رغم أن النوم يشغل ربع أو ثلث حياة البشر، ويمارسه الجميع بالطبع، ما يزال الكثير من تفاصيله يحيط به الأسرار، ويحاول البحث العلمي سبر أغواره من كل الجوانب، وتحظى الأبحاث في هذا المجال بالكثير من الاهتمام من الباحثين والمتابعين. على سبيل المثال، كانت جائزة نوبل في الطب العام الماضي 2017، من نصيب ثلاثة باحثين اكتشفوا آلية عمل الساعة البيولوجية التي تتحكم في الكثير من أنشطتنا اليومية، وعلى رأسها النوم.

انظر: نوبل في الطب لمكتشفي آلية عمل الساعة البيولوجية

لا نحتاج لدراسات علمية لتخبرنا عن أهمية النوم لنا. فنحن نعرف جميعًا إحساس التجدد والنشاط الذي يغمرنا عندما نأخذ قسطًا وافيًا من النوم. لكننا نريد أن نلفت الأنظار إلى تراكم الأدلة العلمية حول خطورة الحرمان من النوم الجيد، والذي يدق ألف ناقوس للخطر. فالضرر ليس مجرد الإحساس بالإرهاق، وعدم التركيز أثناء النهار، بل يتعدى ذلك إلى مخاطر كبيرة على الصحة الجسمانية والنفسية.

لكن أولًا نبدأ بنبذة بسيطة عن الساعة البيولوجية.


الساعة البيولوجية التي نفسد حياتنا عندما نعبث بعقاربها

وجعلنا نومَكُم سُباتًا * وجعلنا الليلَ لباسًا * وجعلنا النهار معاشا
القرآن الكريم – سورة النبأ، الآيات من 9-11.

النظام اليوماني أو circadian rhythm هو ظاهرة مهمة في معظم الكائنات الحية، وعلى رأسها الإنسان، الذي يمتلك الشكل الأرقى منه. وهو عبارة عن تغيرات تحدث على مدى اليوم، مع اختلاف الليل والنهار، في النشاط الجسماني والانفعالي والعقلي، وهذا النظام اليوماني تخلقه ساعاتنا الداخلية أو البيولوجية. يتحكم في ساعتنا البيولوجية منطقة مهمة في المخ، هي الهايبوثالامس أو تحت المهاد، والذي يتحكم أيضًا في درجة حرارتنا، ودورة المياه في أجسامنا، وانفعالاتنا… إلخ من الوظائف المهمة.

يتحكم تحت المهاد في إفراز هرمون الكورتيزون نهارًا، والذي يزيد من اليقظة والنشاط في الصباح، وهرمون الميلاتونين مساءً، والذي يعزز الإحساس بالإرهاق والرغبة في النوم. مع انتشار ضوء النهار، ترسل شبكية العين إشارات عصبية إلى تحت المهاد ليأمر بزيادة إفراز الكورتيزون، وتقليل الميلاتونين. والعكس يحدث مع الظلام مساءً.

لكن من صفات النظام اليوماني أنه يتأثر كثيرًا بالمتغيرات البيئية المحيطة، والتي قد تفسد المعايرة الطبيعية له، مما يسبب شعور الجسم بعدم الاتزان، ريثما يعيد تعديل نفسه ليتوافق معها. كما يحدث لأيام عدة بعد السفر بالطائرة لمنطقة مختلفة في التوقيت، أو عندما تجبر نفسك على عدم النوم ليلًا لعدة أيام، فتجد نفسك بشكل آلي تشعر بالإرهاق صباحًا وتريد النوم، والعكس مساءً.

لكن التأقلم الاضطراري للساعة البيولوجية مع أوضاع غير طبيعية كانعكاس دورة النوم، لا يعني أن الأمر قد مرَّ بسلام، وليست له أضرار.. وموضوعنا اليوم إثبات لذلك.


اضطرابات الساعة البيولوجية خطر على الصحة النفسية

رغم أن نتائج دراستنا لا تحسم تمامًا ما الذي يسبب الآخر، إلا أنها تعزّز فكرة وجود علاقة قوية بين اضطرابات الساعة البيولوجية، والاعتلالات النفسية المزاجية الخطيرة كالاكتئاب والهوس. كما أنها قدمت دليلًا على أن التغييرات غير الطبيعية في أوقات وأنماط الحركة والسكون، ذات ارتباطٍ وثيق بإحساس الإنسان بالتعاسة، وبنقص كفاءة أنشطته العقلية.

البروفسور لورا ليال، من معهد الصحة والرفاه التابع لجامعة جلاسجو بأسكتلندا، ورئيسة الفريق البحثي الذي أنجز هذه الدراسة.

في الخامس عشر من مايو الحالي، وفي دورية the Lancet العلمية الشهيرة، نُشرَت في مجلة الطب النفسي نتائج دراسة هي الأكبر حجمًا بين دراساتٍ عديدة تناولت العلاقة بين النوم والأمراض النفسية. أكدت الدراسة الجديدة وجود علاقة قوية إحصائيًا بين العديد من الأمراض النفسية المهمة، واضطرابات الساعة البيولوجية، وما يصاحبها من اضطرابات في النوم.

أهم الأمراض النفسية المذكورة في الدراسة هي اعتلالات المزاج النفسي، كالاكتئاب، والهوس، والاضطراب ثنائي القطبية الذي يجمع بينهما بالتبادل. وكذلك التغيرات المزاجية الحادة، ونقص الإحساس بالسعادة، وتفاقم الشعور بالوحدة، وتذبذب الأنشطة العقلية والذهنية. وقد مُولَّت الدراسة من قبل معهد ليستر للطب الوقائي بالمملكة المتحدة.

أهم مميزات الدراسة الجديدة

استفادت الدراسة من مشروع UK bio-bank العملاق في إنجلترا، والذي انضم إليه بين عامي 2006 و2010 أكثر من نصف مليون إنسان، تتراوح أعمارهم بين 40 و69 عامًا، وافقوا طواعية على أخذ عينات منهم، وبيانات عن صحتهم لتحليلها، واستخدامها في الدراسات الطبية والعلمية الكبرى خاصة في مجال الطب الوقائي، وأيضًا وافقوا على استمرار المساهمة في أية أنشطة بحثية مستقبلة.

انتقت الدراسة عددًا ضخمًا من حالات المشروع العملاق، يفوق 91 ألفًا، وهو أكبر بكثير من الأعداد التي اشتركت في دراساتٍ سابقة في نفس المجال. ركز الفريق البحثي على اختيار وسيلة موضوعية لتقييم تغيرات الساعة البيولوجية في الأفراد محل الدراسة، فاستخدموا جهازًا إلكترونيًا يوضَع حول المعصم، يقوم لمدة أسبوع بتسجيل فترات الحركة والسكون للشخص، فيستدل بها على الأوقات الفعلية للنوم واليقظة. في الدراسات القديمة في هذا الموضوع كان الاعتماد على تقارير ذاتية من المشاركين عن أوقات يقظتِهم وسكونهم، وهذا بالطبع أقل دقة من الطريقة التي تمَّ اعتمادها في الدراسة الحالية، والتي تحيِّد العنصر البشري كثيرًا.

تم جمع البيانات بين عامي 2013 و 2015، وكذلك طُلب من المشاركين الإجابة على عدة استبيانات بخصوص حالتهم النفسية، وبوادر ظهور أعراض الاعتلالات النفسية، وكذلك مدى إحساسهم بالرضا عن أنفسهم وحياتهم. خضعت النتائج لجهدٍ إحصائي وتحليلي كبير، وذلك لبحث مقدار ودلالة العلاقات بين المتغيرات في الساعة البيولوجية، وظهور الاضطرابات النفسية التي ذكرناها، وكذلك لاستبعاد أية تأثيرات لعوامل أخرى خارجية على الدراسة مثل العمر، والجنس، ومكان الإقامة، ومستوى التعليم، وحوادث الطفولة، وكذلك بعض العادات غير الصحية كالتدخين، وإدمان الكحوليات… إلخ، وذلك لضمان جودة النتائج، وتعبيرها عن عنوانها الكبير.

أهم المآخذ على الدراسة

لا يخلو أي مشروع بحثي، مهما بلغت ضخامته وكفاءة المشاركين فيه، من مآخذ. لكن الأهم ألا تكون هذه المآخذ في صلب بنية الدراسة، بحيث تخل بمصداقيتها، وتلغي نتائجها جذريًا. وكانت أبرز الانتقادات للدراسة الحالية ما يلي:

  • الدراسة أثبتت بالفعل وجود علاقة بين الاضطرابات النفسية المذكورة، واضطرابات الساعة البيولوجية، لكنها لم تحسم في اتجاه العلاقة. بمعنى أننا لا نعرف تحديدًا ما السبب، وما النتيجة. فاضطرابات النوم والساعة البيولوجية من الأعراض الشهيرة والمبكرة للكثير من اعتلالات المزاج النفسي، خاصة الاكتئاب والهوس.
  • متوسط أعمار المشاركين يتراوح بين 54 و68 عامًا. ومن المعلوم أن اعتلالات المزاج النفسي غالبًا ما تبدأ في المراهقة، والشباب المبكر قبل بلوغ عمر 25 عامًا. ولذا ينصح الخبراء بإجراء دراسة مماثلة عن تلك الشريحة العمرية، ويتوقعون أن نتائجها الإحصائية ستكون أقوى في التعبير عن القضية المطروحة.
  • هناك فاصل زمني كبير نسبيًا بين أخذ البيانات الأولية للمشاركين بين عامي 2006-2010م، ثم بيانات الحركة والسكون الإلكترونية 2013-2015، ثم بيانات الاستبيانات النفسية 2016-2017م.

الخلاصة: فلنحاول انتزاع المزيد مما تستحق أجسامنا من نوم رغم أنف أنماط الحياة المعاصرة ودواماتها، وإلا فقائمة غير محببة من الأمراض النفسية والجسدية في الانتظار.