رغم الحضور القوي الذي تتمتع به الصين في عالمنا الراهن على المستوى الاقتصادي، فإننا في المقابل لا نعلم إلا القليل عن الثقافة والدين والحياة الاجتماعية في الصين.

أحد أبرز الألغاز الثقافية والدينية التي تواجه العالم خارج الصين في هذا الإطار هي الكونفوشيوسية، التي تمثل معضلة شائكة في فهم طبيعتها وهل هي دين أم فلسفة أم أسلوب للحياة؟

للإجابة عن هذا السؤال نحتاج أن نلقي نظرة سريعة أولاً على تاريخ الدين في الصين، ثم نعرج بعد ذلك على سيرة حياة كونفشيوس وأبرز تعاليمه، لنرى في الأخير هل نحن بإزاء مذهب فلسفي أم ديانة مستقلة بحد ذاتها؟


تاريخ الدين في الصين

وفق دراسة نادرة وهامة منشورة في عام 1938 م عن التاريخ الديني في الصين، مر الدين في الصين القديمة بعدة أطوار، في الطور الأول منها كانت العبادة في التاريخ الديني المبكر للصين وفق ما تشير إليه الكتابات الصينية القديم، تتجه إلى السماء التي تم الإشارة إليها بمرادف مكون من جذرين لغويين، أولهما، يعني الذات أو الشخص، وثانيهما، يعني العلوي أو ما فوق. [1]

في هذا الإطار التاريخي كان مرادف الإمبراطور في الصين هو ابن السماء، ولهذا انعكست العلاقة الدينية بين الإله والبشر في العلاقة السياسية بين الحاكم و المحكوم، لتتحول إلى نوع من التقديس والاحترام والتبجيل المبالغ فيه المكرس إلى الأباطرة.

حللت الدراسة بعض الممارسات الدينية المتأخرة في الصين، ونقبت عن جذورها التاريخية، كطقس حرق أغضان الأشجار، حيث أشارت إلى أن أصوله تعود للإمبراطور شان Shun في عام 2255 ق.م، حيث أمر بحرقها تقربًا للإله الذي يظهر أحد اسمائه من خلال النقوش القديمة، بعد تحليل جذورها اللغوية بهذا المعنى: «الواحد الأعلى الذي نحرق الخشب من أجله».

دخلت الديانة المبكرة للصين القديمة بعد ذلك طور معتقدات تعدد الآلهة، حيث سادت مظاهر تقديس وعبادة الأسلاف، وظهرت فلسفات ومعتقدات ومذاهب دينية متعددة بعضها وافد من خارج الصين كالبوذية، وأخرى صينية خالصة كالطاوية الديانة القومية التاريخية لمعظم أبناء قومية الهان التي تشكل أكثر من تسعين في المائة من تعداد الشعب الصيني.

وللطاوية تياران رئيسيان يعكس تباينهما ما ستناوله لاحقًا في قراءتنا للكونفوشيوسية، وهما مدرسة فلسفية، نشأت أثناء الفترة الكلاسيكية لحكم أسرة «تشو» في الصين، والمدرسة الثانية عبارة عن مجموعة من معتقدات الدينية، تطورت بعد خمسمائة سنة من ظهور المدرسة الأولى.

إلا أنه يظل جوهر الطاوية هو فلسفي بامتياز، حيث نشأت الأخيرة من خلال التأملات المنسوبة للفيلسوف الصيني لاو تسي، إحدى الشخصيات الرئيسية في الديانة الطاوية، والذي كان يعتقد أن هذا العالم يتكون بالأساس من خلال الشيء ونقيضه، عبر التحولات التي يفضي إليها التفاعل المتبادل لمختلف تلك الأضداد.


كونفوشيوس والكونفوشيوسية

كونفوشيوس

ولد كونفوشيوس في عام 551 ق.م في إمارة «لو» الصغيرة بولاية شانتونج، وهو ينحدر من أسرة نبيلة تنسب أصولها إلى الإمبراطور هوانج دي[2]، ولكن رغم الجذور الأرستقراطية كنفوشيوس نشأ الأخير بشهادته هو نفسه كشخص «لا مكانه له وفي ظروف متواضعة»، وكان عليه أن يعول نفسه وأن يعمل في أعمال بسيطة هينة الشأن.[3]

في سن الثانية والعشرين قرر كونفوشيوس الاشتغال بالتعليم، واتخذ من بيته مدرسة، يلقي فيها الدروس على مريديه من مختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية والأقاليم البعيدة والقريبة[4]،وقد بلغ عدد الذين تعلموا على يديه ثلاثة آلاف تلميذ من بينهم حوالي 72 مريدًا كان يصفهم كونفوشيوس بأنهم أصحاب مواهب وعقليات كبيرة، وقد شغل الكثير من هؤلاء التلاميذ مراكز قيادية في الدولة، كما كان لهم دور كبير في نشر مذهبه في البلاد حتى صار مذهبًا رسميًا منذ أواخر القرن الثاني قبل الميلاد إلى أوائل القرن العشرين.[5]

وتعد مدرسة كونفوشيوس من أقدم المدارس الفلسفية التي تتألف منها «المدارس المائة» التي تناولها المؤرخ تسو ماشين الملقب بأبي التاريخ الصين، ولذلك تم النظر إلى كونفوشيوس دائمًا باعتباره فيلسوف الصين الأول.[6]

بعد مرور كونفوشيوس بطائفة من التجارب في حياته، وتقلده عدة مناصب إدارية كوزارة العدل ووزارة الأشغال العمومية، نتج عنها شيوع العدل و الأمانة وزيادة رقعة الأرض الزراعية وتحسن إنتاجيتها، عين عام 501 ق.م رئيسًا لوزراء إمارة «لو»، وهو ما مكنه من ترجمة مبادئه عمليًا وبنجاح ساحق، وفي هذا السياق تصفه السجلات الصينية القديمة بلغة عاطفية وجدانية:

لقد استحت الخيانة والفساد أن يطلا برأسيهما واختفيا، وأصبح الوفاء والإخلاص شيمة الرجال، كما أصبح العفاف ودماثة الخلق شيمة النساء، وجاء الأجانب زرافات ووحدانًا من الولايات الأخرى، وأصبح كونفوشيوس معبود الشعب.[7]

تعرف المؤلفات التي تناولت فلسفة كونفوشيوس بالكتب التسعة وهي تنقسم إلى قسمين، قسم يسمى الكتب الخمسة الإنسانية القديمة أو الكلاسيكيات الخمس، أما القسم الثاني، فيسمى الكتب الأربعة أو كتب الفلاسفة.

القسم الأول في هذا الإطار هو مجموعة شروحات وتعليقات على الكتب الخمسة التي ألفها بنفسه وتركها لتلاميذه، وتتكون من:

1. كتاب «الأناشيد» الذي يشرح حقيقة الحياة البشرية، ويصف دوافعها، ويوضح مبادئ الأخلاق الفاضلة.

2. كتاب التاريخ، وهو يشتمل على الوثائق التاريخية الخاصة بالإمبراطورية الصينية وماضي إمارة «لو».

3. كتاب الطقوس، وهو جامع لقواعد السلوك الروحي والطبيعي التي لا بد منها لتقويم الأخلاق واستقرار النظام الاجتماعي.

4. حوليات الربيع الخريف، وهو كتاب للتاريخ يتضمن تسجيلًا موجزًا لأهم ما وقع من أحداث في موطنه «لو» كما يظهر الواجبات التي نهض بها حكماء الصين في ما قبل التاريخ.

5. كتاب التغيرات، وهو كتاب للتنجيم ومعرفة الحوادث المستقبلة، وهو كتاب استثنائي في مسيرة كونفوشيوس الذي حرص ألا يتناول الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) في فلسفته.[8]

أما عن القسم الثاني، فيتكون هذا الأخير من أربعة مؤلفات تدعى بالصينية «سوشو» وهي مؤلفات لم يخطها كونفوشيوس، وإنما دونها تلاميذه من تعاليمه وأضافوا إليها تعليقاتهم، وتعتبر في الواقع المرجع الرئيسي للفلسفة الكونفوشيوسية، وأهم هذه المؤلفات هو كتاب «المنتخبات» أو الأحاديث والمحاورات، ويحتوي هذا الكتاب على عشرين فصلًا تتضمن مجموعة آراء كونفوشيوس حول القضايا المختلفة.[9]

في ختام حياته اهتم كونفوشيوس بوضع نظام تربوي جديد وبكتابه تاريخ الصينيين، ولم يزعم الرجل وقتئذ أنه ابتكر شيئًا جديدًا، بل سمى نفسه «ناقل الأفكار وليس صانعها» وقد سره في ذلك الوقت أن غرائزه صارت تتفق مع عقله، وفي ذلك يقول :

بعد وفاته في نهاية عام 479 ق.م دفن كونفوشيوس بمقاطعة تشوفو في إمارة «لو» وظل تلاميذه في حداد مدة ثلاث سنوات يبكون كما يبكي الأبناء آباءهم، وبعد مرور هذه المدة غادروا أكواخهم التي أقاموها حول قبره الذي لا يزال يزار حتى الآن.[11]

شيدت المعابد بعد ذلك على شرف كونفوشيوس في مختلف أنحاء الصين، وكانت تلك المعابد بمثابة مبان رسمية للاحتفال بالمراسم السنوية كيوم ذكرى ميلاد كونفوشيوس وغيرها، وبسبب انتشار معتقدات وممارسات عبادة الأسلاف في الصين تحول ذلك التبجيل لكونفوشيوس إلى ما يشبه الديانة.


كونفوشيوس: نبي أم فيلسوف؟

لقد كنت في الخامسة عشر من عمري مكبًا على العلم، وفي الثلاثين وقفت ثابتًا لا أتزعزع، وفي سن الأربعين زالت عني شكوكي، وفي الخمسين من عمري عرفت أوامر السماء، وفي الستين كانت أذني عضوًا طيعًا لتلك الحقيقة، وفي السبعين كان في وسعي أن أطيع ما يهواه قلبي دون أن يؤدي بي ذلك إلى تنكب طريق الصواب والعدل.[10]

مع خلو فلسفة كونفوشيوس تقريبًا من التطرق إلى مسائل الميتافيزيقا الكبرى كبداية الخلق والآخرة وعالم الغيب، يمكننا أن نرى بوضوح أن الكونفوشيوسية كانت بالأساس ومنذ البداية هي مدرسة فلسفية في الأخلاق والاجتماع والسياسة قبل أي شيء آخر، إلا أنها تم التعامل معها مع مرور الوقت كمذهب ديني، تمامًا كما جرى مع الطاوية التي نشأت هي الأخرى كاتجاه فلسفي قبل أن تتحول دين.

على هذا النحو يمكننا أيضًا قراءة العديد من التحولات الأخرى في الظاهرة الدينية في الشرق الأقصى، حيث تمثل على سبيل المثال البوذية -الخالية من الإيمان الحقيقي بأي إله – في جوهرها مذهبًا فلسفيًا عدميًا يحث معتنقيه على تجاوز رغبات العالم الدنيوي وصولًا في الأخير إلى تقبل حالة السلام المطلق «النيرفانا» وهي هاوية الموت والعدم الكامل، ليتحول بهذا الإلحاد والعدمية عبر البوذية إلى تجربة دينية عميقة.

وهنا تظهر المفارقة بين الشرق والغرب، حيث تتحول الفلسفات في الشرق إلى أديان ومذاهب صوفية، بما في ذلك الإلحاد نفسه، بينما يعلمن الغرب مختلف الظواهر الثقافية والاجتماعية والسياسية، وهو ما لم تسلم منه هناك حتى مظاهر الدين ذاته.

المراجع
  1. Williams. R., "Early Chinese Monotheism", a paper presented before the Kelvin Institute, Toronto, 1938.
  2. صلاح بسيوني رسلان، كونفوشيوس: رائد الفكر الإنساني، ص 62
  3. هـ.ج.كريل، الفكر الصيني من كنفوشيوس إلى ماوتسي تونج، ترجمة عبد الحميد سليم، الهيئة العامة لتاليف والنشر، 1971، ص 44
  4. كونفوشيوس: رائد الفكر الإنساني ، مرجع سابق ص 66
  5. لمصدر السابق 68
  6. المصدر السابق 60
  7. المصدر السابق ص 70 ، 71
  8. المصدر السابق 80، 81
  9. المصدر السابق 81
  10. المصدر السابق 75
  11. المصدر السابق، نفس الصفحة