاجأة لمعظم علماء الفيزياء النظرية.

وسيؤدي التفاعل الجديد، في حال حدث مع قوة كبيرة، إلى كسر ثباتية عكس الزمن بطرق أكثر وضوحًا من التأثير الذي اكتشفه كورنين، فيتش وزملائهما. بشكل دقيق، سيسمح لدورة النيترون بتوليد مجال كهربي، بالإضافة إلى المجال الكهربي الذي لوحظ أنه يتسبب به. المجال المغناطيسي الخاص بدوران النيترون مماثل على نطاق واسع للخاص بدوران الأرض، رغم الاختلاف الكبير بين نطاقيهما بالتأكيد. بحث العلماء بكد عن تلك المجالات الكهربائية، ولكن حتى الآن خرجوا خاليو الوفاض.

لا تختار الطبيعة أن تستغل ثغرة هوفت. وهو حقها بالتأكيد، ولكن ذلك يثير سؤالًا جديدًا، لماذا تطبق الطبيعة ثباتية عكس الزمن بدقة شديدة؟

طُرح العديد من التفسيرات، ولكن واحد منها فقط صمد مع مرور الوقت. وتنسب الفكرة الأساسية لروبيرتو بيشيوهيلين كيونن. وينطوي مقترحهما، على غرار الخاص بكوباياشي وماسكاوا، على توسيع النموذج القياسي بشكل محدد إلى حد ما. ليشمل مجال تحييد، والذي يكون سلوكه حساسًا بشكل خاص تجاه تفاعل هوفت الجديد. بالفعل، إن حدث ذلك التفاعل الجديد، فإن حقل التحييد سيعدل القيمة الخاصة بها، حتى يلغي تأثير ذلك التفاعل. تبدو تلك العملية التعديلية مشابهة إلى حد كبير لكيفية اجتماع الإلكترونات المشحونة سلبًا في جسم صلب حول الشوائب المشحونة إيجابًا، وبالتالي فإنها تظهر تاثيرها. ومن ثم فإن مجال التحييد يغلق ثغرتنا.

أشرف بيتشي وكيونن على نتيجة هامة يمكن اختبارها لفكرتهم. حيث توقعا أن الجسيمات التي تنتج عن مجالهما التحييدي تمتلك خصائص جديرة بالملاحظة. وبما أنهما لم يسجلا ملاحظات بشأن تلك الجسيمات، فإنهما لم يحدداها. قدم لي ذلك فرصة لتحقيق حلم مراهقتي.

فقبل سنوات قليلة، لفت نظري مظهر مربعات ملونة بألوان زاهية لمنظف غسيل يسمى “أكسيون”. بدا الأمر لي أن “أكسيون” تبدو كاسم جسيم، ويجب أن يكون كذلك. لذا عندما لاحظت جزيئًا جديدًا حل مشكلة مع تيار “محوري”، شهدت فرصتي تمر أمامي. (وعلمت بعد فترة وجيزة أن ستيفين وينبيرج قد لاحظ هذا الجسيم أيضًا، بشكل مستقل. وأطلق عليه “هيجليت”. واتفق بلطف، وبحكمة حسبما أظن، على التخلي عن ذلك الاسم. وبالتالي بدأ ملحمة لم تحن كتابة خاتمتها بعد.

ففي تسجيلات مجموعة بيانات الجسيمات، ستجد صفحات عديدة تتناول عشرات التجارب وتصف عمليات بحث غير ناجحة بصدد “أكسيون”.

ولكن هناك مؤشرات تدعو للتفاؤل.

تتنبأ نظرية الأكسيونات، بشكل عام، بأن الأكسيونات يجب أن تكون خفيفة للغاية، وطويلة العمر، والتي تكون تفاعلاتها مع المواد العادية ضعيفة للغاية. ولكن لمقارنة النظرية بالتجربة، نحن في حاجة إلى أن نكون كميين. وهنا نلتقي بالغموض، لأن النظرية القائمة لا تصلح قيمة كتلة الأكسيون. فإن أمكننا معرفة كتلة الأكسيون يمكننا التنبؤ بجميع خصائصه. ولكن الكتلة نفسها يمكن أن تختلف على نطاق واسع. (تظهر ذات المشكلة بالنسبة للكوارك المسحور، جسيم هيجز، الكوارك الأعلى وآخرين عدة. قبل اكتشاف تلك الجسيمات، تنبأت النظرية بجميع خصائصها فيما عدا قيمة كتلتها. وتبين أن قوة تفاعلات أكسيون خاضعة لكتلتها. فبينما تنخفض القيمة المفترضة لكتلة الأكسيون، يصبح الأكسيون أكثر مراوغة.

في الأيام الأولى، ركز الفيزيائيون على نماذج يكون فيها الأكسيون مرتبطًا بجسيم هيجز. أشارت تلك الأفكار إلى أن كتلة الأكسيون يجب أن تكون 10keV – أي، حوالي خمس كتلة الإلكترون. وبحثت معظم التجارب التي أشرت إليها آنفًا عن أكسيونات تحمل تلك الصفات. ولكن حاليًا، يمكن أن نكون متأكدين من أن تلك الأكسيونات غير موجودة.

وبالتالي، تحول الاهتمام نحو قيم أصغر من كتلة الأكسيون (وبالتالي وصلات أضعف)، والتي ليست مستبعدة بالتجربة. تظهر الأكسيونات من ذلك النوع بشكل طبيعي للغاية في النماذج التي توحد التفاعلات المنتمية إلى النموذج القياسي. كما تظهر في نظرية الأوتار.

وفق حساباتنا، يفترض أن الأكسيونات قد انتجت بوفرة خلال اللحظات المبكرة من الانفجار الكبير. وإن كانت الأكسيونات موجودة من الأساس، فإن الأكسيون المائع سينتشر في العالم. فبالكاد يشبه أصل الأكسيون السائل أصل إشعاع الموجات متناهية الصغر (مايكروويف)، ولكن هناك ثلاثة اختلافات رئيسية بين الكيانين. أولًا: رُصدت موجات الميكروويف بالفعل، بينما يظل سائل الأكسيون مجرد فرضية. ثانيًا: لأن للأكسيونات كتلة، يساهم سائلها بشكل كبير في الكثافة الكلية لكتلة الكون. في الحقيقة، ووفق حساباتنا، نفترض أنها تساهم بمجرد مقدار الكتلة التي سماها علماء الفلك “المادة المظلمة”. ثالثًا، لأن الأكسيونات تتفاعل بضعف شديد، يكون من الأصعب كثيرًا ملاحظة فوتوناتها بالمقارنة بموجات الميكروويف.

يستمر البحث التجريبي عن الأكسيونات على عدة جبهات. وتهدف اثنتان من التجارب الواعدة إلى اكتشاف سائل الأكسيون. إحداهما، تجربة المادة المظلمة للأكسيون، تشتمل على هوائيات مصنعة خصيصًا وشديدة الحساسية لتحويل الأكسيونات إلى نبضات كهرومغناطيسية. والأخرى، تجربة دوران الأكسيون الكوني، تبحث عن تذبذبات ضئيلة في حركة الدورات النووية، والتي ستنجم عن سائل الأكسيون. تعد التجربتان الصعبتان بتغطية كامل نطاق كتلات الأكسيون الممكنة تقريبًا.

هل تتواجد الأكسيونات؟ لازلنا لا نعلم بشكل أكيد. وسيؤدي وجودها إلى إيجاد خاتمة مثيرة ومرضية لقضية السهم الزمني القابل للعكس، وبشكل محتمل للغاية أن يحل لغز المادة الداكنة. يبدو أن اللعبة مستمرة على قدم وساق.

المراجع
  1. Time’s (Almost) Reversible Arrow