هل يمكن أن تدفعك وظيفتك إلى الانتحار؟

يظهر الأمر بشكل أكثر وضوحًا في اليابان حيث ظاهرة «الكاروشي» أي الموت إرهاقًا من العمل، والتي يذهب ضحيتها نحو 1000 شخص سنويًا نتيجة الضغط وما تفرضه الشركات من ساعات عمل إضافية تصل إلى 100 ساعة بالشهر.

للوهلة الأولى تبدو الإجابة بنعم على هذا التساؤل أمرًا غير منطقي، فالمعروف أن العمل ربما يتسبب في إحداث ضغط جسدي ونفسي، لكنه لا يرقى إلى الانتحار، بل هناك العديد من حالات الانتحار كان الدافع الرئيس وراءها البطالة، ومع هذا فواقع الحال يشير أن الإجابة بالفعل نعم.

وبالرجوع إلى الواقع، يبدو أن الشركات اليابانية ليست الوحيدة التي دفعت موظفيها إلى الانتحار. فهناك الشركات الفرنسية والأمريكية والتركية وغيرها الكثير، والتي إن لم تفرض ساعات عمل إضافية، إلا أنها ابتكرت طرقًا مختلفة قتلت بها موظفيها.

فرانس تليكوم: التغيير الطريق السهل لقتل الموظفين

إحدى هذه الطرق، ما قامت به شركة «أورانج» للاتصالات الفرنسية والتي عرفت سابقًا بـ فرانس تيليكوم France Telecom، من تغييرات هيكلية عام 2009 تسببت بانتحار  نحو 19 موظفًا، وإنقاذ نحو 12 آخرين من محاولات انتحارية، فضلًا عن إصابة عدد آخر باكتئاب شديد.

كانت هذه الشركة إحدى شركات القطاع العام، حيث يتمتع موظفوها بقدر كبير من الاطمئنان والاستقرار الوظيفي، لكن مع تحولها إلى القطاع الخاص عام 1998، عمدت إلى إحداث تغييرات هيكلية كبيرة، كان أبرزها عام 2009 حيث تم إقالة 22 ألف موظف، وإعادة توزيع 10 آلاف آخرين بين الوظائف والمهام المختلفة بالشركة.

تسببت تلك الإجراءات بحالة من التوتر العام، بات الموظفون على مختلف المستويات يعانون انعدام الأمن الوظيفي، وزاد الأمر سوءًا مراقبة الشركة واحتسابها لكل شيء يقوم به الموظفون: متى يذهبون إلى المرحاض، متى يأكلون، متى يدخنون.

لم تكترث الشركة لأوضاع موظفيها، ومضت في طريقها نحو التغيير لتحقيق أكبر قدر من الكفاءة في العمل. مارست ضغوطًا عدة عليهم إما للاستقالة أو قبول شروط العمل الجديدة، حتى دفعت عددًا منهم إلى الانتحار، فقام موظف في الـ49 من عمره بطعن نفسه بسكين بعد إبلاغه بأنه سيتم نقله إلى منصب أقل في الشركة، وانتحر آخرون تاركين خلفهم رسائل عديدة يتهمون فيها الشركة وقرارات الإدارة بالتسبب في انتحارهم، فكتب أحدهم:

أنا أنتحر بسبب عملي في فرانس تليكوم، إنه السبب الوحيد
أحد موظفي أورانج الفرنسية.

دفعت حالات الانتحار المتزايدة لفتح تحقيق بالقضية، اتهمت محكمة باريس الجنائية الشركة بممارسة بلطجة نفسية (مضايقات أخلاقية) من خلال التغييرات الهيكلية التي أجرتها. قضت بغرامة 3.5 مليون يورو على الشركة، وبالسجن مدة عام وغرامة 15 ألف يورو لثلاثة من كبار مسؤوليها.

فرنسا ليست وحدها: الشركات حول العالم تقتل موظفيها

هزت قضية أورانج الرأي العام الفرنسي، فهي أول محاكمة لشركة بتهمة المضايقات الأخلاقية، وسابقة قانونية في عالم الشركات، لكن واقع الحال يشير إلى أن الشركة الفرنسية ليست الأولى أو الأخيرة. فهناك في الصين، مجموعة فوكسكون تكنولوجي Foxconn Technology التي تنتج قطع غيار آيفون iPhone و آيباد iPad لشركة آبل Apple، والتي شهدت العديد من حالات انتحار الموظفين والعمال كان أبرزها عام 2010، حيث انتحار 14 عاملاً، وتهديد نحو 150 آخرين بالانتحار الجماعي عام 2012 احتجاجًا على الضغط وظروف العمل السيئة بالمصانع، بجانب انخفاض الأجور.

وفي تركيا بلغت حالات الانتحار بين العمال والموظفين نحو 15 حالة عام 2013، وارتفعت تدريجيًا حتى بلغت 89 حالة عام 2017، وفقًا لتقرير مجلس الصحة والسلامة المهنية (İSİG). أما الولايات المتحدة، فتخطت حالات الانتحار في أماكن العمل الـ 270 حالة عام 2013، وارتفعت إلى 291 حالة عام 2016 طبقًا لما أعلنه مكتب إحصاءات العمل الأمريكي.

على هذا المسار، أشارت دراسات عدة إلى ارتفاع حالات الانتحار بسبب العمل في كل من بريطانيا وأستراليا والهند وتايوان وكوريا الجنوبية. وربط الباحثون حالات الانتحار هذه بتدهور عام لظروف العمل، بما في ذلك أعباء العمل التي لا يمكن التحكم فيها وزيادة انعدام الأمن الوظيفي.

الاقتصاد المعولم: لا مكان للأمن الوظيفي

تزايد حالات الانتحار بسبب العمل على المستوى الدولي بهذا الشكل، يشير إلى أن الأمر لم يعد ظاهرة يابانية أو فرنسية فريدة، ولكنه يعكس ظروف العمل في النظام الاقتصادي المعولم الذي يعطي الأرباح الأولوية على كل شيء آخر.

فسابقًا وفرت الوظائف عمومًا مسارًا وظيفيًا واضحًا، وقدرًا كبيرًا من الاستقرار. كانت النقابات العمالية القوية في القطاعات الصناعية الكبرى تعني أن الموظفين يمكنهم التفاوض على حقوقهم وشروط العمل الخاصة بهم. لكن اليوم، فمكان العمل المعولم يتسم بانعدام الأمن الوظيفي، والعمل المكثف، وإعادة التوزيع القسري، والعقود المرنة، فضلًا عن مراقبة العمال والحماية الاجتماعية المحدودة.

وبهذا الصدد، يشير الخبير الاقتصادي غاي ستاندينج إلى أن الموظفين بهذا الوضع يمكن تسميتهم بالطبقة أو الفئة الهشة – البريكاريا «the precariat» أي الفئة الاجتماعية الجديدة في القرن 21 التي تعاني نقص الأمن الوظيفي وحتى الاستقرار الأساسي.

الآن، لم يعد هناك ما يضمن بقاء هذه الفئة لبضع سنوات، أصبحوا يعانون مخاطر انعدام الأمن الوظيفي وتقليص حجم العمل، وهو أمر يرجع إلى الافتقاد إلى لوائح وإجراءات حماية قوية تقيد حرية الشركات في توظيفهم وإقالتهم من جانب، والتغييرات الهيكلية التي تجريها الشركات من جانب آخر.

فوفقًا للأبحاث التي نشرتها «مجلة هازاردز»، فإن ذروة حالات الانتحار بالشركات تأتي في أوقات إعادة الهيكلة، حينما يتم إدخال سياسات إدارية جديدة إما لزيادة أعباء العمل من خلال أهداف الإنتاج المرتفعة أو لخفض تكاليف الشركة عن طريق التخلي عن بعض الموظفين.

أشارت المجلة إلى أنه في ظل عولمة الاقتصاد والمنافسة الشديدة بين الشركات، تجاوزت سرعة التغيير قدرة الموظفين العمال على التغلب عليها، ما تسبب في العديد من العواقب السلبية مثل الاكتئاب، الترهيب، عدم الرضا الوظيفي، انخفاض الأداء، وعدم اليقين بشأن المستقبل، وما يصاحبه من قلق وخوف مستمر من فقدان الوظيفة.

هذا بالضبط ما حدث في شركة الاتصالات الفرنسية (أورانج) حيث كانت حالات الانتحار هي الأعلى بين المهندسين والفنيين في الخمسينيات من العمر الذين أعيد نشرهم قسرًا في مراكز الاتصال. فبعد أن أصبحوا يتمتعون بوضع احترافي بالشركة، وجدوا أنفسهم مضطرين إلى التعلم من جديد، ويخضعون لمراقبة صارمة خلال ساعات العمل، تصل لطلب إذن لاستخدام المرحاض.

دوافع أخرى: لماذا يقتل الموظفون أنفسهم؟

رغم ما تلعبه التغييرات الهيكلية وانعدام الأمن الوظيفي من دور كبير في تسلل مشاعر اليأس إلى الموظفين وإقدامهم على الانتحار، إلا أنها بالطبع ليست العامل الوحيد، فهناك مجموعة أخرى من العوامل يمكن إيجاز أبرزها بعدد من النقاط، أهمها:

1. الضغط المستمر

يبدو هذا واضحًا في اليابان والصين والولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها الكثير من الدول، حيث يجد الموظفون أنفسهم مضطرين للعمل لساعات طويلة من أجل إتمام مهامهم. يتم مراقبتهم رقابة صارمة، وتحديد الحيز المسموح لهم التحرك به. فهناك استراحات محدودة ومحددة للطعام، أو الذهاب إلى دورات المياه. كثيرًا ما يُمنع الموظفون من الجلوس أثناء ساعات العمل، وعادة ما يكون الالتزام بأوقات الدوام أو بالأيام الرسمية أمرًا غير موجود على أرض الواقع.

وسبق لمعهد الحقوق الاقتصادية والإلكترونيات في الصين، أن أصدر دراسة عن العلاقة بين ظروف العمل القاسية والانتحار في قطاع الإلكترونيات، أوضح من خلالها أن الشركات تدفع موظفيها إلى الانتحار بطريقتين: الأولى يتم فيها استخدام مختلف أشكال الإكراه والعقاب لتحقيق الإنتاج والتارجت المطلوب، والثانية يتم خلالها اللجوء إلى الحوافز والترغيب، وأن كلا الطريقتين تؤدي إلى مستويات عالية من التوتر والاكتئاب وتنتهي بالانتحار في حالات عديدة.

2. المضايقات والمناخ العدائي

وهو أمر أكدته دراسة نرويجية صادرة عن المعهد الوطني للصحة المهنية وجامعة بيرجن، إذ أوضحت أن الموظفين الذين يعانون التنمر والمضايقات في أماكن عملهم يكونون أكثر عرضة للتفكير في الانتحار ممن لا يعملون في مناخ عدائي.

فالموظف الذي يُستهدف بالمضايقات بشكل ممنهج، ويتعرض لها لفترة طويلة من الزمن، يشعر بعدم القدرة على تجنبها أو منع هذه المعاملة. وبمرور الوقت وبتعرضه لأشكال أخرى من الضغوط يمكن أن تحدث تغيرات في المخ، حيث تغمره هرمونات التوتر، ما يقلص القدرة على التفكير العقلاني الواضح، وقد يدفعه إلى الانتحار كوسيلة للتخلص من هذه السلوكيات.

3. الركود والضغوط الاقتصادية

تزداد معدلات الانتحار المرتبطة بالعمل خلال فترات الركود الاقتصادي، وهو أمر أكدته دراسة حديثة صادرة عن «المجلة الأمريكية للصحة الوقائية»، حيث وجدت أن الركود العالمي الذي بدأ عام 2007 ارتبط بأكثر من 10 آلاف حالة انتحار في مكان العمل مختلف أنحاء أمريكا الشمالية وأوروبا.

أشار هوب تيسمان ، المؤلف الرئيسي للدراسة، أن حالات الانتحار في مكان العمل بين عامي 2003 و 2007 كانت منخفضة بشكل كبير، لكنها عادت إلى الارتفاع بشكل حاد من عام 2007 إلى عام 2010 مع الأزمة المالية وحالة الركود الاقتصادي، وما نتج عنه من طرد وتسريح العديد من العمال والموظفين الذين لجأوا إلى الانتحار للتخلص من مشكلاتهم المادية والاجتماعية المصاحبة لفقدانهم لوظائفهم.