تعتمد العديد من الصناعات والأبحاث على قدرة علماء الكيمياء في بناء جزيئات جديدة وعملية، وقد تكون تلك الجزيئات أي شيء يمكنك تخيله، من المواد التي تلتقط الضوء في الخلايا الشمسية أو تخزين الطاقة داخل البطاريات، إلى الجزيئات التي يمكن أن نمنع بها تطور الأمراض داخل أجسادنا، أو حتى نصنع منها أحذية جري خفيفة الوزن.

ولكن، إذا دخلنا في مقارنة مع الطبيعة في قدرتها على بناء جزيئات كيميائية، فسنجد أنفسنا عالقين في العصر الحجري؛ أنتج لنا التطور أدوات قوية جدًا ومحددة، وهي الإنزيمات، لبناء المركبات الجزيئية التي تعطي الحياة شكلها ولونها ووظائفها. في البداية، عندما عزل علماء الكيمياء هذه اللوحات الفنية الكيميائية، تأملوها في إعجاب فحسب.

يمكننا القول إن الأدوات التي امتلكها العلماء حينها كانت حادة ولا يمكن الوثوق بها، لذا كان غالبًا ما ينتهي بهم الأمر بصنع كثير من المنتجات الثانوية غير المرغوب فيها عندما حاولوا تقليد منتجات الطبيعة. لكن بدأ الوضع يتغير مع حلول الألفية الجديدة.

جاء تغير الوضع مع أبحاث العالمين «بنجامين ليست» و«ديفيد ماكميلان»، بعد تطويرهما للأداة الجديدة المبتكرة لبناء الجزيئات: التحفيز العضوي غير المتماثل، وهو ما جلب لهما جائزة نوبل في الكيمياء 2021. تلك الأداة الجديدة تدخل في عديد من الاستخدامات، مثل البحث في المركبات الصيدلانية واستخدامها لإنتاج أدوية جديدة، كما ساعدت أيضًا في التخلص من كثير من المخلفات الضارة للبيئة.

بنجامين ليست، من مواليد عام 1968 في فرانكفورت بألمانيا، حاز على الدكتوراه عام 1997 من جامعة غوته في فرانكفورت، ويشغل الآن منصب مدير معهد ماكس بلانك لأبحاث الفحم في مدينة «مولهايم آن دير رور» بألمانيا. أمّا ديفيد ماكميلان، من مواليد عام 1968 في بيلز هيل بالمملكة المتحدة، وحصل على الدكتوراه عام 1996 من جامعة كاليفورنيا، ويعمل الآن أستاذًا بجامعة برينستون بالولايات المتحدة الأمريكية.

فما قصة تلك الأداة الجديدة، وما المحفزات الكيميائية وكيف يمكننا استخدامها في صنع جزيئات جديدة؟

أدوات جديدة

كل أداة جديدة أضافها علماء الكيمياء إلى صندوق أدواتهم أسهمت في دقة وقدرة صنع الجزيئات، ببطء ولكن بثقة. تطور علم الكيمياء من النحت في الصخر إلى حرفة دقيقة، وهو ما أفاد البشرية على مدار تاريخها، كما حازت عديد من تلك الأدوات على مكافأتها الخاصة وتُوج أصحابها بجائزة نوبل في الكيمياء.

توجد العديد من جزيئات المواد في نوعين مختلفين، حيث يكون أحد النوعين كصورة في المرآة للنوع الآخر، أو متماثلين، ولكن غالبًا ما يملكان تأثيرات مختلفة تمامًا على الجسم. مثلًا، جزيء الليمونين يملك رائحة الليمون، بينما نسخته المطابقة تشبه رائحة البرتقال.

اكتشاف العالمين بنجامين ليست وديفيد ماكميلان، الذي منحهما جائزة نوبل في الكيمياء، طوّر عملية البناء الجزيئي إلى مستوى جديد تمامًا، فهو لم يقلل من المخلفات البيئية فحسب، بل سهل كثيرًا عملية إنتاج جزيئات غير متماثلة.

أثناء صنع جزيئات المركبات الكيميائية، يظهر وضع غريب بعض الشيء، إذ يمكن أن يتشكل جزيئان، كما ذكرنا، متماثلان، مثل يديك، واحدة تعتبر صورة في المرآة من الأخرى. وغالبًا ما يريد الكيميائيون نسخة واحدة من تلك الصور المتطابقة، بخاصة عند عملية إنتاج الأدوية، لكن من الصعب العثور على وسائل فعالة للوصول لهذا.

وفي عام 2000، بدأ العالمان بنجامين ليست وديفيد ماكميلان في التساؤل، لماذا لا يمكننا التفكير في طريقة أسهل؟ لكن إجابة هذا السؤال لم تكن سهلة بالطبع، وقبل أن نحاول الإجابة سنحتاج إلى إلقاء نظرة سريعة على التاريخ.

اكتشاف عملية التحفيز

 

في القرن التاسع عشر، عندما بدأ علماء الكيمياء في استكشاف الطرق المختلفة التي تتفاعل بها المواد الكيميائية مع بعضها البعض، اكتشفوا بعض الأشياء الغريبة. على سبيل المثال، إن وضعوا الفضة في كأس مع بيروكسيد الهيدروجين (H2O2)، بدأ بيروكسيد الهيدروجين فجأة في الانحلال إلى عنصرين هما الماء (H2O) والأكسجين (O2). لكن عنصر الفضة، التي بدأت العملية في الأساس، لم يبدو عليها التأثر بهذا التفاعل على الإطلاق.

في عام 1835، بدأ الكيميائي السويدي الشهير «جاكوب برزيليوس» في رؤية نمط مكرر في هذا الأمر. وفي التقرير السنوي للأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، كتب عن «قوة» جديدة يمكنها أن «توِّلد نشاطًا كيميائيًا»، وأضاف عديد من الأمثلة التي يبدأ بها التفاعل الكيميائي بمجرد وجود مادة محددة، وأوضح كيف كانت تلك الظاهرة أكثر شيوعًا بكثير مما كان يُعتقد سابقًا. وأكد أن هذه المادة تملك قوة محفزة وأطلق على الظاهرة نفسها الـ«تحفيز».

ومنذ زمن بيرزليوس، اكتشف العلماء عديد من المحفزات التي يمكنها أن تفصل الجزيئات أو تجمعها معًا. وبفضل هذه المحفزات، يمكن الآن إنتاج الآلاف من المواد المختلفة التي نستخدمها في حياتنا اليومية، مثل الأدوية والبلاستيك والعطور والنكهات الغذائية.

نوع جديد من المحفّزات

قبل عام 2000، كانت جميع المحفزات التي تم اكتشافها تنتمي إلى واحدة من مجموعتين: إمّا معادن أو إنزيمات. غالبًا ما تكون المعادن عاملًا حافزًا ممتازًا لأنها تملك قدرة خاصة على استيعاب الإلكترونات مؤقتًا أو تنقلها إلى الجزيئات الأخرى أثناء العملية الكيميائية، وهو ما يساعد في تخفيف الروابط بين الذرات في الجزيء، حتى يمكن كسر الروابط القوية بين تلك الذرات وتتشكل روابط جديدة.

ومع ذلك، فإن واحدة من مشاكل بعض المحفزات المعدنية هي أنها حساسة للغاية للأكسجين وللماء، لذا تحتاج إلى بيئة خالية من الأكسجين والرطوبة، ومن الصعب تحقيق ذلك في الصناعات الكبرى، كما أن عديدًا من المحفزات المعدنية تأتي من المعادن الثقيلة التي يمكن أن تسبب ضررًا في البيئة.

بينما الشكل الثاني من المحفّزات يتكون من البروتينات المعروفة باسم الإنزيمات؛ تملك كل الكائنات الحية الآلاف من الإنزيمات المختلفة التي تنفذ التفاعلات الكيميائية اللازمة للحياة. كثير من الإنزيمات تأتي ضمن عملية التحفيز غير المتماثل، وتشكل صورة مرآة واحدة من الصورتين، كما أنها تعمل أيضًا بجانب بعضها؛ عندما ينتهي أحد الإنزيمات من تفاعل، يتولى واحد آخر المهمة. وبهذه الطريقة، يمكنها بناء وصنع جزيئات كيميائية معقدة وبدقة مذهلة، مثل الكوليسترول أو الكلوروفيل أو نوع من السموم يُعرف باسم «ستركنين» Strychnine، وهي واحدة من أكثر الجزيئات المعقدة التي نعرفها.

وبسبب قوة الإنزيمات كمحفّزات كيميائية فعالة، حاول الباحثون في تسعينيات القرن الماضي تطوير متغيرات جديدة منها لتوليد التفاعلات الكيميائية التي تحتاجها البشرية. كانت مجموعة بحثية تعمل على هذا الأمر، في معهد سكريبس للأبحاث بجنوب كاليفورنيا، وكان ضمن تلك المجموعة العالم بنجامين ليست، عندما ولدت فكرة رائعة حاز بسببها على جائزة نوبل هذا العام في الكيمياء.

«بينجامين ليست» يطرح سؤالًا عبقريًا

عمل «بنجامين ليست» مع الأجسام المضادة المحفزة، في الغالب تعلق الأجسام المضادة بالفيروسات أو البكتيريا الغريبة في أجسادنا، لكن مجموعة الباحثين في معهد «سكريبس» أعادوا تصميمها حتى تتمكن من توليد التفاعلات الكيميائية.

خلال عمله مع تلك الأجسام المضادة المحفزة، بدأ «بنجامين ليست» في التفكير في كيفية عمل الإنزيمات، فهي عادةً ما تكون جزيئات ضخمة مكونة من مئات الأحماض الأمينية، وإضافة إلى تلك الأحماض، تتمتع نسبة كبيرة من الإنزيمات كذلك بالمعادن التي تساعد في توليد العمليات الكيميائية.

ولكن عديدًا من الإنزيمات تحفّز التفاعلات الكيميائية دون مساعدة المعادن، والتفاعلات تحدث بواحد، أو بعدد قليل، من الأحماض الأمينية في الإنزيم. كان السؤال العبقري الذي طرحه بنجامين ليست: هل يجب أن تكون الأحماض الأمينية جزءًا من الإنزيم كي تحفز التفاعل الكيميائي؟ أم هل يمكن لحمض أميني واحد، أو جزيئات بسيطة مماثلة، أن ينفذ نفس الوظيفة؟

كان يعرف أن هناك بحثًا، من أوائل سبعينيات القرن الماضي، استُخدم فيه حمض أميني، يُسمى البرولين، عاملاً حافزًا، لكن هذا مر عليه أكثر من 25 عامًا. بالتأكيد، إن كان البرولين عاملًا حافزًا فعاًلا، فربما كان استمر استخدامه!

افترض «بنجامين» ليست أن السبب وراء عدم استمرار أي شخص في دراسة هذه الظاهرة أن البرولين لم يعمل جيدًا، ودون أي توقعات قام باختبار ما إذا كان بإمكان البرولين تحفيز تفاعل مركب ألدول (الكحول)، حيث ترتبط ذرات الكربون من جزيئين مختلفين معًا، كانت محاولة بسيطة لكنها جاءت بنتائج فورية.

وبإجراء تلك التجارب، لم يثبت بنجامين ليست أن البرولين محفز فعال فحسب، ولكن أيضًا أن هذا الحمض الأميني يمكنه أن ينتج التحفيز غير المتماثل، من بين الصورتين، كان من الشائع أن تتشكل واحدة منهما.

أدرك ليست الإمكانات الهائلة التي قد يقدمها البرولين، ومقارنة بالمعادن والإنزيمات، فإن البرولين يعدّ أداةً قوية ومميزة للكيميائيين، ببساطة لأنه جزيء بسيط للغاية ورخيص وصديق للبيئة. وعندما نشر اكتشافه، في فبراير/شباط عام 2000، وصف ليست التحفيز غير المتماثل بالجزيئات العضوية كمفهوم جديد يملك عديدًا من الفرص في المستقبل.

ولكن، لم يكن وحده في هذا الأمر، وفي مختبر آخر شمالًا في كاليفورنيا، كان «ديفيد ماكميلان» يعمل كذلك على نفس الهدف!

«ديفيد ماكميلان» يسعى وراء نفس الهدف!

في جامعة هارفارد، كان «ديفيد ماكميلان» يعمل على تطوير التحفيز غير المتماثل باستخدام المعادن. كانت حينها تلك الأبحاث تجذب اهتمام كثير من الباحثين، لكن ما لاحظه ماكميلان أن تلك المحفزات نادرًا ما تُستخدم في الصناعة، وهنا بدأ يفكر في السبب، وافترض أن المعادن الحساسة كانت ببساطة صعبة للغاية في الاستخدام ومكلفة أيضًا. لأن تحقيق الظروف المطلوبة لتلك المحفزات، في بيئة خالية من الأكسجين والرطوبة، كانت ممكنة داخل المختبر، ولكن داخل الصناعات الكبيرة لن يمكن الالتزام بتلك الشروط المعقدة. بعدها انتقل إلى جامعة بيركلي، تاركًا فكرة استخدام المحفزات المعدنية وراءه.

بدأ «ديفيد ماكميلان» في تصميم جزيئات عضوية بسيطة يمكنها أن تقدم أو تستوعب الإلكترونات مؤقتًا، مثلما تفعل المعادن. لكن ما الجزيئات العضوية؟

باختصار، هي الجزيئات التي تبني كل الكائنات الحية، ولديها هيكل مستقر من ذرات الكربون. تعلق المجموعات الكيميائية النشطة على هذا الهيكل الكربوني، وغالبًا ما تحتوي على الأكسجين أو النيتروجين أو الكبريت أو الفسفور.

وهنا اختار عديد من الجزيئات العضوية بالخصائص المناسبة، ثم اختبر قدرتها على إنتاج التفاعلات الكيميائية التي تُستخدم لبناء حلقات من ذرات الكربون. وكما كان يأمل، جاءت النتائج مبشرة، وكانت بعض الجزيئات العضوية ممتازة كذلك في عملية التحفيز غير المتماثل، فمن الصورتين المحتملتين، تكونت واحدة منهما أكثر من 90% في المركب الناتج.

وعندما كان ماكميلان على وشك نشر نتائج أبحاثه، أدرك أن مفهوم التحفيز الذي اكتشفه بحاجة إلى اسم، وكان اختياره «التحفيز العضوي» Organocatalysis. وفي يناير/كانون الثاني عام 2000، قبل أن ينشر «بنجامين ليست» اكتشافه، قدّم «ديفيد ماكميلان» مسوّدة ورقته البحثية للنشر في مجلة علمية.

استخدامات التحفيز العضوي تنطلق

التشوه الخلقي للقدمين الناتج عن آثار أدوية الثاليدوميد

بصورة مستقلة عن بعضهما، اكتشف «بنجامين ليست» و«ديفيد ماكميلان» مفهومًا جديدًا تمامًا لعملية التحفيز الكيميائي. ومنذ عام 2000، انطلقت التطورات في هذا المجال بصورة متسارعة للغاية، ولكن احتفظ العالمان بدورهما الرائد في اكتشاف هذا المجال الجديد، لقد صمّما عديدًا من المواد العضوية المحفزة الرخيصة والمستقرة التي يمكن استخدامها لإنتاج مجموعة كبيرة ومتنوعة من التفاعلات الكيميائية.

حقّق هذا الإنجاز الجديد تأثيرًا هائلًا على البحوث الصيدلانية التي تتطلب كثيرًا من التحفيز غير المتماثل، فقبل ذلك كانت كثير من الأدوية تحتوي على صورتي المرآة للجزيء؛ واحدة من الصور نشطة، بينما الأخرى قد ينتج عنها تأثيرات ضارة غير مرغوب بها. والمثال الكارثي الأشهر على ذلك كان فضيحة الثاليدوميد في الستينيات، وهو دواء مهدئ للحوامل، ولكنه أدى إلى «أكبر كارثة طبية منْ صنع الإنسان على الإطلاق» مما أدى إلى ولادة أكثر من 10 آلاف طفل بمجموعة من التشوهات الشديدة.

احتوى مركب الثاليدوميد على الصورتين، إحدى الصور كانت فعّالة، لكن الصورة المعكوسة كانت تدمر بروتينًا مهمًا لتكوين الأطراف في الأجنة، مما أدى إلى تشوهات خلقية كثيرة. ولكن باستخدام التحفيز غير المتماثل، يمكننا الآن أن نصنع كميات كبيرة من الجزيئات المختلفة غير المتماثلة، فمثلًا يمكن أن ننتج صناعيًا بكميات كبيرة مواد علاجية محتملة لم يكن من الممكن عزلها سوى بكميات صغيرة من النباتات النادرة أو بعض الكائنات في أعماق البحار.

وفي شركات الأدوية، تُستخدم الطريقة أيضًا لتبسيط إنتاج الأدوية الحالية، مثلًا «الباروكستين» الذي يُستخدم لعلاج القلق والاكتئاب، والدواء المضاد للفيروسات «أوسيلتاميفير» الذي يُستخدم لعلاج عدوى الجهاز التنفسي.

يمكننا أن نذكر الآلاف من الأمثلة على كيفية استخدام التحفيز العضوي غير المتماثل، ولكن لماذا لم يأت أحد بهذا المفهوم البسيط والرخيص للتحفيز غير المتماثل في الماضي؟

إحدى الإجابات أن الأفكار البسيطة غالبًا ما تكون أصعب في تخيلها، ربما وجهة نظرنا تعوقها أفكار مسبقة حول كيفية عمل العالم، مثل فكرة أن المعادن أو الإنزيمات فقط يمكن أن يُحفِّزا التفاعلات الكيميائية. ما نجح فيه «بنجامين ليست» و«ديفيد ماكميلان» هو تجاوز تلك المفاهيم المسبقة، وبحثا عن حل مبتكر للمشكلة التي عانى منها علماء الكيمياء لعقود طويلة من الزمن.