مشاهد مُتخمة بالانفعالات المتناقضة تحملها لنا وسائل الإعلام المحلية والعالمية، ومواقع التواصل، من جنوبي منطقة القوقاز، تلك البقعة الحيوية التي تحتل موقعًا فريدًا في خارطة غربي آسيا الجيو- سياسية.

المئات من الأرمن -المسيحيين الأرثوذوكس- يتكلمون بحرقة أمام عيون الكاميرات، ويُعبّرون عن مرارة الهزيمة في الحرب، وعن ألم خذلان الحلفاء الروس ورئيسهم بوتين، ويفرغون جام غضبهم على بيوتٍ سكنوها لسنواتٍ، وقرروا أن يحرقوها حتى يحيلوها رمادًا، فلا يستفيد منها المنتصرون، الذين هم العدو الإثني والعقائدي لهم على مدار عقود، الأذربيجانيون، المسلمون الشيعة، أتراك القومية.

في المقابل، يحتفل الآلاف من «الأذر» في شوارع عاصمتهم باكو ومختلف مناطق بلادهم، ويذرفون الدموع الحارة وهم يشاركون مقاطع رفع الأذان من المآذن الباقية التي ظلَّت صامتةً لما يقارب 28 عامًا، في المناطق التي حرَّرها جيشهم للتوّ من قبضة الأرمن. لكن عبارة معينة ذات دلالة غائرة كانت تتردد كثيرًا في الفضاء الأذربيجاني، لتعبر عن عنوانٍ بارز لذلك الانتصار العسكري، وهي «لقد حققنا بعض العدالة لضحايا خوجالي»، في إشارة لا تُنسى للمجزرة التي وقعت عام 1992م، والتي أصبحت أيقونة الحرب الكبرى التي اندلعت بين الطرفين منذ 30 عامًا، وراح ضحيتها عشرات الآلاف من الناس، وفقدت خلالها أذربيجان ما يقارب 20% من مساحتها.

وقبل أن نسلط الأضواء على خوجالي، وما وقع فيها في فبراير/شباط من عام 1992م، سيتعيّن علينا أن نُعيد عقارب الساعة إلى الوراء قليلاً لنفهم الخلفيات التاريخية التي قادت إلى خوجالي وما تلاها.

قره باغ.. الحديقة السوداء وسنواتها الحمراء

في الوقت الذي انصرفت فيه أسماع وأبصار وعقول العالم إلى كل ما يتعلق بجائحة الكوفيد – 19 العالمية التي حصدت أرواحَ مئات الآلاف من البشر، والتهبت الساحة السياسية بكل ما يتعلق بمعركة الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2020م وتوابعها المتوقعة، فوجيء الكثيرون بحرب كبيرة بين دولتيْ أذربيجان وأرمينيا، سببها الرئيس إقليم قره باغ -التسمية تعني الحديقة السوداء- المتنازع عليه بين الدولتيْن منذ أكثر من 30 عامًا، وبين الأرمن والأذريين منذ أكثر من قرنيْن.

في السابع والعشرين من سبتمبر/أيلول 2020م، اندلعتِ المعارك واشتدَّ القصف على طول خطوط الجبهة بين الطرفين. في الأيام التالية، تبيَّن للجميع أنها ليست المناوشات المعتادة من حينٍ لآخر على خطوط الجبهة المحتقنة، أو عملياتٍ عسكرية محدودة كالتي وقعت عاميْ 2016 و 2018، إنما هذه المرة نحن أمام حربٍ مفتوحة، بدأت تأخذ طابعًا إقليميًا، مع إعلان الحليف التركي دعمه الكامل غير المشروط لأذربيجان حتى تتحرر كامل أراضيها مما أسمتْه الاحتلال الأرمني، وعالميًا، مع انضمام المئات من المتطوعين من أصحاب الأصول الأرمنية حول العالم إلى الجهد العسكري الأرمنى لمواجهة ما اعتبروه إبادة تركية جديدة.

منذ قرون، عاش الأرمن والأذريون في تلك المنطقة متجاورين رغم الصدامات المتفرقة أحيانًا. لكن منذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، أخذت الصراعات تحتدم نتيجة متغيرات عديدة فرضتها حلقاتٌ متتالية من صدام القوى الكبرى المحيطة بالمنطقة، لاسيما الروس والأتراك والإيرانيين، وتغيَّرت الخريطة السكانية كثيرًا لاسيَّما مع التفوق الروسي، وما صحبه من تغوُّل الأرمن، حلفاء الروس، ومعتنقي نفس الديانة والمذهب.

أوائل القرن العشرين، وبالأخص بين عاميْ 1905 و 1906 ثم أثناء سنوات الثورة الشيوعية البلشفية بعد 1917م، وقعت العديد من المذابح التي ارتكبها الأرمن ضد الآذريين في باكو -عاصمة آذربيجان- وفي إقليم قره باغ، بهدف تغيير التوازنات السكانية القائمة لصالحهم، وانتقامًا من التهجير والقتل الذي تعرض له الأرمن في تركيا العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى التي انحازوا فيها للروس ضد العثمانيين. ولم يكن الأرمن يفرقون بين الآذريين والأتراك لصلاتهم القومية المتينة. وبالطبع ردَّ الآذريين بمذابح انتقامية ضد الأرمن في مناطق أغلبيتهم.

مع تربُّع ستالين على عرش الاتحاد السوفييتي الذي هيمن على منطقة القوقاز، رُسِّمَت حدود إقليميْ أذربيجان وأرمينيا عام 1923م، ووُضِع إقليم قره باغ تحت إدارة أذربيجان، رغم وجود أغلبية سكانية أرمنية فيه، لوقوع أراضيه بالكامل في قلب أراضي أذربيجان، معزولًا عن جمهورية أرمينيا من كافة الاتجاهات بمناطق ذات غالبية أذربيجانية فاصلة، لكن مُنِحَ الإقليم ما يشبه الحكم الذاتي. وظلَّت الأوضاع الميدانية بين البلدين الخاضعين شبه مستقرة في عقود القوة السوفييتية التالية.

 

لكن منذ العام 1988م، بدأ الصراع الأذري – الأرمني يعود للواجهة، مع الوهن الذي كان يسري في أوصال الاتحاد السوفييتي وينذر بقرب تفككه. أصدر برلمان إقليم قره باغ في ذلك العام تشريعًا يطلب فيه رسميًا الانضمام إلى جمهورية أرمينيا رغم عدم وجود اتصال جغرافي معه.

ومع سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991م، اندفعت الحرب بين الدولتيْن الخارجتيْن للتوّ من الرحم السوفييتي، وكانت بؤرة الصراع هي هذا الإقليم الجبلي ذي الأغلبية الأرمنية.

كان الأرمن آنذاك أكثر تسليحًا وتنظيمًا، ودعمتهم روسيا الساعية لوأد أطماع تركيا في القوقاز عبر دعم أعدائها الأرمن الأرثوكس الذين اعتبرتهم موسكو ضمن رعيتها الأولى بالحماية، طبقًا لقناعة الكنيسة الروسية بأنها الحامية الأولى للأرثوذكس في العالم، ولهذا لم يكن غريبًا أن يشترك مع الأرمن في عملياتهم العسكرية العديد من الوحدات العسكرية السوفييتية السابقة، جيدة التدريب والتسليح.

ولم يكن السوفييت هم الحلفاء الوحيدون الذين حظي بهم الأذريون، وإنما حظوْا بدعمٍ كبير من إيران المجاورة التي كانت تتخوف من التوجهات الغربية لجمهورية أذربيجان، وعلاقاتها مع كلٍّ من تركيا وإسرائيل، المنافسين الإقليميين لإيران.

 نجح الأرمن خلال 3 سنواتٍ 1991-1994م من الحرب، في تحقيق انتصارٍ عسكري كبير، وفرض استقلال إقليم قره باغ عن آذربيجان بالقوة، وتهجير مئات الآلاف من الأذريين، ليس من هذا الإقليم فحسب، إنما من 7 مناطق أذرية محيطة به،  تمثل خُمس مساحة أذربيجان، واحتلَّها الأرمن لتأمين قره باغ. وأعلن الانفصاليون الأرمن كل تلك الأراضي جمهورية مستقلة تعرف بجمهورية أرتساخ، والتي لم تحظَ بأي اعترافٍ رسمي. وتوقف إطلاق النار منتصف عام 1994م على خطوط الأمر الواقع القائم، والتي مثلَّت إهانة تاريخية لأذربيجان.

لكن لم يكن الانتصار الأرمني في حرب التسعينات نتاجًا للتفوق العسكري فحسب، إنما كان للقسوة المفرطة دورها الحاسم في أبرز تجلياتها الدموية .. المذابح. وهنا حدثت خوجالي.

خوجالي… الانتصار بالذبح على الطريقة الصهيونية 

منذ عام 2008م، أطلقت أذربيجان حملة مكثفة بعنوان: (العدالة لخوجالي) لتعريف العالم بمجزرة خوجالي، وكسب اعتراف الدول والهيئات العالمية بما تمثله تلك الواقعة من مظلومية أذرية، ولحشد الشعب الأذري حول قضية تحرير قره باغ وما حوله من الأقاليم الأذرية المحتلة.

بلغت مساحة منطقة خوجالي الواقعة ضمن إقليم قره باغ حوالي 940 كم مربع، وكان يقطنها عام 1991م عندما اندلعت الحرب، حوالي 7 آلاف نسمة، معظمهم من الأذريين. مثَّلت خوجالي هدفًا حيويًا آنذاك لاحتوائها على المطار الوحيد في المنطقة، ولسيطرتها على خطوط اتصال ومفارق طرق هامة.

منذ أكتوبر 1991م خضعت خوجالي لحصارٍ أرميني مُطبق، فقُطِع اتصالها البري بما حولها، وأُسقطت مروحية حاولت الخروج منها، فقُتِل على الفور 40 مدنيًا أذريًا كانوا على متنها. كان الاستيلاء على خوجالي مفصليًا ليتمكَّن الأرمن من إحكام قبضتهم على الإقليم، ولتأمين عاصمته ستيباناكيرت ذات الغالبية الأرمنية الكاسحة. صمد المسلحون الأذريون داخل المدينة المحاصرة للهجمات الأرمنية المتعاقبة، لكن بدأت الأوضاع الإنسانية تسوء داخلها تدريجيًا، لاسيَّما مع قطع الأرمن للكهرباء بحلول يناير 1992م. وتواصلت محاولات الفرار لمئات المدنيين من المنطقة.

بحلول فبراير 1992م، كان عدد سكان خوجالي قد تقلص إلى ما يقارب الألفيْن، واستعدَّ الأرمن للهجوم النهائي. يوميْ 25 و 26 فبراير، وبعد قصفٍ مدفعي عنيف، اقتحمت القوات الأرمنية، المدعومة باللواء 366 مشاة مؤلَّلة سوفييتية خوجالي، وفرَّ المئات من المدنيين في ليالٍ قارصة البرودة عبر الغابات والجبال القريبة، ليفقد الكثير منهم حياتهم في ظروفٍ مأساوية. أما الذين بقوْا في المدينة، فقد تعرضوا للقتل الوحشي دون تمييز، والذي أعقبه في حالاتٍ كثيرة تمثيلٌ بالجثث.

أحصت المصادر الآذرية مصرع 613 أذريًا في خوجالي، غالبيتهم العظمى من المدنيين، يشملون 63 طفلًا، و107 امرأة، و70 مُسِنًّا. كما جُرِح ما يقارب 500، بينما أُسِر أكثر من 1200. وهناك 150 مفقودًا لم تُعرَف مصائرهم إلى اليوم.

إلى جانب الخسارة التكتيكية والإستراتيجية من جرَّاء سقوط تلك المنطقة الحيوية، أحدثت خوجالي أثرًا شبيهًا بما فعلته مذبحة دير ياسين وأخواتها إبان استيلاء العصابات الصهيونية على فلسطين عام 1948م، فقد سرى الرعب في أوصال الآذريين في قره باغ والأقاليم المجاورة لها مع ذيوع أنباء المقتلة البشعة، وخاف الكثيرون أن ينالوا مصير ضحايا خوجالي، وبدأ عشرات الآلاف من الآذريين في الانسحاب مع اقتراب الميليشيات الأرمينية من مناطقهم.

لجأ الإنكارُ الأرمني لما حدث إلى مساراتٍ عدة، كالتقليل من أرقام الضحايا، واتهام الأذريين بالمبالغة فيها لاستدرار التعاطف المحلي والدولي، وإرجاع سبب هزيمتهم العسكرية إلى وحشية الخصم، وادّعاء أن غالبية الضحايا عسكريون وليسوا مدنيين، وأن معظمهم من الميليشيات الأذرية المسلحة التي كانت تدافع عن خوجالي.

كما حاول المسئولون الأرمن إلقاء مسئولية المذبحة على عاتق الميليشيات الأذرية في خوجالي، متهمين إياها باستهداف المدنيين الفارين عبر المسار الآمن الذي حددته القوات الأرمنية، وذلك لمنعهم من الفرار، واستخدامهم كدروعٍ بشرية في المدينة المحاصرة، لكن نفت المؤسسات الحقوقية العالمية وفي مقدمتها هيومان رايتس ووتش تلك المزاعم الأرمنية، وأكدت استهداف القوات الأرمنية للمدنيين الأذريين بشكلٍ غير مبرر.

 

بعضُ المجازر⁦ لا تموتُ حقًا

تاريخيًا، كثيرًا ما نجحت المجازر -ولا تزال- في تغيير خرائط الجغرافيا ولو مؤقتًا، وفرض وقائع جديدة عليها، وحسم معارك السياسة والصراع سريعًا. لكن من الواضح أيضًا أن بعضَ تلك المجازر تظلُّ متوهجةً تحت الرماد، ما حافظ على جذوتها المظلومين في الذاكرة وفضاءات الإعلام والسياسة لتندلع في لحظةٍ مؤاتية ولو بعد حينٍ في وجه من ظنُّوا أنهم قد انتصروا بها، وهو ما حدث بالفعل هذا العام.

في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2020م، وتحت وطأة التقدم الآذري على الأرض في إقليم قرة باخ ومحيطه -والتي كانت ذكرى خوجالي وقودًا معنويًا بارزًا له- والخسائر الكثيفة التي تلقتها قوات إقليم قرة باخ الأرمنية والجيش الأرمني، لم يجد رئيس وزراء أرمينيا مفرًّا من توقيع اتفاق وقت إطلاق النار الذي فرضه الحليف الروسي اللدود، والذي اعتبره الأرمن إذلالًا كاملًا لهم، بينما اعتبره الآذريون وحلفاؤهم تتويجًا للانتصار.

طبقًا للجدول الزمني الذي رسمه الاتفاق، بدأ الأرمن ينسحبون من كامل الأقاليم الأذرية المحيطة بقره باغ، كمناطق أغدام وكلبغار ولاتشين، بينما يبقى الوضع النهائي لما بقي من إقليم قره باغ نفسه خارج السيطرة الأذربيجانية محلَّ المفاوضات التي لاشكَّ قد اختلف وضع أذربيجان فيها كثيرًا عمَّا كان في السنوات الثلاثين الماضية.

ورغم كل ما يمكن أن يقال عن استبدادية النظام الأذري، وكيف سيسوِّق لنفسه ولمصالحه بما جرى، وما ربحه الروس من منع الانتصار الكامل لأذربيجان، والحيلولة دون الهزيمة الكاملة لأرمينيا، وفرض أنفسهم ضامنًا حصريًا لأمن تلك المنطقة الحيوية، فلن يقلل كل  هذا من القيمة السياسية والعسكرية للانتصار الأذري، لاسيما مع العودة التدريجية المتوقعة لمئات الآلاف من المهجَّرين إلى الأراضي المحررة خلال الشهور القادمة، وحتمًا سيجعل الآذريون من خوجالي مزارًا لحريتهم وانتصارهم، وحينها فقط يمكن أن يبدأوا في الحديث عن ارتياح أرواح ضحايا خوجالي.