لكل عصر وزمان مشاكله الخاصة، فمثلًا نشأ جيل الأجداد مع انتشار جهاز التلفزيون بكثرة، ثم نشأ جيل الآباء بينما كانت ثورة الكمبيوتر تبدأ في التوسع، ونشأ أبناء جيلي، وهو جيل الألفية مواليد الثمانينيات والتسعينيات، أثناء فترة انفجار الإنترنت الصاخبة. ربما كانت أكبر مشاكلنا حينها كيف نحصل على اتصال جيد بالإنترنت، ولكننا الآن أصبحنا نحن أنفسنا جيل الآباء، ويتوجب علينا اتخاذ قرارات مصيرية تخص حياة أطفالنا. ويعتبر شراء أول هاتف ذكي للطفل من أهم تلك القرارات المصيرية بالنسبة إلى الآباء والأمهات في هذا العصر.

لم يعد الأمر مجرد رفاهية الآن، أو أن نعامل الهاتف الذكي مثل الأكسسوارات التي يمكن الاستغناء عنها، وبالطبع لن نحتاج إلى ذكر تفاصيل بديهية وكلشيهات مكررة عن مميزات الهواتف الذكية في هذا العصر، فهناك احتمال يفوق 70% أنك تقرأ هذا المقال من شاشة هاتفك الذكي أصلًا. لكن، في نفس اللحظة، لن يكون الاختيار بتلك البساطة حين يتعلق الأمر بطفلك الصغير، وهناك كثير من المخاطر التي قد تترتب على مثل هذا القرار.

المهم، في النهاية ستتوصل أنت وزوجتك إلى أن هناك كثيرًا من الأسباب تُبرِّر قرار شراء الهاتف الأول لطفلك، ولكن السؤال هو: كيف تتعامل مع هذه المسئولية؟

قد يتطلب الأمر عملية بحث وفترة انتظار طويلة، حتى تعتصر الأدمغة بحثًا عن خطة محكمة تغطي كل شيء، بدايةً من كيفية استغلال الهاتف الجديد لتعليم الطفل درسًا في الاقتصاد والحفاظ على الأموال الشخصية، وانتهاءً بالتوصل إلى عقد مُلزِم يُشجع الطفل على استخدام الهاتف بسلوك آمن ومسئول.

قبل أن نبدأ دعنا نتفق أن لكل عائلة قواعدها وأفكارها الخاصة فيما يتعلق بتربية أطفالها واستخدامهم للتقنية والأجهزة المختلفة؛ لذا فإن الأفكار التي نناقشها هنا هي مجرد اقتراحات أو بعض النصائح البسيطة، الغرض منها أن تصبح بمثابة نقطة انطلاق لتسهيل المناقشة مع طفلك حول قواعد استخدام الهاتف الذكي داخل العائلة.

الرغبة مقابل الاحتياج

 

دعنا نفترض أن طفلك يرغب في أحدث إصدار من هواتف الآيفون، ربما أنت نفسك ترغب في شراء أحدث إصدار من هواتف الآيفون، من منَّا لا يرغب في ذلك؟! ولكن «ما كل ما يتمنَّى المَرْءُ يُدْركه» كما قال المتنبي يومًا ما. المهم، في تلك الحالة تقرر شراء هاتف أندرويد بسيط بسعر مناسب في المتناول من الفئة الاقتصادية، ويصلح لاستخدام طفل في العاشرة من عمره مثلًا. دون أن تدرك ذلك، ستقدم لطفلك هنا أول درس اقتصادي في حياته. ففي كتابه «The Opposite Of Spoiled» يقول الصحفي والكاتب «رون ليبر»:

كل محادثة مالية وكل عملية شراء كبيرة داخل الأسرة تعتبر فرصة لتعليم الأطفال الفرق بين الرغبة والاحتياج.

بمجرد تأسيس الحاجة، فإن المشكلة التالية أكثر تعقيدًا؛ يذكر ليبر:

إنه السؤال الأكثر وجودية للجنس البشري، ولكنه ينطبق جيدًا على عالم المال: كم يكفي؟ عندما تؤسس الحاجة لشيء ما، كم من ذلك الشيء تحتاج؟

يشمل هذا السؤال كل شيء؛ من نوع الهاتف إلى مميزاته وعدد الميجابيكسل في الكاميرا، وصولًا إلى باقة المكالمات والإنترنت. إن كنت تنوي التشدد، يمكنك أن تبدأ بشراء هاتف تقليدي بدائي بغرض الاتصالات فحسب، حتى يمكنك الاطمئنان على طفلك عند خروجه بمفرده مثلًا، وفي الوقت نفسه توضح لطفلك أنه لا يحتاج، من الناحية التقنية، إلى أي شيء أكثر من ذلك. وتعرض عليه ترقية الجهاز بعد 3 أشهر مثلًا إذا اجتاز اختبار المسئولية، أي إذا لم يضيِّع هاتفه أو يكسره. وحينها يمكنك شراء هاتف ذكي أغلى، وربما باقة مكالمات وإنترنت أساسية.

وإن كان طفلك يصر على امتلاك هاتف أغلى وأحدث، بإمكانيات أقوى، لأن الهواتف الآن تعكس الوضع الاجتماعي، خاصةً بين الأطفال في المدرسة، وهو لا يرغب في أن يكون أقل من أقرانه، فهنا عليك أن توضح له جيدًا أن هذا الطلب يعتبر «رغبة»، ويجب أن يدفع مقابلها، مثلًا المشاركة من أمواله التي احتفظ بها من مختلف المناسبات، أو الاستغناء عن العطلة لكي نستخدم أموالها في شراء الهاتف الذي يريده. يقول ليبر: «تَعلُّم إجراء المقايضات جزء مهم من النضج».

لماذا ومتى تشتري أول هاتف ذكي لطفلك؟

 

إن معرفة لماذا يريد طفلك هاتفًا ذكيًّا يفتح الباب لمحادثة مهمة: هل يريد هاتفًا لأن أقرانه في المدرسة يملكون واحدًا فحسب؟ أم يريده بسبب تطبيق أو لعبة يستخدمها أصدقاؤه؟ إن كان الأمر كذلك، يجب أولًا أن تبحث وراء ذلك التطبيق وكوِّن رأيًا حوله. ببساطة ليس منطقيًّا أن تشتري له هاتفًا ثم تخبره أنه لا يمكنه استخدامه للسبب الوحيد الذي أراد الهاتف من أجله!

وإن كان طفلك يخبرك بأن كل الأطفال الآخرين في الفصل يملكون هاتفًا ذكيًّا، فببساطة لا تصدقه، إلا إن كانت أعمارهم فوق الـ 16 عامًا، فمن المحتمل أنه يقول ذلك كتحايل لكي يضغط عليك لشراء الهاتف الجديد. لا يعني ذلك نسيان أو تجاهل الدور الذي تلعبه الهواتف الذكية الآن في حياة الأطفال والمراهقين الاجتماعية، فالهواتف مهمة جدًّا للبقاء على اتصال بالأصدقاء خارج المدرسة، وقد يشعر الأطفال بدونها بالانعزال اجتماعيًّا عن أقرانهم؛ لذا هنا لا تخضع للابتزاز، وعليك دراسة الأمر من مختلف الجوانب.

قد لا توجد سن سحرية تدل على استعداد الطفل للهاتف الذكي، خاصةً مع استخدام الأطفال حاليًّا لهواتف الآباء، وكذلك للأجهزة اللوحية، ولكن شراء هاتف ذكي خاص بالطفل فحسب يحتاج للبحث عن خصائص معينة من النضج. مثلًا هل يملك طفلك شعورًا بالمسئولية؟ هل يلتزم بمواعيده وكلمته بتنفيذ واجباته المطلوبة؟ هل يُهمِل ويفقد ممتلكاته وألعابه وينسى أين تركها، أم أنه يحافظ عليها ويضعها في مكانها المناسب؟ إجابات تلك الأسئلة ستوضح لك مدى نضج طفلك، وهل يمكنه الاحتفاظ بهاتف خاص به أم لا.

اقرأ أيضًا: دليلك لاختيار أفضل هاتف ذكي في 2021.

مواطن رقمي صالح

 

امتلاك الطفل لهاتف ذكي أمر مثير للقلق هذه الأيام، لأنك ببساطة تُسلِّمه مفاتيح بوابة صغيرة على العالم بأكمله، هناك سيجد الطيب والشرس والقبيح في هذا العالم؛ لذلك قبل أن تُسلِّمه تلك المفاتيح، من المهم أن تُسلِّحه بالمعرفة التي يحتاجها لكي يتنقل بأمان وسلام وسط ذلك العالم الموحش.

في كتابها «Real-Life Rules» تقول المعلمة «ماريا بروهل»:

تحدث مع طفلك عن بصمته الرقمية التي تبدأ بأجهزة الآيباد والكمبيوتر الشخصي، ولكنها تنمو أكثر مع الهواتف الذكية. يمكنك أن تبحث على حسابك على منصات التواصل وتعرض لطفلك ما يظهر: الأشخاص الذين تتابعهم والتعليقات التي كتبتها على المنشورات أو المقالات المختلفة. تأكد من أن طفلك يفهم أن كل ما تفعله على الإنترنت، من تعليقات وإعجابات ومنشورات، يلازمك لسنوات طويلة قادمة.

يمكنك أن تتفق مع طفلك على كتابة عقد -ضمني على الأقل- وتذكر فيه بوضوح أن هذا الهاتف الذكي امتياز وليس حقًّا من حقوقه، وأنه يمكن أن يختفي في أي وقت ولأي سبب من الأسباب. قد تتضمن بعض بنود هذا العقد متى وأين يمكن استخدام الهاتف، يُمنع الاستخدام قبل النوم مثلًا أو على مائدة العشاء أو أثناء وقت الواجبات المدرسية. وكيف يمكن استخدامه، تُمنع المكالمات الطويلة مثلًا، أو تحميل تطبيقات وألعاب بدون إذنك أو إذن والدته أولًا، بالإضافة إلى تحمل الطفل المسئولية المالية عن فقدان الهاتف أو كسره، وأي بنود أخرى ترى أنها مناسبة.

كما يمكن أن يُغطي العقد أيضًا آداب السلوك الرقمية، أن يعامل الآخرين بالطريقة التي يتمنى أن يعاملوه بها، لا يتنمر على أحد على مواقع التواصل الاجتماعي، أو يرسل صورًا أو رسائل غير لائقة. وفي حال الإخلال ببنود ذلك العقد يُسحَب منه الهاتف الذكي حتى يتعلم أن العقد شريعة المتعاقدين، وأن هناك عواقب لأفعاله.

اقرأ أيضًا: «أنا انطفيت»: لماذا يتزايد شعور الشباب بالقلق والاكتئاب؟

التربية في عصر الهواتف الذكية

 

التربية في عصر الهواتف الذكية قد تتحول إلى عملية مرعبة، ولكن هناك كثيرًا من الموارد التي قد تساعدك، والخطوة الأولى هي سد فجوة المعلومات، فمهما كنت تعرف فقد يعرف ابنك أكثر الآن. كلمات مثل «التنمر على الإنترنت» cyberbullying كافية لتجعل أي ولي أمر يفكر في تتبع كل حركة رقمية لأطفاله على الشبكة.

هناك كثير من الخدمات التي تسمح لك بتتبع نشاط طفلك، ومراقبة التطبيقات المختلفة، والحد من استخدام الهاتف الذكي في أوقات محددة من اليوم، ومنع المكالمات والرسائل غير المرغوب فيها. مع تطبيقات الرقابة الأبوية، المتاحة لكل من أجهزة أندرويد وآيفون، يمكنك تفعيل إعدادات المراقبة على الإنترنت، وكذلك الحصول على تقارير عن الاستخدام اليومي والأسبوعي للهاتف الذكي.

تُخبِرك ميزة وقت الشاشة من «آبل» بكمية الوقت الذي يقضيه طفلك على الإنترنت وداخل الألعاب والتطبيقات المختلفة، كما تتيح لك وضع قيود على عدد الساعات التي يمكن استخدام الجهاز فيها، أو على تطبيق معين، كل يوم.

وبالمثل، ميزة الرفاهية الرقمية في نظام «أندرويد» تملك مجموعة متنوعة من أدوات الرقابة الأبوية، لمساعدة الأطفال على تعلم كيفية استخدام هواتفهم الذكية بمسئولية وأمان، دون تضييع كثير من الوقت عليها يوميًّا. وأشهر تلك التطبيقات المجانية وأكثرها سهولة في الاستخدام هي تطبيق  Google Family Link.

تتطلب مساعدة أطفالك على تجنب مخاطر استخدام الهاتف الذكي نفس مجموعة الأدوات التي تعتمد عليها دائمًا كأب وأم، وكما تذكر «ماريا بروهل»:

عندما يحصل الطفل على هاتفه الأول، أخبره أنه لا توجد خصوصية. ومهمة الوالدين التأكد من الحفاظ على أمان أطفالهم، وهذا يعني الوصول إلى جميع التطبيقات وكلمات المرور، وإمكانية الاطلاع على هاتف الطفل في أي وقت.

لكن، ومثل كل شيء في الحياة، الأمر ليس بتلك البساطة، المراقبة المستمرة ليست بالضرورة الحل الأمثل؛ يمكنك أن تعجز عن مواكبة ومطاردة هذا المسار الرقمي. وبالنسبة إلى كل أدوات المراقبة الأبوية، هناك كثير من الحيل التي قد تساعد طفلك على إخفاء المعلومات عنك.

لذا فربما الحفاظ على خطوط التواصل بينكما هو الوسيلة الأفضل، شجِّع طفلك على أن يأتي إليك مباشرةً إن رأى شيئًا يثير الشك أو الجدل على شبكة الإنترنت، وطمئنه أنك ستحافظ على هدوئك إذا جاء وطلب مشورتك ورأيك. عليك أن تكون ودودًا حتى إن كنت لا تحب ما يقوله أطفالك، يجب أن يشعروا بالراحة عند اللجوء إليك إن كان هناك شيء يزعجهم أو يؤذي مشاعرهم. خذ زمام المبادرة، وافتح معهم حوارًا ونقاشًا شيقًا حول ما يرونه على الإنترنت، وحول مشاكل العالم التي تظهر أمامهم هناك.