احتلت «فلسفة اللغة» الجزء الأكبر من القرن العشرين، وبرز مصطلح «التحول اللغوي – linguistic turn» للدلالة على النقلة الفلسفية التي أحدثتها المدرسة التحليلة بجعلها اللغةَ مركزًا للبحث الفلسفي؛ واعتبارها المجالات الفلسفية الأخرى هي تبع لفلسفة اللغة؛ تعتمد عليها في حلّ مشكلاتها.

واستتبع الاعتقاد بأن لغتنا هي تعبير أولي عن قدراتنا العقلية الأساسية؛ دراسة تلك القدرات لفهم كيفية قيام اللغة بوظائفها. فانتقل مركز البحث الفلسفي المعاصر من اللغة إلى العقل، وأصبحت «فلسفة العقل» أهم الموضوعات الفلسفية المعاصرة؛ فظهر حقل جديد هو حقل العلوم المعرفية «Congnitive Science» والتي تعرّفها «موسوعة أونيفرساليس»، بأنّ: «موضوعها وصف وتفسير وتحفيز الاستعدادات الأساسية وقدرات الذهن البشري مثل اللغة، التفكير، الإدراك، التوافق الحركي، التخطيط… إلخ». وهي -أي العلوم المعرفية – تجمع مجالات مخصصة لدراسة المعرفة: علوم الأعصاب، علم النفس، الذكاء الاصطناعي، الرياضيات التطبيقية، نمذجة الوظائف الذهنية …إلخ.


الثنائية والذكاء الاصطناعي القوي

بدأت فلسفة العقل فعليًا مع أعمال رينيه ديكارت؛ والذي اشتهر عنه اعتقاده بمبدأ الثنائية؛ أي أن العالم ينقسم لنوعين من الجواهر، جواهر عقلية وجواهر مادية. ولا بدّ للـ«جوهر Substance» من «ماهية Essence» أو ميزة خاصّة تميزه. فماهية الأجسام هي «الامتداد extension» أي امتلاك أبعاد مكانية، وماهية العقل هي الوعي أو كما سماه ديكارت «التفكير thinking». والكائنات الإنسانية الحية مركبة من جسد وعقل، والعقل غير قابل للانقسام؛ فكل عقل هو نفس خالدة، والذات الإنسانية التي نشير إليها بكلمة «أنا» هي عقل مرتبط بالجسد بصورة ما.

كانت الثنائية الديكارتية مهمة للغاية في القرن السابع عشر لعدة أسباب، فبعد الاصطدام بين العلم والدين في ذلك القرن، بدت محاولات ديكارت وكأنها تعطي العالم المادي إلى العلماء والعالم العقلي إلى اللاهوتيين، وعُدّت العقول نفوسًا خالدة، خارج نطاق البحث العلمي.

أما في القرن العشرين والواحد والعشرين، فشاع الرفض التام للثنائية الديكارتية؛ لافتقادها بشكل أساسي لتصور واف عن علاقة العقل بالجسد. ونجد فليسوف العقل الشهير جيلبرت رايل يستهزأ بالتصور الديكارتي بوصفه: مبدأ «الشبح في الآلة»، حيث كل منا شبح «عقلنا» يسكن آلة «جسدنا».

وتمثل الحلّ حينذاك في اللجوء إلى المادية لتلافي عيوب الثنائية الديكارتية، ولصعوبة التوفيق بين الفكرة القائلة بأن «العقل جوهر مستقل» وبقية ما نعرفه عن العالم. وظهرت فكرة بدت وكأنها ستحلّ المشكلة الفلسفية التي واجهت الفلاسفة لـ2000 عام، وهي: أنّ ما نسميه عقلاً هو حاسوب رقمي أو برنامج، والحالات العقلية هي خوارزميات في المخ، فالدماغ/المخ عبارة عن حاسوب رقمي والعقل ليس إلا برنامجًا أو مجموعة برامج.

وسُمي هذا الرأي باسم «وظيفة الحاسوب»، وأطلق عليه الفليسوف الأمريكي جون سيرل «الذكاء الاصطناعي القوي». ووفقًا لذلك الرأي فالحاسوب الرقمي المبرمج لا يقلد امتلاك العقل فقط، ولكنه يمتلك بالفعل عقلاً! فإذا كانت مشكلة الثنائية الديكارتية الأساسية في العلاقة الخفية بين الجسد والعقل، فإن العلاقة بين البرنامج – العقل – والأجزاء المادية للحاسوب -الجسد- علاقة واضحة ومعروفة، يعرفها كل طالب في قسم علم الحاسوب بجامعات العالم.


استعارة الذهن حاسوب

قبل البدء في تحليل الاستعارة التي يعتمد عليها «الذكاء الاصطناعي القوي» في فهم العقل؛ لا بدّ من تعريف «نظرية الاستعارة»، وما المقصود من «التصور الاستعاري».

نظرية الاستعارة هي مبحث رئيسي في اللسانيات المعرفية يسعى لوضع أسس تفسيرية للأنسقة التصورية واللغة في مجال الدراسة العامة للدماغ والذهن اعتمادًا على العلوم المعرفية. وفي كتاب «الاستعارات التي نحيا بها» لكل من جورج لايكوف ومارك جونسون، قدم المؤلفان الكثير من المعطيات التي تسعى لبيان طبيعة «التصور الاستعاري» وأنّ الاستعارة ليست خاصة باللغة ولكنها خاصة بالفكر، فهي ليست زخرفة لغوية ولكنها طريقة لفهم تجربة معينة من خلال تجربة أخرى (نتصور الزمن مالا، مثلا)، أي نفهم تجربة الزمن من خلال تجربة المال؛ فنقول: «عليّ أن أدبر وقتي»، «صرفتُ وقتًا كثيرًا في هذا الأمر»، «هذا الأمر سيكلفك الكثير من الوقت»، «خسرت وقتًا لا يستهان به».

فتجربة المال تجربة مادية، ترتكز على تصورات منبثقة بصورة طبيعية من تجربتنا، أما تصور الزمن فتصور مجرد، فالتصورات المادية تعمل على بَنْيَنة التصورات المجردة، وتحتاج الأخيرة إلى عماد مادي يرسخها تجريبيًا.

لنظرية الاستعارة ومفهوم الاستعارة التصورية اقتضاءات فلسفية مهمة تتعلق بالمعنى ونظريات الصدق وبالفلسفة في عمومها، وملخصها -بعيدًا عن براهينها- أن الاستعارات تصورية في طبيعتها، وتنشأ من تجربتنا اليومية والفكر المجرد استعاري بشكل واسع وهو حتمي لا يمكن تجنبه ولا واع في أغلبه. والتصورات المجردة لها نواة حرفية ولكنها لا تتوسع ولا تكتمل إلا بواسطة الاستعارة. فالحب ليس حبًا بدون استعارات السحر، الانجذاب، الجنون… والزمن لا يكتمل معناه بدون استعارة الزمن المتحرك (حيث الزمن يأتي ويمضي ويُستقبل)، ونحن نمارس حيواتنا بناء على تلك الاستعارات.

نعود لاستعارة «الذهن حاسوب» التي يأخذها أصحاب «الذكاء الاصطناعي القوي» بصورة حرفية، ويعتبرانها حقيقة علمية، فبالنسبة لهم التصورات رموزًا صورية، والفكر حوسبة أي معالجة للرموز، والذهن برنامج حاسوبي. حيث الشخص حاسوبًا ماديًا، ويُبَنيَن الذهن باعتباره برنامجًا لذلك الحاسوب، والتصورات بالرموز، والنسق التصوري بلغة الحاسوب، والتفكير بمعالجة الرموز، والفكر خطوة بخطوة بالخوارزميات الحوسبية، والذاكرة هي قاعدة المعطيات، والقدرة على الفهم هي القدرة على الحوسبة بنجاح.

ويذهب الذكاء الاصطناعي القوي إلى أن الفهم البشري ليس سوى إقامة الحوسبات -أي معالجة الرموز الصورية- بصورة صحيحة!


حجة الغرفية الصينية

تعد حجة الغرفة الصينية للفليسوف الأمريكي جون سيرل أحد أشهر الأدلة الفلسفية المناهضة للذكاء الاصطناعي القوي، وتحظى بقبول واسع، حيث توصل سيرل إلى أن الحواسيب ليس باستطاعتها أن تفهم أي شيء. فإذا كان الذكاء الاصطناعي القوي صادقًا؛ فيمكن لأي شخص أن يكتسب المقدرة المعرفية بتطبيق البرنامج الحاسوبي الخاص بتلك المقدرة.

ويطبق جون سيرل هذه الفكرة على اللغة الصينية، فهو لا يفهم اللغة الصينية، وتبدو له الكتابة الصينية خربشات لا معنى لها، ويفترض أنه محبوس في غرفة مليئة بصناديق بها حروف صينية، ويملك كتابًا للقواعد اللغوية – أي برنامجًا – يُمكّنه من الإجابة على الأسئلة التي تطرح عليه باللغة الصينية، بصورة لا تختلف عن المتحدث السليقي للصينية. وهنالك أناس خارج الغرفة يسلمونه مجموعة من الرموز الصينية؛ فيقرأ التعليمات الموجودة في كتاب القواعد -البرنامج الذي يعالج الرموز المعطاة- ويرد عليهم بجموعة أخرى من الرموز كأجوبة؛ فيسلمونه سؤالا: «ما لونك المفضل». فيقوم باتباع تعليمات كتاب القواعد ويرد برموز لا يفهمها: «لوني المفضل أزرق». ولا يستطيع من هم خارج الغرفة تحديد إذا كان المجيب بشريًا كان أم آلة!

فجون سيرل هو «الحاسوب»، وكتاب القواعد هو «برنامج الحاسوب»، وأجوبته لا تتميز عن تلك التي يأتي بها المتكلم السليقي للصينية، أي يُفترض في أجوبته اجتياز اختبار «آلان ترونج Turing Test» (أي إذا أجابت آلة على أسئلة طرحت عليها باللغة الصينية ولم يستطع متكلم الصينية أن يميز بين إجاباتها وإجابة متحدث سليقي للصينية؛ فنقرّ حينذاك بأن الآلة فهمت الإنسان الصيني، وهي ذكية). ولكن على الرغم من ذلك فجون سيرل لا يفهم الصينية، ولا سبيل لفهم الصينية بهذه الطريقة، فنخلص بأنه لا يمكن لأي حاسوب أن يفهم الصينية بناءً على معالجته للرموز وفق القواعد الموجودة في برنامج ما. وما يسري على الصينية يسري على أشكال المعرفة الأخرى، وإن معالجة الرموز لا تكفي لضمان حصول المعرفة والإدراك والفهم.


استعارات حجة الغرفة الصينية

هذه الحجة ظلت لأكثر من عشرين عامًا، الدليل البسيط والحاسم على تفنيد مزاعم الذكاء الاصطناعي القوي. وعلى الرغم من إنكار جون سيرل -كفليسوف تحليلي مدافع عن التقليد الأنجلوأمريكي- لوجود فكر استعاري شبيه بما يقدمه جورج لايكوف ومارك جونسون في طرحهما عن الاستعارة التصورية، فإن حجته -حجة الغرفة الصينية- هي دليل استعاري يتعذر اختزاله.

تستند الحجة والتي تُصوّر عمل الحاسوب باعتباره الشخص الموجود في الغرفة، على استعارة فرادية حيث البرنامج الحاسوبي كتاب للقواعد، والرموز الصورية هي الرموز الصينية، ومعالجة الرموز الصورية معالجة للحروف الصينية، ولغة الحاسوب هي متوالية الرموز الصينية، وقاعدة المعطيات في لغة الحاسوب صناديق الرموز، والدخول الرمزية هي الأسئلة المعطاة، والخروج الرمزية هي الأجوبة المعطاة.

ما يجعل تلك الاستعارة قابلة للتصديق هو استنادها على استعارات أخرى مألوفة وشائعة: «استعارة اللغة الصورية»، و«استعارة المعالجة الرمزية»، ففي «استعارة اللغة الصورية» ينظر إلى الكيانات الرياضية الخالية من المعنى استعاريًا فتُتصور رموزًا مكتوبة بلغة لا نفهمها، وهي اللغة الصينية التي اختارها سيرل. وبواسطة «استعارة المعالجة الرمزية» يُنظر إلى التأليفات المجردة للكيانات الرياضية استعاريًا فتتصور معالجة لأشياء فزيائية. ويستعين سيرل بشخص يعالج فعليًا أشياء فزيائيًا، واختيارات سيرل في حجته تُطابق الاستعارات المستعملة في تدريس علم الحاسوب، ولذا فهي تبدو طبيعية، بالإضافة لاستخدامه استعارة الآلة الشخص، والتي نجدها في جمل من قبيل: «سيارتي ترفض الانطلاق»، «هذا الفرن يطهو الطعام في خمس دقائق»، «الهاتف لا يجيب». حيث اشتغال الآلة يعد إنجازًا من قِبل شخص، وفشلها في الاشتغال؛ رفضًا للإنجاز.

تتيح استعارة حجة الغرفة الصينية، نسخًا استعاريًا من مجال المصدر إلى مجال الهدف، بمقتضاه يُعدّ عدم فهم سيرل لمعاني الحروف الصينية؛ عدم فهم الحاسوب لمعاني الرموز الصورية، وهذا استنتاج استعاري بامتياز، كما يعبر لايكوف وجونسون.

وما يهمله هذا النسخ، أن الشخص الموجود في الغرفة يفهم أشياء عدّة، فهو يفهم اللغة الإنجليزية التي كُتب بها كتاب القواعد، ويفهم كتاب القواعد نفسه، ويعرف أنه في غرفة، وأنه يقوم بمعالجة أشياء، وهي رموز، ويفهم أنه لا يفهم الرموز!

يهمل جون سيرل في حجته، أيّ «فهم». فيستعمل «أنا حاسوب» و«كتاب القواعد برنامج حاسوب»، ولكنه يهمل «فهمي لكتاب القواعد هو فهم الحاسوب للبرنامج»! فيستنتج من عدم فهمه للرموز الخالية من المعنى – الحروف الصينية – أن الحواسيب لا يمكنها أن تفهم عبر معالجة الرموز الخالية من المعنى، ولا يستنتج من فهمه لكتاب القواعد، فهم الحاسوب للبرنامج!

حسنًا، لا يمكننا اعتبار دليل جون سيرل دليلاً حرفيًا – كما يعتبره هو نفسه – ضد الذكاء الاصطناعي القوي، ولكنه دليل استعاري قوي – بالرغم رفض سيرل لذلك – نظرًا لاستخدامنا تلك الاستعارات التي استخدمها سيرل (اللغة الصورية، معالجة الرموز، الآلة الشخص)، يعلق جورج لايكوف ومارك جونسون بقولها:

«إن فهمنا للأنشطة الذهنية ولماهيتها يُصاغ استعاريًا، انطلاقًا من الأنشطة المادية، مثل التحرك، الرؤية، معالجة الأشياء، الأكل […]، ولا يمكننا أن نفهم الذهن بدون هذه الاستعارات، إن الذهن ليس كيانًا مجردًا وملغزًا يُمكننا من أدائنا لتجربتنا. إن الذهن، بالأحرى، جزء من بنية تفاعلاتنا مع عالمنا».

المراجع
  1. العقل، مدخل موجز – تأليف: جون سيرل، ترجمة : ميشيل حنا متياس
  2. الاستعارات التي نحيا بها – تأليف: جورج لايكوف ومارك جونسن، ترجمة: عبد المجيد الجحفة
  3. الفلسفة في الجسد – تأليف: جورج لايكوف ومارك جونسن، ترجمة: عبد المجيد الجحفة