يمكنك أن تفتح يوتيوب الآن وتبحث بكلمتي شوكولاتة chocolate وأفريقيا africa، غالبًا سيعود لك روبوت يوتيوب بقائمة فيديوهات يتقدمها مجموعة من الفلاحين الأفارقة يتذوقون الشوكولاتة لأول مرة، وقد تظن أن هذا شيئًا جميل يبدو للبهجة بشكل ما! لكن بعد القليل من التدقيق ستدرك أن القصة ليست كذلك على الإطلاق!

لنبدأ بالأرقام

 

أفريقيا تتصدر بجدارة؛ 30% تقريبًا من إنتاج الكاكاو العالمي يزرع في أراضي ساحل العاج، حوالي 2 مليون طن سنويًا، وبفارق شاسع عن أقرب منافسيها، غانا. وبشكل عام، بين أعلى 10 دول في إنتاج الكاكاو على مستوى العالم، تأتي 4 دول من القارة السمراء: ساحل العاج وغانا والكاميرون ونيجيريا، وبأكثر من 75% من إنتاج الكاكاو. وشركات مثل نستلة وكادبوري وهيرشي تستخدم الكاكاو الأفريقي، وهنا تأتي المفارقة، استهلاك أفريقيا من الشوكولاتة الفاخرة لا يتجاوز 5% من الاستهلاك العالمي، أي أن كل ما يزرع محليًا يتم تصديره عادة في شكله الخام «حبوب الكاكاو» أو بعد معالجة أولية، لتتم مرحلة التصنيع النهائي والاستهلاك خارج القارة المنتجة.

طعام الآلهة

شجرة الكاكاو

نبتة صغيرة لا تتعدى بضعة أمتار، دائمة الاخضرار طوال العام نظرًا للطقس الاستوائي الذي تترعرع به، موطنها الأصلي بحوض نهر الأمازون بأمريكا الجنوبية، إنها شجرة الكاكاو، أو Theobroma cacao، وتعني باللاتينية طعام الآلهة، وهو الاسم الذي أطلقه عليها في القرن الثامن عشر عالم النبات السويدي الشهير كارل لينيوس. ونظرًا لقيمتها العالية تم استزراعها في دول وسط أفريقيا ذات الطقس المشابه لموطنها، بدأ الأمر بغانا منذ أكثر من قرن، والآن تزرع في أغلب الدول الاستوائية في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية. 

ثمرة شجرة الكاكاو

تنتج شجرة الكاكاو ثمرة كبيرة الحجم نسبيًا، تصل حتى 35 سم، وتحتوي على 20-60 بذرة كاكاو. وفي المتوسط تنتج الشجرة الواحدة نصف كيلو من حبوب الكاكاو في العام، بعد عناية فائقة واهتمام من المزارع. وبعد قطف ثمار الكاكاو، يتم استخراج الحبوب وتجفيفها قبل تجهيزها للشحن والتصدير لتتم المعالجة والتحويل للحلوى الأكثر جاذبية.

مهمة ليست سهلة على الإطلاق

ما يبدو بديهيًا لك، وتمارسه كنشاط يومي إن كنت لا تحسب سعراتك الحرارية، يبدو للبعض الآخر شيئًا معجزًا للغاية، بعيدًا جدًا، غير منطقي وجوده.

في هذا الفيديو الشهير للغاية، والذي سيثير حزنك ويحرك مشاعرك بكل تأكيد، ستجد مجموعة من الفلاحين كبار السن بائسي الحال يرون ويتذوقون قوالب الشوكولاتة لأول مرة، رغم أنهم قضوا أعمارهم في العناية بشجرة الكاكاو وجني ثمارها. أثار هذا الفيديو ضجة وقت ظهر للنور أول مرة، وأوضح للعالم زاوية منسية تمامًا عن زراعة الكاكاو وإنتاج الشوكولاتة.

زراعة شجرة الكاكاو والعناية بها وقطف ثمارها عملية مرهقة جدًا تمارسها أسر شديدة الفقر ويعمل بها أطفال تركوا تعليمهم، وبدون أي عائد مادي مناسب. كما أن طرق زراعة الكاكاو عتيقة عكس المتوقع في اقتصاد منتشر عالميًا مثل هذا، أقصد هنا أن الزراعات تتم على مستويات صغيرة في مزارع أسرية محدودة المساحة، وبطرق بدائية، بدلاً من طرق الزراعة الحديثة المميكنة في مزارع عملاقة الحجم، ناهيك عن تسرب الأطفال من المدارس لمشاركة الأهل في الزراعة، وانعكاس هذا على مستقبلهم بالكامل في ظل مقابل لا يصل حتى 1 دولار يوميًا لكل فرد. يحدث هذا كون المزارعين هم الحلقة الأضعف في سلسلة إيصال قالب الشوكولا إلى مائدتك، لا يجد من يدافع عنهم سوى فريق فيديو مزود بمجموعة من قوالب الشوكولا التي يراها ويتذوقها من زرعها لنا لأول مرة، بينما تسيطر مجموعة من الشركات المحدودة العابرة للقارات على باقي عملية الإنتاج.

 وهناك بضع مبادرات لإنهاء هذه الحالة مع إعلان بعض منتجي الشوكولاتة العالمية مثل MARS البريطانية مثلاً التزامهم بها، وهي مبادرات تهدف لتطوير طرق الزراعة ودعم الفلاحين وتوفير مقابل مناسب لجهودهم فوق خط الفقر العالمي، مع محاولة لتحسين أوضاعهم الاجتماعية ومستوى تعليم أطفالهم. وقالت دراسة نشرت في 2018 من جامعة Wageningen University and Research إن هذه البرامج لها أثر إيجابي بالفعل على معيشة الفلاحين وكذلك جودة المنتج، إلا أنها ما زالت مطبقة على نطاقات محدودة للغاية، ينقصها الانتشار على نطاق أكثر اتساعًا.

هذا عن العمالة، فماذا عن البيئة؟

حرب على الطبيعة

كيف يمكنك زراعة آلاف الأفدنة المقسمة لقطع زراعية صغيرة دون أدوات وتقنيات زراعية حديثة؟ الاعتماد على مياه الأمطار والكثير الكثير من الأسمدة والكيماويات ومبيدات الحشرات بالطبع! 

غابات تم تحويلها لمزارع كاكاو

في دراسة نشرتها جامعة  University of Science & Technology، بغانا عام 2008، يقول الباحثون إن زراعة شجرة الكاكاو لها أثر بيئي ضار جدًا على غانا نتيجة لكمية الكيماويات المستخدمة من أسمدة ومبيدات حشرية، ما يلوث البيئة ويقضي على التنوع البيئي الطبيعي في المناطق المزروعة، بجانب كمية المخلفات العالية التي ينتجها استخراج بذور الكاكاو والتخلص من باقي الثمرة العملاقة، والتي تترك عادة لتتخمر في البيئة دون أي فائدة حقيقة، وتبلغ كتلة المخلفات الناتجة حوالي 67% من وزن الثمرة. كل هذا يؤذي البيئة الطبيعية، كما أن له أثرًا بالغًا على زيادة نسبة غازات الصوبة الزجاجية في الغلاف الجوي، وبالتالي احترار الأرض.

في ساحل العاج، المنتج الأكبر لبذور الكاكاو كما ذكرنا آنفًا، فقدت الغابات المطيرة 80% من مساحتها تقريبًا آخر خمسين عامًا فقط! جزء من السبب يعود كذلك للاضطرابات السياسية والجفاف الذي تعرضت له الدول المجاورة، ما دفع أهلها للهجرة واستيطان الغابات ومن ثم تحويلها لمزارع كاكاو صغيرة. كذلك فشل الشركات الكبرى التي تعهدت بالحفاظ على نظام زراعي حديث يحفظ الغابات في تنفيذ وعودها، مثل MARS، وكذلك Hershey.

 ورغم جهود المنظمات البيئية لمحاولة السيطرة على تدمير الغابات وتوفير أطر منظمة لزراعة الكاكاو، إلا أن الحكومة الإفوارية لا يبدو أنها تتعاون بشكل مناسب فيما يخص هذا الأمر. ففي قانون صدر مؤخرًا، تعطي الحكومة الإفوارية سلطة وسيطرة لكبار مصنعي الشوكولاتة على غابات تم تحويلها لمزارع في محاولة لرفع جودة العملية برمتها بداية من الزراعة وحتى المعالجة النهائية، إلا أن وجود تلك المزارع في غابات بشكل غير قانوني أدى لتدميرها من الأساس، يعني هذا أنه لا يوجد أمل لإعادة استزراع تلك الغابات. لكن، تتضارب وجهات النظر حول هذا القانون، والذي يهدف حسب رؤية الحكومة لحماية الغابات التي لم تطلها أيادي التدمير بعد، وذلك بتطوير الزراعة في الأراضي المزروعة حاليًا.

لكن في ورقة بحثية أخرى من جامعة Wageningen University and Research، يقول الباحث إن الإجراءات الحالية غير كافية لحماية زراعة الكاكاو على المدى الطويل، كون تدمير الغابات يزيد من احترار الأرض، ويقلص المساحة المناسبة لزراعة الكاكاو، ويجب عمل دراسات مسبقة لتوقع المناطق الأكثر تناسبًا مع مستقبل زراعتها وتحويلها لمزارع حديثة، مقابل الحفاظ على الغابات الحالية، هذا بجانب العديد من النصائح التي حملتها الورقة فيها يخص تطوير المزارع الصغيرة وإعادة تأهيل المزارع القديمة.

حسنًا، عندما تتناول الآن قالب شوكولاتة مستوردة من دولة أوروبية، فالأغلب أنك تتناول منتجًا أفريقيًا بشكل ما، فمن المسؤول هنا؟ شخصيًا لا أحمّل المستهلك النهائي أي مسؤولية، هناك حكومة تنازلت عن غاباتها وحقوق مزارعيها، وشركات تستغل الفساد والعمالة والأجور الضعيفة لمضاعفة أرباحها دون تحمل أي عواقب، وهناك منظومة اقتصادية عالمية تحمي مثل تلك الممارسات. لن يعيق كل هذا تناولك قالبًا من الشوكولاتة اللذيذة وأنت محمل بالذنب! فقط أنصحك بمراقبة سعراتك الحرارية، على الأقل هذا يمكنك السيطرة عليه بسهولة.