وهذا هو هدف كل ما نقوم به من تكييف؛ أن نجعل الناس يحبون قدرهم (المقهورين) عليه.
ألدوس هكسلي

يبدو أن نبوءة «ألدوس هكسلي» هذه التي ذكرها في روايته «عالم جديد شجاع» التي صدرت في عام 1932، قد وجدت طريقها لتتحقق على أرض الواقع.

فقد تكفلت كل من مؤسسة فورد، ومؤسسة روكفيللر، ومجلس السكان، التي تتخذ جميعها من نيويورك مقرًّا لها، والتي عرفت لاحقًا باسم مخططي الأسرة، في تمويل مشاريع تحديد النسل في البلاد النامية، وفي سبيل ذلك ضربت تلك المؤسسات بكل القيم الإنسانية عرض الحائط، فخوفًا من الانفجار السكاني وُضعت خطط مدروسة لتحديد عدد السكان.

قد يبدو الأمر جذابًا في ظاهره، لكن تلك المؤسسات كانت تدرك تفضيل سكان الهند والصين مثلًا للمواليد الذكور، ومع سياسة الطفل الواحد التي انتهجتها الصين، والتحذير من الإنجاب في الهند وكوريا الجنوبية، فقد عمدت تلك المؤسسات في عام 1967 إلى توظيف تقنية تحديد جنس الجنين، والمشاركة في عمليات إجهاض الأجنة الإناث، موهمة الجميع بأنهم هم من يحددون قدرهم، فكانت النتيجة نقصًا بمقدار 177 مليون من الإناث في الهند، و30 مليون رجل صيني سيبقون عازبين رغمًا عنهم لقلة النساء، أي أن خُمس الذكور في الصين لن يجدوا عروسًا لهم. فتزايدت على إثر ذلك حوادث خطف الأطفال في الصين، وتفشت الدعارة. فيما بات الرجال الكوريون الجنوبيون يتجهون إلى فيتنام بحثًا عن زوجات لهم، لسد النقص المتزايد في أعداد النساء.

تعالت صيحات مخططي الأسرة بالدعوة إلى التعقيم الجنسي، وخاصة تعقيم الطبقة الفقيرة غير المتعلمة. وخُصصت مكافأة مالية لمن يتطوع لذلك[1]. فعوضًا عن محاربة الفقر، فقد حارب مخططو الأسرة الفقراء. كل هذا في سبيل تحسين «نوعية» المواليد.، أملًا في تحقيق عالم جديد شجاع! فكيف تقاطعت هذه السياسات مع أحداث رواية «عالم جديد شجاع»؟


الزمان: سنة 632 ب.ف (بعد فورد)

المكان: مركز وسط لندن للتفريخ والتكييف

ضمن رؤية ديستوبية (الديستوبية هو أدب المدينة الفاسدة) يبني هكسلي رؤيته للمدينة المستقبلية، حيث يتم إنتاج بشر بمواصفات محددة من فئة (ألفا وبيتا وجاما ودلتا وإبسيلون). لكل فئة وظيفتها ومهمتها في الحياة، وتختلف كل فئة عن الأخرى في مستوياتها العقلية والجسمانية، لكن تبدو المفارقة بالرضا التام لكل فئة عن نفسها وقيامها بالأعمال المنوطة بها بدون اعتراض.

في كتاب «حروب العقل» يذكر المؤلفان:

تستغل كثير من مشروعات الطوائف الدينية، ومختلف الحكومات والجيوش السيطرة على العقل لتفريق الناس وشق صفوفهم، ثم تغيير شخصياتهم لأداء أعمال ما كان لهم أن يضطلعوا بها في الحالة الطبيعية، فينفذون رغبة الذين برمجوا عقولهم[2].

لغة التلقين

للسيطرة على عقول الأتباع تُستخدم عبارات محددة أكثر من غيرها، تتخذ صفة القداسة لتحقيق التأثير النفسي المطلوب، وعلى الطرف الآخر قبولها. ونلمح ذلك في حديث الكاتب في الرواية عن جلسات التعلم التي تقام في أثناء النوم، التي تعزز فيها المفاهيم الطبقية، وتُحشى عقول أطفال الفئة العليا (ألفا وبيتا) بعبارات تكرارية تزدري أفراد مجموعة دلتا ذوي المستوى العقلي المتخلف، ومع ذلك لا يفكر أفراد الدلتا أن يطوروا من أنفسهم، أو أن يعترضوا، كيف لهم ذلك وعملية إنتاجهم حدت من قدراتهم العقلية عند مستوى معين، وجرى برمجة أدمغتهم بعبارات تقدس العمل، وترى في التفكير أمرًا لا ضرورة له؟


التكيف مع الموت

بينما تكفل العملية المسماة «بونوكوفسكي» إنتاج 96 إنسانًا من بويضة واحدة، تتطابق هذه التوائم فيما بينها، وتشكل هذه الفئة اليد العاملة، ويتم تعريضهم لما يسمى «التكيف مع الموت»، وذلك بزيارة مستشفيات الاحتضار وهم يأكلون الشوكولا. تُزرع فكرة أن الموت ضروري كالحياة، وأن الجزع أو الخوف منه أمر سخيف جدًّا، في مجتمع لا يقيم وزنًا للمشاعر الإنسانية، ويعد الارتباط العاطفي علامة من علامات التخلف والبدائية!

في حضارة ما بعد هنري فورد – الرمز الصناعي المعروف صانع السيارات – أي في العالم الجديد الشجاع، يحل فورد محل الإله، وتموت العواطف والمشاعر الإنسانية في تلك النماذج البشرية، وتختفي عملية التوالد الطبيعية، بل تصبح كلمات من شاكلة (أب وأم وأسرة وزواج) كلمات بذيئة تقشعر لها الأبدان عند سماعها! في ذاك المجتمع المستقبلي، يتم إنتاج طعام صناعي معدل، وملابس صناعية، وتسود الآلات والعقاقير.


الكل ينتمي للجميع.. والحرية كذبة

قد يشمل تعديل السلوك إخبار الفرد المعني بالطريقة التي يرتدي بها ملابسه، وكيف يتصرف، ويمارس عبادته وينظر ويأكل وينام؛ فالفكرة الأساسية تكمن في أن تشمل السيطرة بمرور الوقت كل ما يتعلق بسلوكه، فيعتمد كليًّا على المتحكم فيه (المفسد له)، ثم يفقد التحكم الذاتي بصورة عامة[3].

تحرص الأنظمة الشمولية على محو الهوية الفردية لدى أتباعها، فالشعور بالذاتية يعزز من قدرة الفرد على نقد النظام، والمطالبة بالحرية. لذا نجد في سياسات تلك الأنظمة دعوة لتوحيد الذوق العام، بل تتبع أساليب قمعية لفرضه ولإرغام الأتباع على اعتناق قيم جديدة، وتجند الأنظمة الشمولية الجواسيس لمراقبة أي محاولة للخروج عن الأطر العامة التي رسمتها لصورة «المواطن الصالح»، لذا يتحول الجميع إلى عيون ترقب أي مظهر من مظاهر التمرد أو الاختلاف، ويعشعش الخوف في القلوب من مخالفة العرف السائد، سواء في المظهر أو المعتقدات والأفكار. فيمارس الفرد رقابة ذاتية على نفسه حتى لا ينبذ من قبل المجتمع أو يتهم بتهديد استقراره. فهو أهم هدف للحياة حتى وإن كان على حساب الحرية الفردية.

في العالم الجديد الشجاع يمسي المجتمع مجتمع رفاه استهلاكي من الطراز الأول، فلا مكان للهمِّ، فيكفي تناول نصف جرام من أقراص (السوما) التي أنتجها مركز الأبحاث؛ ليغيب الفرد عن الوجود بتأثير يشبه ما تحدثه المخدرات من نشوة.

وفي مجتمع فورد يعدُّ التفكير جريمة لا تغتفر، وتميز الفرد عن باقي أبناء فئته عار لا يدانيه عار. فقد عانى برنارد ماركس، أحد أبطال الرواية، أشد الأهوال من شعوره بالاختلاف عن باقي أفراد فئته الألفا، حتى قيل إنه قد تم حقنه بمركب كحولي في أثناء عملية إنتاجه.

لم يجد برنارد ماركس صديقًا له إلا كاتب دعايات مشهور كان يطمح لكتابة شيء آخر أسمى من الدعايات، شيء يحوي بعضًا من ذاتية الفرد (الشعر) فكان نصيبهما النفي من مجتمع فورد. حيث يمارس التعليم في أثناء النوم لتلقين تلك الأجنة البشرية التي ينتجها مركز التفريخ أيديولوجية الدولة: «الكل ينتمي للجميع والحرية كذبة».

المجتمع الذي يصفه ألدوس هكسلي في روايته مجتمع مُرفَّه، يعمه الرخاء، فلا حروب ولا مجاعات، ولا مرض ولا شيخوخة أبدًا (فقد تم معالجة هذه الأمور في أثناء عملية التخصيب).

مجتمع قد يبدو للوهلة الأولى مجتمعًا طوباويًّا سعيدًا لا ينقصه شيء، إلا الحرية الفردية، ولكن هل طالب سكانه بحريتهم؟


الحرية مقابل الرخاء

«الإنسان كائن حقير يعتاد كل شيء»، كما قال دوستويفسكي، ويبدو أن الأنظمة السياسية تدرك دون غيرها كيف يمكنها أن توظف هذه الخاصية لخدمة أهدافها، وكيف يمكنها تدجين الإنسان الحرِّ بزرع الأوهام، وتلقينه إياها ليؤثر الأمن والرفاهية والاستقرار على حريته. ولكن يأتي صوت آخر في الرواية ينتفض بغضب شديد، وتتعالى صيحة احتجاجه:

ينتقد الكاتب في روايته الأنظمة الاستبدادية، التي تحاول تعويض غياب الحرية السياسية، بزيادة جرعة الحرية الجنسية، حيث يحل «طقس العربدة»، وتصبح العلاقات المتعددة ومشاهدة الأفلام الحسية أمورًا طبيعية، وتتبدل القيم حيث تستهجن العلاقات الأحادية.

هذه السياسة التي لطالما مارستها الحكومات القمعية بغية تغييب الوعي العام، وإغراق الفرد في المتع الحسية، حتى لا يتسنى له فرصة الاعتراض أو مساءلة الحكومات عما يحدث في الشأن العام.

تدفعنا الرواية للتفكير مليًّا: أيهما أهم، حرية الإنسان أم الرخاء المادي؟


إبادة الكتب

تلتقي هذه الرواية مع رواية «1984» لجورج أورويل، ورواية «فهرنهايت 451» لراي برادبوري في تخوف الأنظمة الشمولية من الكتب. فبينما تُحرق الكتب في رواية «فهرنهايت 451»، ويتم التخلص من الكتب أو تشويه محتوياتها في رواية «1984»، فإننا هنا نجد مركز التكييف في رواية «عالم جديد شجاع» يربط الكتب والأزهار في ذاكرة الأطفال بالصاعقة الكهربائية منذ طفولتهم في تجارب معدة مخبريًّا، فكلما أمسك الطفل كتابًا أصابته صاعقة، حتى يكبر وهو لا يرى في الكتب إلا شرًا ووبالًا.

الكتب هي التي تخرج لنا «المثقف العضوي» الذي تحدث عنه المفكر الإيطالي غرامشي، ذاك المثقف الذي ينتمي إلى مجتمعه ويشعر بضرورة إصلاحه.


لماذا انتشر الأدب الديستوبي؟

إن الهدف من الحياة ليس الحفاظ على رفاهية الإنسان، ولكن شحذ وعيه وتطهيره وتوسيع مداركه.

ليس غريبًا أن تنتشر الروايات الديستوبية في بدايات القرن العشرين، فالحرب العالمية الأولى والثانية، والتقدم التقني الذي حوَّل الإنسان إلى قيمة آلية أو رقمية، ومع انتشار الأيديولوجيات الدموية من نازية وفاشية، ومع الأنظمة الشمولية التي صادرت الحريات، وغياب القيم الروحية لتحل مكانها قيم المجتمع المادي الاستهلاكي، ومع تنامي صدمة الجميع من العلم الذي كانوا قد عولوا عليه كثيرًا لإنقاذ البشرية، فإذا به يدمر العالم بأسلحة الدمار الفتاكة التي ظهرت في الحرب العالمية الأولى، مثل استخدام الطائرات لقصف المدن بوحشية، واستخدام غاز الأعصاب.

كل هذه الأهوال قد ألقت بظلالها على الأدب، فجاءت صرخة مدوية لنقد ما لا يمكن التصريح عنه برمزية لاذعة كما في «مزرعة الحيوان» لجورج أورويل، أو برسم صورة استشرافية متجهمة لواقعنا المادي، حيث لم يعد للنفس ولا للروح مكان، وذاب الفرد في الكل كما في رواية «نحن» للكاتب الروسي يفغيني زامياتين.

لكن ما وظيفة الأدب الديستوبي إن كان فقط يسلط الضوء على ملامح المدينة الفاسدة ضمن رؤيته التشاؤمية؟ كما يقول ساراماجو في روايته الديستوبية «العمى»:

العمى أن تحيا في مجتمع بلا أمل.

هنا تتجلى عبقرية الأديب حيث يقدم فلسفته لخلاص الجنس البشري وإنقاذه، ففي روايتنا هذه نجد أن الأدب والفكر والدين، والدعوة إلى المحافظة على الشعور بالفردية، وعدم الانجرار وراء سياسة القطيع، هي مفتاح الأمل عند هكسلي لنحظى بـ«عالم جديد شجاع» حقيقي، مع تقبل فكرة الألم والمرض والشيخوخة والموت، والحرب والمجاعة، وهو ما تستوجبه الحياة الطبيعية للإنسان، عوضًا عن الغرق في أحلام وردية تروج لها أيديولوجيات شمولية ترسم صورة خيالية عن المدينة الفاضلة، التي تكفل للفرد كل شيء مادي مقابل أن تسلب منه حريته وفرديته وروحه. فماذا ينفع الإنسان إذا كسب العالم كله وخسر نفسه؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. فيلم وثائقي بعنوان «تراجع أعداد النساء في آسيا» – عواقب السياسات السكانية- قناة دي دبليو الوثائقية الناطقة بالعربية. تم نشره على اليوتيوب في السابع والعشرين من فبراير/ شباط من العام الجاري.
  2. كتاب «حروب العقل»، ماري. د جونز، لاري فلاكسمان.
  3. كتاب «حروب العقل»، ماري. د جونز، لاري فلاكسمان.