بعد أن اقترب عدد مستخدمي الفيسبوك من ملياريْ ونصف إنسان، ومع وجود مئات الملايين في مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى مثل إنستاجرام، وتويتر، وغيرهما؛ أصبح بالإمكان أن نطلق على عصرنا اسم «عصر السوشال ميديا»، لا سيّما وقد أصبح الكثير من البشر يفتتحون يومهم بتصفح حساباتهم على موقع التواصل الاجتماعي المفضّل لهم.

يمتلئ عالم السوشال ميديا بالكثير من الظواهر، التي تستدعي علومًا خاصة لتحليلها، وتوقع مآلاتها. أصبحنا -مثلًا- بحاجة لعلم نفسٍ خاص لفهم الفوارق السلوكية والنفسية بين شخصية الواقع، وشخصية حساب «السوشال ميديا»، وعلم اجتماعٍ خاص، يفسر لنا لماذا يلتف رواد السوشال ميديا حول هذه الفكرة أو تلك، أو لمَ ينتشر الإعجاب بهذا الشخص المؤثر «إنفلونسر» أو ذاك… إلخ.

لكن إلى أن تتبلور مثل تلك العلوم، يمكن للمستخدم العادي مثلنا، ببعضٍ من المتابعة،والتركيز ، أن يلاحظ الظواهر المستجدة، والتطورات المتلاحقة في هوية واهتمامات ومناخ عالم السوشال ميديا المصري خاصةً، والعربي عامة.

سنرصدُ في السطور التالية إحدى تلك الظواهر الفيسبوكية التي لفتت الأنظار مؤخرًا، وتعتبر تجليًّا جديدًا لطوفان الكوميكس الذي احتلّ الفضاء الإلكتروني العربي في السنوات الأخيرة.

العصر الذهبي للميمز

قبيْل اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2010، وفي أعقابها، خاصة الثورة المصرية يناير 2011، وبروز دور فيسبوك وغيره من مواقع التواصل في الحشد لها بعيدًا عن رقابة الدول الصارمة على المجتمع الواقعي العام، تضاعفَ عددُ مستخدمي تلك المواقع من كافة الأعمار والتوجهات، خاصة شريحة الشباب والمراهقين والتي تكاد تكون نسبة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي فيها 100%.

كان من أبرز ظواهر تلك الطفرة الفيسبوكية، انتشار الكوميكس الساخرة كالنار في الهشيم، كوسيلة للاعتراض، والتعبير عن الآراء السياسية والرياضية والفنية، بأسلوب لاذعٍ، يجذب الانتباه، ويحقق الانتشار. انتشار مثل تلك الظاهرة في مصر لم يكن غريبًا، في بلدٍ كانت السخرية فيه على مدار التاريخ جزءًا لا يتجزأ من روح الشعب، ومادة وعيِه، ووسيلته الوحيدة في أحيانٍ كثر للتعبير عن نفسه، وانتقاد حاكميه، أو من يخشاهم عمومًا.

هكذا استبدلنا فنون الكاريكاتير والانتقاد المباشر، بالكوميكس الساخرة والكوميدية على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي حلّت محلَّ إطلاق النكات الذي كان له السبق في عصر ما قبل الكوميكس.

ولم تقف الكوميكس عند حدٍ معين، فأصبحت تتوغل وتشتبك مع كافة القضايا التي تشغل البال، بدايةً من الرياضة، وسقطات الإعلاميين، وتصريحات السياسيين، مرورًا بصعوبة الامتحانات، والقوانين الجديدة، وليس انتهاءً بالأفكار والأيديولوجيا.

الهبدنت: تحول فريد في دنيا الكوميكس

صفحة جديدة مخصصة بالأساس للكوميكس السياسي والاجتماعي، بلغ عدد متابعيها أكثر من 37 ألفًا لحظة كتابة تلك السطور. لا يبدو العدد ضخمًا في ذاته، فهناك الكثير من صفحات الكوميكس العربية المليونية، وأكثر منها من يضم مئات أو على الأقل عشرات الآلاف من المتابعين. لكن في المقابل قد لا يبدو الرقم هينًا باعتبارها صفحةً حديثة نسبيًا، بدأت في عصور فيسبوك المتأخرة، وفي ظلِّ قواعده الجديدة التي تركز على الربح، والتي لم تعد تسمح بالتمدد السريع للصفحات -كما كان في الزمن الجميل- إلا إذا لجأت إلى الإعلانات المدفوعة، أو كان محتواها من النوع شديد الخفة، أو الصدمة، مما يسمح له بالتمدد ذاتيًا.

صورة على صفحة الهبدنت الدولية، تخليدًا لذكرى ثورة يناير.

الملفِت للنظر أن تلك الصفحة اختصّت نفسها بالمشاركة في، أو خلق، ترينداتٍ متميزة، ولا يشترَطْ أن تكون رائجة، تقدم من خلالها رسائلها المباشرة وغير المباشرة، والتي تمسُّ قضايا خطيرة، سياسية وتاريخية، ودينية، مما أثار حولها مساحةً واسعةً من الجدل، والآراء شديدة التناقض من شرائح المتابعين المختلفة.

لكن بالطبع وجب التحذير من أن الأسلوب اللاذع في بعض منشورات الصفحة، يصل إلى حد استخدام ألفاظ فاحشة، لا تصلح مع صغار السن، ولا حتى كبار السن.

الكوميك التاريخي: ناصر والسادات ومبارك وغيرهم

كان من أبرز تريندات الكوميكس في الشهور الأخيرة، تريند الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والذي جعلته تلك الموجة «الكوميكسية» رمزًا للفشل، ولتكرار الفشل. في بعض أيام تمدد تلك الموجة، أصبح أكثر منشورات حائط الفيسبوك لدى أكثرنا، عبارة عن كوميكس تربط عبد الناصر بشتى أنواع الفشل من السياسة والحرب، وصولًا إلى فشل أم في تغيير حفاضات طفلها، أو فشل مراهق في اختبار استعراضات الكاراتيه.

لم تخلق صفحة الهبدنت الدولية تريند عبد الناصر الخاسر، وإن كانت ساهمت فيه بشكلٍ مكثف. لكن كان وجهُ تميزها عندما ألحقته بتريند جديد عن الرئيس الراحل السادات، سخرت من خلاله من بعض تناقضات خطابه، وسياساته، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات مع «إسرائيل»، وعقد معاهدة السلام الشهيرة معها.

بل حتى سخرت الكوميكس من دور السادات في 23 يوليو/تموز 1952.

ولم تسلمْ لحظة اغتيال السادات المهيبة من الكوميكس أيضًا.

وبالطبع بعد السادات، جاء الدور على الرئيس المخلوع «حسني مبارك».

فمثلًا، هذا كوميك مبني على نكتةٍ شهيرة كانت تتردد في عهد حسني مبارك، عن الوضع الخاص لولديْ مبارك علاء وجمال.

أما هذا فللسخرية من قضية التوريث، التي كانت الشغل الشاغل لنظام مبارك في سنواته الأخيرة.

وذاك للسخرية من ابتزاز رجال الأعمال في عهد مبارك، مقابل غض الطرف عن أعمالهم.

وهذا عن كبار رجال دولة مبارك، مثل رئيس مجلس الشعب الأسبق «فتحي سرور»، ووزير الإعلام «صفوت الشريف».

وحتى الملك فاروق، آخر ملوك مصر، نال نصيبه من الكوميكس.

وكوميكس ساخرة ممن يروجون لمزايا العهد الملكي، ويتمنون عودة مصر ملكية.

بل وحتى أم الملك الفاروق التي لا يعرف 99% من المصريين الآن اسمها، قد نالت موجة من الكوميكس.

هتلر والحرب العظمى

لم يسلم الفوهرر من آلة السخرية «الكوميكسية» للهبدنت الدولية، رغم أن الحرب العالمية الثانية، ومآلاتها، وأداء هتلر، ليس من أهم أولويات الغالبية العظمى من المصريين هذه الأيام.

هذا الكوميك مثلًا يسخر من ثقة هتلر أول الحرب بقدرته على سحق بريطانيا العظمى، خاصةً بعد جهودة في إعادة تسليح ألمانيا في الثلاثينيات، وتخليصها من تبعات معاهدة الاستسلام في الحرب العالمية الأولى. تحولت انتصارات هتلر الأوَّلية إلى هزيمة، وكان لتدبيرات خصمه تشرشل رئيس وزراء إنجلتزا، دورٌ بارز في ذلك.

وكوميك آخر يتحدث عن صمود النرويج في وجه الغزو النازي.

وآخر عن الحملة النازية ضد الاتحاد السوفييتي، والتي مُنيَت بالفشل الذريع آخر الأمر.

وهذا أيضًا عن انتصار ستالين على هتلر في آخر الحرب.

معاوية ويزيد

سبّب هذا الترند عاصفةً من النقد للصفحة، فكال لها العديد من المتابعين اتهاماتٍ من قبيل أنها صفحة شيعية تسيء للصحابة… إلخ. وهي المرة الأولى التي نرى فيها صفحة ساخرة تناقش قضيةً تاريخية بمثل تلك الحساسية، يتردد الغالبية العظمى من علماء الدين، خاصة من المذاهب السنية، في الخوض فيها. 

فهذا كوميك ساخر يتهم «معاوية بن أبي سفيان»، باستغلال قضية استشهاد الخليفة الراشد «عثمان بن عفان»، والأخذ بثأره، للوصول إلى كرسي الخلافة.

ثم وقعة صفّين عام 37 هـ، أبرز معارك الفتنة الكبرى بين «علي بن أبي طالب»، رضي الله عنه، ومعاوية، والتي انتهت عندما شارف جيش معاوية على الهزيمة، فرفعوا المصاحف على أسنة الرماح، هنا يسخر ذلك الكوميك اللاذع من هذا التصرف.

وهذا الكوميك للسخرية من توريث الحكم من معاوية لابنه يزيد.

الخروج على الحاكم وقضايا أخرى

جاء الدور على القضايا الدينية والفكرية، من أهم تلك الأفكار انتقاد مفهوم عدم الخروج على الحاكم مطلقًا، حتى لو كان ظالما متغلِّبًا بالقوة، وهي الفكرة القديمة الحديثة، والتي روَّجها كثيرًا شيوخ السلفيين، والعلماء القريبون من السلطات إبان فورة الربيع العربي.

كوميك يسخر من فكرة إضفاء الشرعية على الحاكم المتغلب.

وسخرية من شيوع التوريث في انتقال السلطة في تاريخ الخلافة الإسلامية ككل.

وهذا غمزٌ ساخر -وغير عميق بالطبع- في الماركسية.

التنويريون 

كان آخر أهداف سهام «الهبدنت الدولية» هم التنويريون، وهم مصطلح شاع إطلاقه على سبيل التندّر ببعض الناشطين العلمانيين، الذين يركزون تحديدًا على انتقاد الظواهر الدينية في المجتمع المصري والعربي، في مقابل الانتقاد الخافت، أو عدم توجيهه بالكلية، في بعض القضايا السياسية الجوهرية، والتي قد يسبب التصدي لها مشكلاتٍ جمَّة لمن يفعل هذا.

على سبيل المثال، هذا الكوميك الذي ينتقد الهوس الظاهر للتنويريين بقضية الحجاب، وتحميلها ما تحتمل وما لا تحتمل من كل أزمات الإنسان العربي والمسلم المعاصر.

وهذا الكوميك الذي يجمع -بشكلٍ لا يخلو من المبالغة قطعًا- العديد من القضايا الشبيهة بالحجاب، والتي يختصها التنويريون بالاهتمام دون القضايا السياسية والعامة، الأكثر جوهرية.

إلى أين يتجه الكوميكس؟

مع تفاقم الانسداد السياسي والإعلامي، وتقلص المساحات المتاحة أمام حرية التعبير، خاصة السياسية والفكرية، من المتوقع أنه كعادة المصريين خاصة، والعرب عامة، ستستمر السخرية في الاستحواذ على فوائض التعبير، والتمدد إلى كل مساحة تفتحها أمامها الصراعات الفكرية والسياسية وحتى الدينية، مستفيدة من حالات الاضطراب الفكري، ومراجعات الذات، ونقد المبادئ، والتي تميَّزت بها السنوات العصيبة الماضية والحالية، نتيجة ما تعرض له الربيع العربي من انتكاساتٍ، ضربت أحلام ومسلَّمات الشباب المصري والعربي في مقتل.

وبما أن الفضاء الأبرز للسخرية حاليًا هو الكوميكس، فمن المنتظر أن يحظى بالمزيد والمزيد من المنتجين، والمعجبين، وأن يهيمن بظلالِه التفكيكية على كل القضايا العميقة والمعقدة. ومن الطبيعي في مثل ذلك المناخ، أن ظواهر «كوميكسية» غريبة كجريدة الهبدنت الدولية، ستتمدد أكثر فأكثر، وقد تصل إلى كل المناطق المحرمة على وسائل التعبير الاعتيادية، وما كان يُعتبَر من مُسلَّمات الفكر، وثوابت الدين.