الكتاب: الاصطناع والمصطنع Simulacra & Simulation..

المؤلف: جان بودريار Jean Baudrillard..

ترجمة: جوزيف عبد الله..

النشر: 1981، الترجمة: 2008..

الناشر: المنظمة العربية للترجمة..

لعلنا جميعا عندما نستيقظ كل يوم، نتساءل: ما هي حقيقة هذا العالم؟ ما هي الغاية من الوجود؟ هل وصلنا إليها أم تجاوزناها؟ وهل ما نعيشه حقاً هو الواقع؟ أم أنه مجرد مصطنع؟ ثم هل ندرك أنه مصطنع؟

أم أن الميديا جعلت المصطنع حقيقيا، وبالتالي صار الواقع مدمرا، وأصبح المصطنع هو الحقيقة التي تغطي على غياب الحقيقة.

يأخذنا كتاب (المصطنع والاصطناع) ويمر بعدة محطات متنوعة الشكل متفقة الدلالة، يقف ملياً عند أحدها ويتجاوز الأخرى، ولكن في النهاية، تدفع كل محطة في اتجاه الوصول إلى المحطة النهائية، وهي أننا نعيش في عالم “المصطنع simulacra” أو “فوق الواقع hyper-real”. عالم كيّفه الإعلام حيث لا مشهد ولا واقع ولا مرجعية، فقط رمزية ابتلعت كل شيء لتبقى هي – الرمزية هنا تعنى أدوات المصطَنع فى التعبير عن نفسه من صور ولغات وغيرها. والرمز هنا لا يحجب الواقع بل صار الرمز هو الواقع.

*****

لكي نفهم كتاب ” المصطنع والاصطناع ” لابد أن نلقى نظرة عامة على مؤلفه “جان بودريار”.

من هو جان بودريار؟

يأخذنا كتاب المصطنع والاصطناع ويمر بعدة محطات متنوعة الشكل متفقة الدلالة، تدفع كل محطة في اتجاه الوصول إلى المحطة النهائية، وهي أننا نعيش في عالم مصطنع

جان بودريار سوسيولوجي وفيلسوف فرنسي من أبرز مفكري تيار ما بعد الحداثة.. من أصول ريفية جعلته غير متكيف مع التطور المادي للحضارة؛ يقول عن نفسه: “احتفظت من هذه الخلفية الريفية بما يشبه العداء البربري للحضارة”.

كتابه الأول “نظام الأشياء” يوضح نظرة بودريار لفكر ما بعد الحداثة، حيث يستخلص فيه حقيقة أن المجتمع تبرجز (من البرجوازية) في صورة الاستهلاك المفرط إلى حد اقتناء ما ليست هناك حاجة إليه.

نشر عام 1991 مؤلفه “حرب الخليج لم تقع” حيث وضح فيه أن هذه الحرب كانت مجرد مصطنع صنعته الميديا المتلاعبة به على حد وصفه.

ولعل مفهوم اختفاء الواقع ونشوء “فوق الواقع” هو أكثر ما اشتهر به بودريار. وتفسير هذا المفهوم لديه هو حقيقة غياب العلاقة بين الدال (الرمز، الصورة التي يقدمها الإعلام مثلا) والمدلول (الواقع) بسب تضاعف فعالية الإعلام الذي حوّل الحياة الاجتماعية والواقع إلى صورة يقدمها هو.

ينتقد بودريار الغرب في عجزه عن تصور وجود حياة مختلفة، فهذا النظام يرى في كل شكل عاص عليه إرهابيا مفترضا، هكذا حال أفغانستان اليوم – هكذا كان يرى بودريار في وقته قبل التدمير الأمريكي لأفغانستان؛ فالعالم الحر لا يتحمل أن تمنع بلد ما الموسيقى والتليفزيون ووجوه النسوة: فمن غير المسموح الاعتراض على الحداثة في نزعتها الكونية.

*****

يستعرض الكاتب في الفصل الأول: “مسار المصطنع”، مجموعة من الأحداث والأطروحات مستخلصاً منها ما يؤكد على فكرته ويتضح ذلك في التتابع التالي:

أولا.. وهم رد الشيء إلى أصله:

نلاحظ ذلك في انبهار العالم بإنقاذ مومياء رمسيس الثاني مع أن الجثة في النهاية لا تعني شيئا، ولكنه وهم تخزين الماضي، كأن هذا التخزين هو ما يضمن لنا الاستمرار.

مفهوم اختفاء الواقع ونشوء فوق الواقع هو أكثر ما اشتهر به بودريار، وتفسير هذا المفهوم لديه هو حقيقة غياب العلاقة بين الدال والمدلول بسب تضاعف فعالية الإعلام

وكذا تفاخر الأمريكيين باستطاعتهم إعادة عدد الهنود إلى ما كان عليه قبل الغزو وتجاوزهم العدد الأصلي -سياسة محو كل شيء والبداية من جديد- وكأن مقياس تفوق الحضارة هو إنتاج عدد من الهنود لم يكن بوسعهم هم بالذات بلوغه.

ثانيا.. ديزني لاند:

يرى بودريار تماثلا بين ذلك العالم التخيلي “ديزني لاند” وكل أمريكا الواقعية. فالغرض عنده من ديزني لاند أن تُقدم كأنها خيالية لدفع الناس إلى الاعتقاد أن الباقي واقعي، فهي آلة تعمية غرضها الرئيسي هو إعادة توليد وهم الواقع.

ثالثا.. ووترغيت:

من وجهة نظر بودريار فـ”ووترغيت” ليست فضيحة وإنما فخ نصبه النظام لخصومه لغايات تجديدية مستندا في هذا إلى بنية تحتية أخلاقية تدغدغ مشاعر العامة.

ويخرج من “ووترغيت” بمبدأ (أن كل شيء يتحول إلى نقيضه ليتمكن من البقاء في شكله المنقح).

فالمقصود دوما تقديم الدليل على الواقع بالخيالي، وعلى القانون بمخالفته، وعلى العمل بالإضراب، وعلى الرأسمال بالثورة، وقد تلجأ السلطة إلى إخراج عملية موتها بالذات لتجد حياة وشرعية جديدة (وهو ما نلاحظه بشدة في ثورات الربيع العربي).

رابعا.. تليفزيون الواقع:

ينطلق بودريار من تجربة “تليفزيون الواقع” الأمريكية بتصوير حياة عائلة لمدة سبعة شهور متواصلة إلى عدة أسئلة تفكيكية مثيرة..

– العبارة نفسها “تليفزيون الواقع” عبارة ملتبسة.. فهل المقصود واقع هذه العائلة أم واقع التليفزيون؟ من يصنع الواقعية؟ العائلة أم التليفزيون؟

– تعرضت العائلة -على غرار أسئلة بودريار- للتفكك والانفصال عن بعضها أثناء التصوير.. فهل التليفزيون مسئول؟ وماذا لو لم يكن موجودا؟

خامسا: النووي:

يرى بودريار أن الدمار النووي ليس هو الذي يشل حياتنا، وإنما الردع هو ما يصيبها باللوكيميا.

إن وسائل الإعلام، بشتى أشكالها مرئية ومسموعة ومكتوبة، تقوم بتكييف الناس لتندرج في قوالب قيمية وسلوكية حددتها هي

الخوف من التهديد بحدوث كارثة نووية، ربما يكون الخطر حقيقيا، ولكن الخوف اختيار. وفي حالة توحش دور الميديا فأنت لم تعد تختار، الميديا تختار لك.

إن التكاثر النووي يقضي على كل احتمال باستخدام العنف من خلال تنامي منظومة الردع. إن اصطناع الكارثة النووية هو الطاقة الاستراتيجية لمشروع الردع العام، الاصطناع هو الفعال وليس الواقع.

******

وظيفة الإعلام هي إلغاء المعنى بل الإلغاء فحسب، فبعكس ما هو شائع، الإعلام ثقب أسود للتعمية بل امتصاص للواقعة بحيث تفقد معناها.

إن وسائل الإعلام، بشتى أشكالها مرئية ومسموعة ومكتوبة، تقوم بتكييف الناس لتندرج في قوالب قيمية وسلوكية حددتها هي، ولكن كيف؟

يوضح بودريار أن ذلك يحدث من خلال قيام تلك الوسائل بترويج الرسائل والقيم التى بدورها تحدد المعالم التى يدرجها المشاهد فى بنيته الادراكية ويحدد من خلالها طريقة تواصله مع العالم ، فبات الفرد يعيش حياته كنجم سينمائى على شاشة وأخطر شئ هو اقتحام الاعلام للحياة الخاصة الحميمية للناس وفرض نمط حياة معين وفق تكييف مسبق ويتضح ذلك بواسطة تأثيرما يسمى عبثا بوسائل التواصل الاجتماعى على علاقات الفرد بمحيطه وعلى ذاته و رؤيته للعالم.

ثم يتحدث عن ظاهرة انبجاس المعنى في الميديا، فهل وسائل الإعلام هي التي تلغي المعنى وتخلق كتلة الجمهور؟ وهل تقف الميديا إلى جانب السلطة في التلاعب بالجماهير؟

يرى بودريار أن الميديا تنشر المعنى وضده وتتلاعب في كل الاتجاهات.

ثم يتناول أحد أهم صور الميديا، نمط مختصر مغرى غامض بلا مضمون ألا وهو الإعلان.. لم يعد الإعلان تعبيرا عن الدعاية لسلعة اقتصادية ما “أشتري.. أستهلك.. أتمتع”؛ بل طال التسلع كل شيء، بداية بالحملات الانتخابية “أنتخب.. أشارك.. أنا موجود” مروراً برجال السياسة والأحزاب “لن أسمح لأحد أن يختار باسمي” -ونذكر هنا أسطورة الفردية والاختيار الشخصي التي تحدث عنها هربرت شيلر في كتابه “المتلاعبون بالعقول”- ونهاية باقتحامه الجوانب الاجتماعية حتى فقد الاجتماعي قدسيته، وبات هو الآخر سلعة تقف في سجل العرض والطلب.

الإعلام لا يتحرك من تلقاء نفسه ليلغي المعنى أو يخفى الواقع، وإنما هناك أيديولوجيا قوية تحركه في الاتجاه الذي يخدمها ويحقق أهدافها

ورغم قدرة الإعلام الهائلة على خلق الوعي وتعميم القيم والتلاعب بالعقول إلا أن بودريار أغفل بعض الأسئلة الهامة، فلم يشر إلى من يتحكم بوسائل الإعلام؟ من يملكها ويديرها ويستثمر فيها؟

كما أغفل سؤال الأيديولوجيا -السؤال الذي يتجاوزه بودريار- كيف يتصور الناس حياتهم؟ كيف يفكرون في وجودهم؟ أيهما أسبق في الوجود: الفكر أم الوجود؟

فالإعلام لا يتحرك من تلقاء نفسه ليلغي المعنى أو يخفى الواقع، وإنما هناك أيديولوجيا قوية تحركه في الاتجاه الذي يخدمها ويحقق أهدافها.

*****

يعالج بودريار مثلا الهولوكوست من منظور إعلامي.. ففي البداية، يؤكد على أن نسيان البداية هو جزء من الإبادة ذاتها؛ لأنه إبادة للذاكرة. وهذا النوع من النسيان جوهري تماما كحدث الإبادة ذاته. ثم يوضح دور التليفزيون في عملية النسيان أو النقيض عملية الإحياء “تسخين البارد” -على حد وصفه- فهي إذن -أي المحرقة- حدث متلفز بامتياز.

وكعادة بودريار في التقاط حدث ما واستخلاص أفكاره منه؛ في هذه المرة التقط فيلم التناذر الصيني China Syndrome (السيندروم أو التناذر مصطلح طبي يعني مجموعة من الأعراض المتلازمة التي يسببها مرض واحد)؛ وهو فيلم أمريكي عن مذيع ومصور تلفزيونيين يكشفان خطورة أحد المفاعلات النووية؛ واستعرض من خلاله عدة لمحات:

– الأولى: وجود التليفزيون مكان الحدث النووى ليس صدفة بل إن التليفزيون هو الذي جعل الحدث يبرز.

– الثانية: التماثل بين المفاعل النووي والتليفزيون في إخفاء الواقع.. فصلب المفاعل لا نعرف عنه شيئا كذا صورة التليفزيون التي تحجب الواقع.

– الثالثة: دراماتيكية حادث “هاريسبورغ”، وهو حادث نووي حقيقي حصل بعد أسبوعين من ظهور الفيلم. ظهر الفيلم في 14 مارس 1979 وحدث انفجار ” هاريسبورغ ” الحقيقي في 28 مارس من نفس العام. سبق غريب لفيلم من أفلام الواقع، لأن الواقع استجاب نقطة نقطة للمصطنع.

*****

تدمير مبدأ عدم التناقض:

كما قال أورويل: “الحرب هي السلم”.. يوضح بودريار أن عالم المصطنع هو عالم يقتنع فيه الناس بالشيء ونقيضه، فيتم تخريب النظرية السوية للواقع بقوة الميديا. الواقع في الميديا لا في الحدث..

إن عالم المصطنع هو عالم يقتنع فيه الناس بالشيء ونقيضه، فيتم تخريب النظرية السوية للواقع بقوة الميديا

ويستعرض الكاتب من خلال تناوله لفيلم “القيامة الآن” كيف تعمد مخرج الفيلم “كوبولا” أن يجعل القائد العسكري يسحق القرية الفيتنامية على أنغام موسيقى “فاغنر”. وبعد انتهاء الحرب يعرض الأمريكيون المساعدات الاقتصادية للقرى المسحوقة في فيتنام.. كما قاموا بالتدمير يعرضون البناء.. فتحول التدمير إلى بناء والعكس.. هذا الالتباس والتناقض هو سمة عالم المصطنع.. يقول أورويل: “لا يمكن الاحتفاظ بالسلطة إلى الأبد إلا عبر التوفيق بين المتناقضات”.

*****

الاستهلاك:

ثم يعرج الكاتب على النمط الاستهلاكى فى عالم المصطنع متمثلاً في تلك الأسواق الكبرى. فالسوق الكبير يسبق في وجوده التجمع السكاني، وهو الذي يفتح المجال لهذا التجمع، فهو بمثابة النواة تقيم حولها مدارا يتحرك فيه التجمع السكانى.

هل يأتي الناس إلى هذه الأسواق ليختاروا أشياء أو بمعنى أصح أجوبة عن كل الأسئلة التي تخطر ببالهم أو بالأحرى يأتون هم أنفسهم جوابا للسؤال الذي تطرحه السلعة؟

“صنمية السلعة” هذه هي الحقيقة.. فالصنمية تعني عبادة ظواهر الطبيعة وأشيائها؛ أما صنمية السلعة فتنشأ من حقيقة أن روابط الإنتاج في الرأسمالية تظهر من خلال تبادل السلع في السوق، فتأخذ العلاقات الاجتماعية طبيعة العلاقة بين السلع ويصبح الناس واقعين تحت سيطرة السلع بدل أن تكون هى خاضعة لهم.

برغم التقدم العلمي والتكنولوجي إلا أن تسلّع الإنسان جعله يفقد قيمته الحقيقة، ففقد هويته و إحساسه بالقيم وأصبح مثل الآلة

ونلاحظ هنا تأثر الكاتب الشديد ب “ماركس” الذي يدور حول الفكرة نفسها في حديثه عن التسلع.. حيث يذكر أن صنمية السلع هو ما يسود في المجتمعات الصناعية المتقدمة، ويحدد العلاقات الاجتماعية، ويطبع هذه العلاقات بطابع سلعي محدد، وتقاس قيمة الإنسان بما ينتجه من سلع، ويتحول إلى سلعة تباع وتشترى. ويرى ماركس أن الناس في ظل حالة الاغتراب هذه يصبحون دمى للنظم الاجتماعية التي صنعوها بأيديهم.

فبرغم التقدم العلمي والتكنولوجي إلا أن تسلّع الإنسان جعله يفقد قيمته الحقيقة، ففقد هويته و إحساسه بالقيم وأصبح مثل الآلة.

*****

العدمية:

يعتقد بودريار أننا نعيش في وضع جديد بالنسبة لكل الأشكال السابقة من العدمية، لعل أبرز سماته فراغ الروح

يخلص بودريار في فصل العدمية آخر فصول الكتاب وأكثرها رومانسية إلى أن العدمية اليوم ليست تلك المتولدة عن موت الإله “نيتشه”، وليست مظلمة وقاتمة “فاجنر”، وإنما هي عدمية الشفافية.. يعتقد بودريار أننا نعيش في وضع جديد بالنسبة لكل الأشكال السابقة من العدمية، لعل أبرز سماته فراغ الروح.. فالكآبة هي النغمة الأساسية لأنظمة الاصطناع الراهنة، أنظمة البرمجة والمعلوماتية، دخلنا جميعا في دائرة الاصطناع.. زوال المعنى.. الردع.. الخوف.. اللامبالاة.. صنمية السلعة.. الهوس.. أيهما واقع وأيهما مصطنع؟ لا ندرى.

الكآبة هي سمة ملازمة لزوال المعنى ونحن جميعنا في حال الكآبة.

الكآبة هي اضمحلال الموازنة بين الخير و الشر .. بين الحق والخطأ .. بل تضمحل فيها المقارنة بين قيم من النوع نفسه .. عندها يصبح النظام فى كل مكان أقوى مما يجب .. يصبح نظام هيمنة.