احتل الجدل بين الدين والعقل مركز البحث المعرفي في التراث الإسلامي منذ التقى المجال الإسلامي بالميراث الفلسفي اليوناني والهلنستي؛ وهو الجدل الذي تجدد في عصر النهضة العربية (خواتيم القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين) بعد أن التقى المجال الإسلامي بالتنوير الغربي. وقد أدى تجدد الجدل إلى استدعاء التراث الإسلامي الكبير في البحث عن حل لهذا الجدل أو في طريق لتجاوزه، مما أعطى لهذا التراث مساحة أكبر من تلك المتوقعة له في حاضرنا الثقافي العربي والإسلامي.


معركة العقل والنقل في التراث الإسلامي

كانت محاولة الفارابي و ابن سينا من المحاولات المبكرة في التراث الإسلامي لحل معضلة التعارض بين المقولات الدينية وبين النتائج الفلسفية التي ورثوها وآمنوا بها عن الأساتذة اليونانيين والهلنستيين. وقد رفض ابن سينا الاعتماد على استراتيجية التأويل، أي صرف النص الديني إلى معنى محتمل وإن كان ليس ظاهرا ليوافق المقولة الفلسفية، وهي الإستراتيجية التي اعتمد عليها المتكلمون المعتزلة الذين كانوا أول من واجه تلك المعضلة؛ لأنه رأى أن تلك الإستراتيجية غير ناجعة بسبب عدم احتمال النص الديني لتلك المعاني الموافقة للمقولات الفلسفية. وأرجع ابن سينا ذلك الاختلاف بين النص الديني وبين المقولة الفلسفية (العقلانية) إلى كون الأول قد أريد به إقناع الجماهير وتقريب الحقائق الدينية إليهم لا طرح الحقائق التي ينبغي أن يسلك لها طريق آخر هو طريق البرهان والبحث الفلسفي.

تصدى أبو حامد الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة» للمواقف الفلسفية التي رآها مناهضة للحقائق الدينية، وعدها في عشرين مسألة، اشتهر منها ثلاثة رأى الغزالي أن الفلاسفة يكفرون بتبنيهم لها؛ وهي: القول بقدم العالم (أن العالم أزلي مواز لوجود الله لم يحدث بعد أن لم يكن) والقول بعلم الله بالكليات دون الجزئيات (أي أن الله لا يعلم الأحداث في تجددها) والقول بحشر الأرواح دون الأجساد. أعاد الغزالي طرح استراتيجية التأويل كما يظهر في فتواه الشهيرة لتلميذه أبو بكر بن العربي عن التعارض بين بعض النصوص الدينية وبين الحقائق العقلية والتي عرفت بـ «قانون التأويل».

لم يكن الغزالي ممثلا تقليديا للأشاعرة كما تم تناوله في كثير من الدراسات، بل كان شديد الحيرة كما يظهر في كتابه «المنقذ من الضلال» الذي حكى فيه أزمته المعرفية، كما كان لتبنيه التفسير الفلسفي للتعارض بين النص الديني والحقائق الفلسفية (العقلانية) باعتباره نابعا من استهداف النص الديني لإقناع الجماهير البسيطة لا لطرح الحقائق، أثر كبير في توجهه إلى تبني آراء علنية على خلاف قناعاته الحقيقية كما يظهر من عناوين بعض أعماله كـ «إلجام العوام عن علم الكلام» و«المضنون به على غير أهله» وكما يصرح بنفسه في «جواهر القرآن».

وعلى الرغم من أن الموقف الأشعري قد سيطر على العالم الإسلامي منذ ذلك الانتصار الغزالي المدعوم من السلطة السنية متمثلة في نظام الملك وزير السلاجقة في مقابل الشيعة الإسماعيلية الذين تبنوا الفلسفة ووظفوها في خدمة السرديات الشيعية؛ إلا أن الفيلسوف والفقيه ابن رشد الأندلسي حاول إعادة الفلسفة إلى الساحة المعرفية الإسلامية من خلال التصدي للغزالي في كتابه «تهافت التهافت» حيث رأى أن تلك المسائل التي انتقدها الغزالي نبعت من سوء فهم الغزالي المترتب على أخطاء ابن سينا في طرح المقولات الفلسفية.

وعلى الرغم من استمرار الرأي القائل بأن النص الديني لا يطرح الحقيقة وإنما تشبيهات لإقناع وتوجيه الجماهير عند ابن رشد، إلا أنه أعاد في كتابه الذي خصصه للبحث في مسألة الدين والعقل: «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» طرح استراتيجية التأويل مبررا ذلك بأن النص الديني بمصدره الإلهي لا بد أن يكون محتملا للتأويل ليوافق الحقائق العقلانية.

كذلك وجدت الفلسفة المشائية الأولى (الفارابي وابن سينا) بابا خلفيا حافظت عبره على حضورها وحضور استراتيجية التخييل (اعتبار النص الديني عبارة عن تشبيهات غير مطابقة للحقائق الوجودية) التي تبنتها في المجال الإسلامي، تمثل في تأملات الصوفية الفلسفية وعلى رأسها الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي.

عاش الحنابلة في معزل عن ذلك الجدل، وفقا لـ استراتيجية التفويض التي تبنوها، حيث رأوا أن إجراء النصوص على ظاهرها دون إطالة البحث في معانيها وفي مدى موافقتها للعقل هو الطريق القويم الموافق لمنهج السلف. لكن هذا الموقف لم يرق لـ ابن تيمية الفقيه الحنبلي الذي وجهته نزعته الفلسفية إلى طرح استراتيجية التفويض واستراتيجية التأويل كذلك محاولا البحث عن حل حقيقي يثبت نوعا من الهوية أو التطابق بين المقولات الدينية والمقولات الفلسفية؛ وهو ما دفعه إلى نقد التأويلات الأشعرية ونقد المواقف الفلسفية كذلك، وتبرير الحقائق الدينية وعدم معارضتها للنظر العقلي، ومحاولة اصطناع منهج بحث عقلاني جديد يتلاشى عبره النتائج الفلسفية الكلاسيكية وهو المشروع الذي تجلى في عنوان عمله الضخم «درء تعارض العقل والنقل».


استدعاء التراث في الثقافة العربية المعاصرة

وفي إطار برامج النهضة العربية والإسلامية المتنوعة، تم استدعاء هؤلاء الأعلام وأجوبتهم سعيا لحل تلك المعضلة. مثّل استدعاء فلسفة ابن رشد في محاولة فرح أنطون: “فلسفة ابن رشد” مبادرة استمر على إثرها توظيف ابن رشد في خدمة العقلانية العلمانية كما ظهر في أعمال أستاذ الفلسفة المصري عاطف عراقي. ولم يكن لذلك غريبا أن يواجه محمد عبده فرح أنطون في مناظرة مطولة، كما واجه أستاذه الأفغاني إرنست رينان الذي كان أول من طرح ابن رشد باعتباره ممثلا لعقلانية عصر النهضة الأوروبية. كما حاول الفيلسوف المغربي البارز محمد عابد الجابري بحسب تحليل الفيلسوف الموريتاني السيد ولد أباه، تطبيق استراتيجية ابن رشد التأويلية في مغامرته التفسيرية “فهم القرآن الحكيم”. لكن هذا التوظيف يتعرض لانتقادات تنبع من أن شخصية ابن رشد ليست ذات بعد فلسفي أحادي يتنكر للدين على غرار العلمانية المعاصرة؛ بل كان ابن رشد مع ذلك فقيها يؤمن بمركزية الشريعة.

أما الغزالي فظل بنزعته التوفيقية الصوفية ووسطيته التأويلية حاضرا في الأوساط الدينية التقليدية، ويبدو الأستاذ الإمام محمد عبده في أكثر من جانب من جوانب شخصيته ومشروعه شبيها بأبي حامد الغزالي. كما لم تعدم استراتيجية التخييل والموقف الفلسفي والصوفي الفلسفي من يعيد بناءه وتبنيه مع توظيف مناهج القراءة الفلسفية المعاصرة، كما في محاولات محمد أركون و نصر حامد أبو زيد الذي أعاد قراءة منهج ابن عربي في التفسير.

أما ابن تيمية فعلى الرغم من أنه عاش في الأوساط السلفية التي انتعشت حديثا، إلا أنها بدت أقرب إلى استراتيجية التفويض التي سبق وأن رفضها وانتقدها ابن تيمية. لكن الساحة الفلسفية العربية لم تعدم محاولة لإعادة قراءة ابن تيمية فلسفيا فكان مشروع الفيلسوف التونسي أبي يعرب المرزوقي الذي قدم ابن تيمية باعتباره مع ابن خلدون ذروة التجربة الفلسفية العربية والإسلامية وممثلي النهضة العربية المجهضة.

يبقى سؤال الدين والعقل حيا رغما عنا أيا كان ما سنطلقه عليه: جدل الدين والحداثة أو الدين والفلسفة، أو الإله والإنسان. والسؤال اليوم هو عما إذا كان هذا الجدل ينبغي حقا الوصول فيه إلى حل حاسم أم أنه ذو طابع أبدي؛ ولكن حتى إذا كان هذا الجدل ذا طابع أبدي فهل ذلك يعني أن علينا تجاوزه حقا باعتباره ليس من أولويات مشكلاتنا المعرفية بأبعادها الحضارية اليوم أم أن هذا التجاوز سيكون خداعا للذات وفرارا من الاختبار الصعب؟!