لم تكن النشأة الفلسطينية لـ «حزب التحرير» (1953) لتلهيه عن طموحاته العالمية؛ فالحزب تأسس على يد الشيخ تقي الدين النبهاني قاضي محكمة الاستئناف بالقدس (قلب القضية المركزية للعالم الإسلامي). وقد تبنى الحزب من البداية توجهًا عالميًا عابرًا للحدود، أو بعبارة أدق لا يعترف بالحدود بين البلاد. والحزب يعتبر أن العالم يعيش مرحلة انتقالية عابرة بين «الخلافة العثمانية» (ألغيت 1924)، والخلافة القادمة التي وضع الحزب جدولًا زمنيًا لإقامتها بعد 13 عام من تأسيسه، ولاحقًا، مد الفترة 13 عامًا أخرى، ثم 30 عامًا أخرى، فانتهت المدد الثلاث في 2009، فمدها لأجل غير مسمى!


الطريق إلى الخلافة

يتبنى الحزب – الذي ينتشر اليوم في عشرات الدول – فكرة أن جميع الدول اليوم «دار كفر» وضمن ذلك الدول الإسلامية، لأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله، وبالتالي فإن دارهم تشبه مكة في بداية البعثة النبوية، وبناءً على ذلك حدّد الحزب طريقة سيره بـ 3 مراحل:

  • الأولى: مرحلة التثقيف لإيجاد أشخاص مؤمنين بفكرة الحزب وطريقته لتكوين الكتلة الحزبية.
  • الثانية: مرحلة التفاعل مع الأمة، لتحميلها الإسلام، حتى تتخذه قضية لها، كي تعمل على إيجاده في واقع الحياة.
  • الثالثة: مرحلة استلام الحكم، وتطبيق الشريعة وإعلان الخلافة، وحمله الرسالة إلى العالم.

المرحلة الأولى ابتدأها الحزب في القدس عام 1953م وبعد أن استطاع الحزب تكوين «الكتلة الحزبية»، انتقل للمرحلة الثانية،ويمر بها الحزب الآن.


دستور الحزب وولاياته

للحزب دستور مؤلف من 187 مادة معدٌّ للدولة الإسلامية المتوقعة، وهو يسمي الأقطار التي يعمل فيها: «الولايات» ويقود التنظيم في كل ولاية لجنة خاصة به (لجنة الولاية) تتشكل من 3 إلى 10 أعضاء، ويسمى الرئيس العام للحزب بـ «الأمير» وكل أمراء الحزب فلسطينيون من الضفة الغربية تحديدًا؛ وبعد وفاة المؤسس تقي الدين النبهاني عام 1977، تولى عبد القديم زلوم إمارة الحزب حتى تنحيه عام 2003،ليسلم الراية للأمير الحالي المهندس عطاء بن خليل أبو الرشتة.

ويواجه الحزب انتقادات واسعة واتهامات بشق وحدة الصف من قبل اتجاهات إسلامية أخرى منذ تأسيسه بسبب تبنيه أفكارًا تعتبر صادمة للإسلامييين الآخرين كإنكار ثبوت عذاب القبر والمسيح الدجال وتأجيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى حين إقامة الخلافة. برغم اعتماده النهج السلمي كخيار دائم إلا أن أدبيات الحزب تنص على شرعية استعانة الحزب بأطراف خارجية للوصول إلى الحكم وهو ما يطلقون عليه: «طلب النصرة»، ولعل السرية الشديدة والطموح المعلن للوصول للحكم هو أحد أسباب تخوف الأنظمة منهم وملاحقتهم دون هوادة.


الازدهار آسيويًا

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 وتفتته إلى 15 جمهورية شهدت 6 جمهوريات ذات غالبية مسلمة (أذربيجان، وأوزبكستان، وطاجيكستان، وتركمانستان، وكازاخستان، وقيرغيزستان) صحوة دينية، وهو ما حاول حزب التحرير الاستفادة منه لتعزيز نشاطاته ومواكبة تلك الصحوة وإذكائها. وكان من أبرز الدول التي انتشر فيها الحزب أوزباكستان التي تعد الأكثر سكانًا في آسيا الوسطى (32 مليونًا) والحاضنة الأكبر لنشاط حزب التحرير، ويوليها الحزب أهمية خاصة.

وتضم حدود أوزبكستان الجزء الأكبر من وادي فرغانة وتشاركها فيه قيرغيزيا وطاجكيستان، ويشتهر سكان الوادي بالتدين العميق ما ساهم في انتشار أفكار الحزب بينهم في الدول الثلاث، وبسبب القمع الذي مارسه النظام الأوزبكي ضد المظاهر الإسلامية، يتطلع السكان المسلمون للخلاص منه والعيش في دولة تقيم شعائر الإسلام وهو ما يبشرهم به التحريريون. و تمنع قوات الأمن الأوزبكية السيدات من تغطية الرأس وتنزع الحجاب من فوق رؤوسهن في الطرقات. وتكافح أي مظهر للتدين ما دفع كوادر الحزب للجوء للعمل السري.


ما بعد كريموف

منذ تولي إسلام كريموف السلطة عام 1991 وسجون أوزباكستان تشهد جميع أنواع وأشكال التعذيب والانتهاكات ضد المعتقلين الإسلاميين الذين يعدهم النظام أعدى أعدائه، فهناك سجن مخصص لـ «المتطرفين الدينيين الذين لا يمكن إصلاحهم» ويقدر عدد معتقلي الحزب بسبعة آلاف. وتشير تقارير دولية إلى أن حزب التحرير الذي يركز جهوده على أوزبكستان لو نجح في الوصول للحكم في الدولة التي تمتلك أكبر جيش وأكبر جهاز أمني في المنطقة، وهو جهاز أمني لا يقل ضراوة عن نظيره السوفيتي السابق (كي جي بي)، فإن باقي دول المنطقة الخمس سيكون من السهل وقوعها في قبضة التحريريين.

ورغم موت كريموف في سبتمبر/أيلول الماضي إلا أن شيئًا لم يتغير، وأصبح معلنًا أن العهد الجديد لن يختلف عن عهد كريموف، ولا يمل الحزب من تكرار تأكيد أن الحل الوحيد لمشاكل أوزبكستان: إقامة الخلافة.


رصاص الإكرامية في وادي فرغانة

خرجت «منظمة الإكرامية» من رحم حزب التحرير حيث أسسها أكرم يولداشوف التحريري المنشق عام 1996م في مدينة أنديجان، بعد أن أصبح يعتبر أن نهج حزب التحرير يصلح مع واقع الدول العربية، لكنه لا يناسب طبيعة ظروف آسيا الوسطى، واقتنع أفراد الحركة بضرورة التخلي عن السلمية كمنهج وحيد. وكعادة كل الحركات الإسلامية الأوزبكية اتخذت «الإكرامية» من وادي فرغانة معقلًا لها.

لكن حظ الحركة الجديدة لم يكن بأحسن من سابقتها فقوبلت بقمع السلطات، وحوكم عدد من عناصرها ما تسبب في اندلاع أعمال عنف واسعة في مدينة أنديجان (2005) إذ ثار المواطنون في عدة مناطق وطالبوا بسقوط هذا النظام الحديدي، متأثرين بثورة قرغيزيا المجاورة، فقابلت السلطات المحتجين بقمع أدى لمقتل 1200 شخص حسب مصادر مستقلة، حولت على إثرها الحركة نشاطها إلى أفغانستان ثم إلى مناطق القبائل في باكستان.


الحزب في «قرغيزيا الفاشلة»

بخلاف أوزباكستان التي تدور في الفلك الروسي، تبدو قرغيزيا الأكثر تأثرًا في المنطقة بالعولمة والأقل ديكتاتورية، فقد مرت البلاد بثورتين عامي 2005 و2010، ويتمتع التحريريون هنا ببعض الحرية التي يغبطهم عليها زملاؤهم الأوزبك، حتى أن دليار دجامبيف رجل الأعمال والممثل الإعلامي للحزب في البلاد، كان قد أطلق قناة تلفزيونية لنشر فكر الحزب واختار لها اسم «الفكر»، لكنها أغلقت بعد ثلاثة أيام لاعتراضات أمنية.

وينظم الحزب أنشطة علنية ويتمتع منتسبوه بشعبية في أوساط المسلمين لا سيما في الجنوب، لكن هذا لا يمنع تعرضهم باستمرار للمضايقات الأمنية وخضوعهم للتحقيقات والاعتقالات وتفتيش منازلهم ومراقبتهم، فالحزب محظور رسميا ومقبول شعبيا. وتشكو الجهات الأمنية القرغيزية من تكبيل التشريعات لها عن ملاحقة أفراد الحزب كما يحدث في دول الجوار و يطالبون بمنظومة تشريعية أكثر تشددًا، وهو ما تم لاحقًا. على الجانب الآخر يشكو التحريريون من التضييق الأمني، ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2015 أصدر الحزب بيانًا شبه فيه الحكومة القرغيزية بتنظيم داعش بسبب توسعها في استهداف المتدينين.

وفي 17 فبراير/شباط 2016، ألقت الشرطة القبض على 20 سيدة في مدينة كاراسو في وادي فرغانة؛ بسبب الاشتباه بعلاقتهن بحزب التحرير؛ ما دفع شباب الحزب الذكور لتنظيم حملة للاستسلام الطوعي للسلطات الأمنية وهم مقيدو الأيدي لإحراج السلطات رافعين شعار «نرفض العيش وفق طريقة الحياة هذه؛ أبعدوا أياديكم القذرة عن أخواتنا المسلمات! اعتقلونا! أوقفوا تعذيب المسلمين بتهمة انتمائهم لحزب التحرير».

ومما يعكس التأثير المتزايد للحزب، فشل الحكومات القرغيزية المتعاقبة، وهو ما يؤكده كوادر حزب التحرير دائمًا، حتى أن الكولونيل المتقاعد الكزاندر زيليكينكو، قال في حوار له مع وكالة الأخبار 24، أنه «قبل عدة سنوات، سَخِرَ الشعب القرغيزي من فكرة الخلافة، لكنها اليوم ليست بعيدة».

وفي طاجيكستان، اتخذ الحزب موقفًا محايدًا خلال الحرب التي اندلعت بين الإسلاميين والشيوعيين عام 1992 والتي استمرت لخمس سنوات، إيمانا منه بالنهج السلمي للتغيير، ولما انتهت الحرب بتوقيع اتفاق موسكو في يونيو/حزيران 1997 والذي يقضي بتقاسم السلطة بين «حزب النهضة» الإسلامي والعلمانيين وتولي الإسلاميين 30 % من المناصب الحكومية؛ أعلن الحزب رفضه للاتفاق مع «السلطة الكافرة»، رغم استفادة الحزب من أجواء الحرية الجزئية التي أتاحها الاتفاق والتي ظلت تتقلص بشكل تدريجي حتى بلغ القمع ذروته العام الماضي عندما تم إقصاء «حزب النهضة» من السلطة، حيث كان الحزب الإسلامي الوحيد المعترف به رسميًا في آسيا الوسطى، حتى حظره في 29 سبتمبر/أيلول 2015.

وقد أدى القمع المتزايد للمظاهر الإسلامية إلى نزوع نحو التشدد يزايد على المنهج السلمي للتحرير ويعتبره غير مجدٍ في مواجهة البطش، لدرجة أن رئيس القوات الخاصة نفسه، جولمورد خاليموف، انضم إلى داعش، الذي نشط مؤخرًا قرب حدود طاجيكستان في أفغانستان، وقد برّر خاليموف انضمامه لداعش، بحملة حكومته على المسلمين. وقد أغلقت السلطات عشرات المساجد بحجج واهية، وكانت الشرطة تفرض غرامات على النساء المحجبات، وتمنع الآباء من تسمية أبنائهم بأسماء عربية.

وهكذا فإن إطلاق الولايات المتحدة حملتها العالمية ضد ما يسمى بـ «الإرهاب» وفر دعمًا للأنظمة القمعية في المنطقة، وأطلق يدها في البطش بمباركة مشتركة من الدول الثلاث بسبب خشيتهم من الصعود الإسلامي في تلك المنطقة المهمة، ما أدى يمهد الأرض لأن تنتشر دعوة الخلافة التي يدعو إليها «حزب التحرير».