لكن العلماني والأصلاني كلاهما ينتسب إلى فئة متعصبة تخلو في كل الأحوال من خاصيات الحزب السياسي؛ ذلك أن السياسة بطبعها ذريعية فلا تقبل الإفراط ولا التفريط بل هي تبحث دائمًا عن الحلول الوسطى، فلا تلائم تعصبهما وحروبهما الدائمة التي تحول دون الحياة المدنية فضلاً عن الحياة السياسية.

أبو يعرب المرزوقي


(1)

في عام 1899، قدّمت روزا لوكسمبورغ، أستاذة القانون اللامعة صغيرة السن، والمنتقلة للتوّ من بولندا، موطنها الأصلي، إلى ألمانيا، ورقتها التي ستصبح لاحقًا إحدى أهم كلاسيكيات الماركسية بعنوان «الإصلاح أو الثورة». أتت ورقة لوكسمبرغ ردًّا على كتاب «مسلّمات الاشتراكية ومهام الديمقراطية الاجتماعية» الذي قدّمه إدوار برنشتاين زعيم «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» في ألمانيا، والذي رآه أنجلز قبل ذلك: «المنفّذ العملي لتعاليم ماركس»، حيث رأى برنشتاين أن الاضمحلال الذاتي للرأسمالية جرّاء تفاقم تناقضاتها الداخلية بات تنبؤًا خاطئًا بعدما تمكنت الرأسمالية من التكيّف واستيعاب تناقضاتها الاقتصادية والاجتماعية عبر عددٍ من «الميكانيزمات» كـ: نظام الائتمان الذي يوفر التمويل، والاحتكاريات الرأسمالية (أنظمة الكارتل والتراست)، وتطوّر وسائل الاتصال. ومن ثمّ، دعا برنشتاين إلى الإصلاح التدريجي عبر العمل السياسي والمشاركة الديمقراطية بدلًا من الالتجاء إلى الثورة الراديكالية التي أضحت غير ذات موضوع.

أثارت مراجعات برنشتاين حفيظة العديد من المنظّرين الماركسيين التقليديين، وكانت ورقة لوكسمبورغ أحد أبرز الردود التي قدمت على عمل برنشتاين. رأت لوكسمبورغ أن تلك الميكانيزمات لا تزيد الرأسمالية إلا تداعيًا حيث تعمّق تناقضاتها الاقتصادية، وأن مراجعات برنشتاين ليست سوى محاولة انتهازية بين محاولاتٍ عديدة خلقها الفضاء السياسي الذي طرحه إلغاء قوانين مناهضة الاشتراكية في ألمانيا عام 1890. أكّدت لوكسمبورغ في المقابل الرؤية الماركسية الكلاسيكية للثورة كحتمية تاريخية وكخيارٍ أيديولوجي مبدئي في مقابل الإصلاح السياسي التدريجي الذي يعبّر عن الذوبان والاستسلام للنظام الرأسالمي. وعلى إثر هذا الخلاف، انقسمت القوى الاشتراكية في ألمانيا إلى اشتراكية إصلاحية، وأخرى ثورية.

http://gty.im/78131247

غير أن الأخيرة [الاشتراكية الثورية] تعرّضت لاحقًا إلى صدمة تاريخية على إثر إخفاق «انتفاضة سبارتاكوس» اليسارية يناير 1919 التي اندلعت بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. أسَرَت القوى اليمينية على إثر فشل الانتفاضة زعيمي الاشتراكيين الثوريين: كارل ليبكنخت، وروزا لوكسمبرغ، ليتم اغتيالهما ويذهبا شهيديْن لأطروحاتهما الثورية. لكن الصدمة الكبرى لليسار الألماني كانت في أن الطبقة العاملة الألمانية لم تنحَز كما كان منتظرًا لليسار، وهو ما أعاد الاعتبار نظريًّا لرؤية برنشتاين الإصلاحية، أو تحديدًا لنزع ثوب الحتمية التاريخية عن الثورة الاشتراكية، والتداعي الذاتي عن الرأسمالية، وكشَف عن الحاجة إلى نظرية نقدية جديدة لتفكيك ميكانيزمات الاستيعاب الرأسمالي والتفكير في إمكانات الثورة.


(2)

كان هذا هو السياق التاريخي لنشأة جدل الثورة والإصلاح، والذي كان جدلاً أيديولوجيًّا غير سياسي، انتهى إلى صدمة عملية ونظرية استدعت تجديدًا جذريًّا للأيديولوجية. على إثر الانقسام السياسي الذي أعقب ثورة يناير، استدعى بعض اللاعبين الثوريين جدل الثورة والإصلاح مُنتَزعا من سياقه التاريخي، بغرض التمايز الأيديولوجي وإضفاء هالة كاريزمية على بعض القوى في مواجهة اللاعبين المنافسين. فالثورية أضحت في ذلك الوقت ثناءً يُكال للحركات الشبابية، في مقابل الإصلاحية التي أضحت تهمة توصم بها القوى التقليدية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين. وقد حظيت «أدلجة الثورة» (تحوّلها من أداة ذريعية ذات طابع سياسي إلى خيار أيديولوجي مبدئي، وربما أخلاقي) بقبولٍ واسع من قبل تلك الحركات لأسباب موضوعية داخلية، مرتبطة ببنية تلك الحركات، وخارجية مرتبطة بالسياق السياسي والاجتماعي لها.

http://gty.im/180780775

فعلى الصعيد الداخلي، شكّلت «أدلجة الثورة» مقولةً تأسيسيةً لشرعية استمرار تلك الحركات، والتي عبّر عنها شعار «الثورة مستمرّة» الرومانسي الذي ينظر إلى الثورة كيوتوبيا تحقق ذاتها. تحمي تلك الشرعية الحركات الشبابية من الاعتراف بالانتقال من وضعية المعارضة الثورية إلى مرحلة العمل السياسي ومسألة نظام الحكم، وما يقتضيه ذلك الاعتراف من تحوّلات بنيوية في التنظيم والخطاب، وإعادة التموضع اجتماعيًّا (تكوين شبكة علاقات ومصالح مع البنى الاجتماعية القائمة). كما أن تلك الشرعية تناسب المصالح النفسية -ليس المقصود بالطبع الاستغلال المتعمد- للقائمين على تلك الحركات -المعروفين بالنشطاء- والذين ارتبطت حياتهم الشخصية بالمكانة الاجتماعية التي تمنحهم تلك الوضعية، والدور السياسي الذي يؤدونه فيها.

أما على الصعيد الخارجي، فاستمرار القوى المناهضة للديمقراطية في السلطة أو قريبًا منها هيّأ المناخ لقبول مقولة «استمرار الثورة» خاصة مع غياب الوعي بأن بناء النظام الديموقراطي لا يشترط نفي القوى المناهضة للديموقراطية بقدر ما يعني السعي إلى تحديدها.

الخلط بين الذريعي والمبدئي في موضوع الثورة ارتبط برغبة في نفي السياسة أو إرجائها (تأجيل غير محدود) بسبب العجز عن التعاطي مع التزاماتها الاجتماعية. وقد ظهرت الرغبة في نفي السياسة حتى في الحديث عن مسألة بناء الديمقراطية. فالعزوف عن الإجراءات الديمقراطية والمبالغة في تسفيهها باعتبارها «بوكسوقراطية» (وهو تعبير احتفت به النخب المصرية على خطورته)، وسم خطاب وممارسة الكثير من تلك القوى التي غفلت عن أن سلامة تلك الإجراءات وصيانتها من التلاعب أو التسفيه هي الضامن الأساسي لحماية المضامين والقيم الديموقراطية الجوهرية التي تغنّت بها؛ كما أن عملية بناء تلك المضامين والقيم لا تعتمد على محض الممارسة الثورية التي قد تكون في الحقيقة عائقًا دونه، بل هي [أي عملية البناء] سيرورة اجتماعية شاقّة ومركّبة.


(3)

يرتبط الخلط بين الذريعي والمبدئي بنفي السياسة. ونفي السياسة أو إرجاؤها رغبة قائمة على عجز أو فقر سياسي. لا يعني الفقر السياسي هنا الفقر على صعيد الشروط الاجتماعية كما أوضحنا فحسب، ولكن قبل ذلك فقر على مستوى الوعي والكفاءة السياسية لدى القيادة. كان هذا الفقر السياسي وراء عجز القيادة داخل جماعة الإخوان عن توظيف العنف المادي وحتى الرمزي، بمعنى استثمار أدوات الضغط الاجتماعي والاقتصادي، أو التعامل مع هذا التوظيف بعفوية بدائية.

أدى ذلك الفقر السياسي في الجماعة إلى إعادة تدوير جدل الإصلاح أو الثورة داخل الجماعة نفسها، خاصة مع إحياء الأيديولوجية القطبية الصلبة بعد هزيمة البرجماتية السياسية في 30 يونيو، والحاجة إلى حماية التماسك الداخلي والحشد وتبرير المحنة ومنهج التعايش معها. ما حدث هو أن الفقر السياسي لم ينجب رغبة في تطوير الكفاءة السياسية للجماعة بل أدى إلى المزيد من النفور من السياسة. وعاد الحديث عن الثورة باعتبارها خيارًا استراتيجيًّا وغاية؛ الأمر الذي سدّ الأفق أمام أي محاولة للعودة إلى السياسي أو ما قبل السياسي (إعادة التموضع اجتماعيًّا).

وقد تحوّلت «أدلجة الثورة» في السياق الإسلامي إلى «أدلجة الجهاد». فالجهاد في هذا السياق، وكما يتجلى في فكر السلفية الجهادية، تحوّل من وسيلة لغيره إلى غاية في نفسه، أو كمقولة مركزية ضمن نسق المفاهيم الإسلامية يتم نسجها بحسبه، وعنه انبثقت سائر خصائص السلفية الجهادية. فمن أدلجة الجهاد تولّدت الحاجة إلى صناعة العدو لشرعنة قتاله، ومن هنا نشأ الغلو في التكفير وظاهرة «التكفير السياسي»، وفي المقابل نظرت الجماعة المقاتلة إلى نفسها كتجلّ مقدس لمفاهيم دينية من قبيل «الطائفة المنصورة» وأحيانا «جماعة المسلمين».

على كل حال، أدى وضع الثورة والإصلاح في مقابلة ثنائية حادة -بطريقة أو بأخرى- إلى نفورٍ من السياسة باعتبارها مجالاً برجماتيًّا بطبعه لا يعرف الخيارات الأيديولوجية.